بين حرية الاعتقاد وحرية التدين


محمد عبد العظيم العجمي | مصر

هل يمكن أن يتحول التدين "في الإسلام" إلى مجرد علاقة بين العبد وربه؟ دون أن يتعدى ذلك إلى المظاهر الاجتماعية بين (الفرد والأسرة والعمل والجوار والتجارة والزراعة والصناعة.. وغيرها)، هل يمكن أن يكون هذا من المضمون العقدي للدين الإسلامي؟ ، أو جزء من التشريع الديني له؟، أو صورة من الصور التي يتمثلها الواقع الاجتماعي الإسلامي أومن صميم الدعوة التي يدعو إليها ؟...
التحولات الفكرية والسلوك والعادات الاجتماعية  تسري عليها حتمية التغيير الزمنية والسنن الكونية، كما تسري على غيرها من المظاهر والجواهر والمواد.. وهذه التحولات تنبع وتتبع حتما من الموروث الديني والثقافي والفكري للمجتمع، أي هي خليط من العادات الاجتماعية المتواضع عليها، والأوامر والنواهي الشرعية، والمكتسبات من تمازج الأجناس والمجتمعات بعضها ببعض، فيأخذ العنصر البشري من قرينه، ويتأثر به ويؤثر فيه .. وتلك فطرة إنسانية أودعت في الإنسان "الاكتساب والتعلم من الغير".
ولنفهم الإجابة على السؤال السابق ، نقوم أولا بتعريف "الدين" ، فالدين عموما هو "العقيدة والشريعة "، "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ "(13)الشورى، "لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً" [المائدة: 48]، قال الفخر الرازي في تفسيره: "فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُمُورَ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ، وَهِيَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْإِيمَانُ يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْآخِرَةِ وَالسَّعْيَ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالِاحْتِرَازَ عَنْ رَذَائِلِ الْأَحْوَالِ، وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَلا تَتَفَرَّقُوا أَيْ لَا تَتَفَرَّقُوا بِالْآلِهَةِ الْكَثِيرَةِ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُفَ: 39]".
وإذا كان الدين هو الشرع الذي يجمع ما بين صحيح الاعتقاد من الإيمان بالله الواحد، وبين الأوامر والمناهي (افعل ولا تفعل) التي يمليها على من شاء أن يدخل بعقله وقلبه تحت مظلته الشرعية، وأن يشهد شهادة التوحيد، ويقر لله بالسمع والطاعة,, فإذا حدث فعليه أن يتتبع مسار الأمر والنهي لهذا الإله الذي رضي به ربا، والذي أرسل به رسوله ليبين للناس ما نزل إليهم.. وعليه فإنه يجب أن يخرج من هوى النفس إلى هوى الشرع "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" ، وعليه كذلك أن يعلم أن كل سلوك أو عادة أو موروث جاء الشرع  بما ينقضه ويقيم مقامه أمرا آخر فليس له إلا أن يقول "سمعنا وأطعنا".
المتأمل للواقع الاجتماعي الديني والدعوي يلاحظ لكل ذي عقل مدقق مفند، أن ثمة تحول في المفهوم الديني الشرعي السلوكي، هذا التحول الذي ينزاح تدريجيا إلى صورة خصوصية الشرع وفرديته، واستلاله تدريجيا من المظهر الاجتماعي ، والترسيخ لهذه الخصوصية التي تدعي أن الدين "علاقة بين العبد وربه".
وإذا كانت هذه العبارة لا حرج عليها نسبيا، إلا أنها مقتضبة أو مختزلة ومنتزعة من الإطار العام للشرع الذي يحقق هذه العلاقة التكاملية التي تظلل جميع المظاهر الاجتماعية، بل والسياسية والاقتصادية وسائرالمعاملاتية وتحكمها ، بين العبد وربه وبين الأفراد والدول والمجتمعات، وإن الترسيخ لهذا الاختزال هو صور من صور العلمانية والفكر البروتستانتي الذين برزا في العصور الوسطى، ثورة على السلطة الدينية ـــ غير الموجودة أصلا في الإسلام ـــ إلا لله ولشريعته، "إن الحكم إلا لله"، ولا وجه هنا للشبه بين الممارسة الإسلامية لهذه السلطة والممارسة الكهنوتية في السابق، وبالتالي فالقياس والدعوة إليه باطلة حق البطلان.
وانفراد بعض مرضى النفوس والعقول بالتمرد على بعض السلوكيات والمظاهر الإسلامية مثل (الحجاب والنقاب ، والتربية السلوكية الدينية، وإعلاء الأذان، وإقامة الشعائر العلنية مثل الحج والعيدين، وكذلك الموروث الفقهي والفكري والأخلاقي للأمة، ومعهم معاونيهم من الإعلاميين الذين يروجون لمثل هذي الدعاوى الباطلة، والاستعاضة عنها بالحرية الأخلاقية المتحللة والمتحررة من مظهرالدين، وادعاء أن الدين أمر نفسي قلبي، وأن الإيمان اعتقاد لا يتعد حيز القلب إلى المظهر لسلخ المجتمع عن مظهره السلوكي المستمسك، وليحل محلها مظاهر الحرية الأخلاقية المنفلتة الواردة من شذاذ الآفاق ودعاة الإلحاد.. فماذا يضير هؤلاء من حجاب أو سنة أو لحية أو مظهر فردي أو اجتماعي أو شعيرة تقام وتعلن، وهي إن لم تكن دينا فهي من مظاهر الحرية الدينية التي رسخت لها الدساتير الحديثة.. لقد رسخ الغرب رغم سوء موروثه الفكري لمفهوم الحرية الاجتماعية والفردية وكفلها في دساتيره ودعا العالم الغير متحضر للنهوض للعمل بها وإقرارها كما أقروها، فإذا ظهرت الحرية في انفلات خلقي أو ديني هلل لها وبرر، أما إذا كانت في الاعتصام بحبل الله والاستمساك بشرعه عدت من التطرف والتشدد والتنطع والتكلف والمظهر المرفوض، كما يردد ببغاوات الإعلام ودعاة الثقافة.
بعض الدعاة إلى الله (عليمي اللسان)، يؤكدون للعوام أن الأخذ في الدين برفق مطلوب، وأن التنطع لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولا يعلنون حدود هذا التنطع ولا التشدد، وبالتالي يعمد العامة المتثبطون والمترفون إلى اختزال الأمر في زيارة زاوية المسجد في كل جمعة وتيمم النذر اليسير من خبيث أموالهم ينفقوه، وأداء العمرة والصوم إن استطاعوا، ويغيب عن هؤلاء بقدر ما غيبهم دعاة التسطيح والتبسيط، يغيب عنهم أن لكل أمر شرعي مقصد حياتي فيما يسمى ب"المقاصد" الشرعية"، و"المصالح المرسلة" أو المردود الاجتماعي للعبادة، وأن غياب الحكمة من الحكم الشرعي، أو استفراغ العمل من مضمونه هو تحويل للحكم عن غرضه، فالمقاصد الشرعية علم تكلم فيه كثير من أهل العلم مستنبطين من فهم الآيات والأحاديث ما يؤكد ذلك "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "}(183) البقرة{، "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ"} (45)العنكبوت{، "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، " سنن البيهقي ، " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ "مسند الإمام أحمد، "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» صحيح مسلم وغيره.
ويعرِّف الشيخ: ابن عاشور المقاصدَ العامَّة للشريعةِ بقولِه: «مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختصّ ملاحظتُها بالكونِ فِي نوعٍ خاصٍّ مِن أحكامِ الشريعةِ فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها " مقاصد الشريعة (الطاهر بن عاشور).
ومن المعلوم أن الشريعة قد أحاطت حكما بكل الأصول العامة للحياة الفردية والجماعية ؛ بداية من تناول السلوك الفردي إلى السلوك الاجتماعي: الزواج والطلاق والبيع والشراء والجوار، والعلاقات الدولية لا يخلو أيا من ذلك من حكم عام، ثم تولى العلماء تفصيل ذلك كله حسب ما يستجد من حدث، وما سكت الشرع عنه فمن الأمور المباحة "إن الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدود فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" رواه الدارقطني وغيره.
هذا الاستعداء الضمني والعلني على مظاهر السلوك الديني، والدعوة إلى تبني بعض القوانين الوضعية باعتبارها نوع من الجهد البشري الذي اهتدي إليه بعد طول التجربة والصراع، وإطلاق الحرية الفردية في التملص من أداء الشعائر والانصياع للأوامر الشرعية، وإغفال دور المجتمع في الإصلاح الذاتي لسلوكياته ونبذ وإقلاء المثبطين والمرجفين وأصحاب الدعاوى الباطلة، وإفساح القنوات الإعلامية لدعاة الإلحاد والإفساد، والتضييق على الإعلام الدعوي الذي يبين للناس الخبيث من الطيب، ويعلي هذه العلاقة الشمولية لمقاصد الشريعة الدنيوية والأخروية، وما فيه صلاح البلاد والعباد، وما يحفظ استمرار العلاقات بين الناس والتكافل والتكامل والتعاون "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ "(2) المائدة.
إن حرية الاعتقاد التي كفلها الشارع الحكيم لكل نفس "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (256) البقرة، لا تعني بحال من الأحوال التخلي تحت مظلة الدين عن تعاليمه، وهي سنة معلومة لكل أصحاب الأديان السماوية، حتى المتعبدين لغير الله فهم ملتزمون بتلك النصوص والطقوس التي فرضوها على أنفسهم.. فكيف يسمح لأدعياء الإسلام إعلان التحرر وازدراء الحجاب في الميادين العامة ، ومحاداة الله وشريعته.. " أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ" (63) التوبة.

 

تعليق عبر الفيس بوك