المسؤول الذي لم يسرق

إبراهيم الهادي

على الشَّط، وُلِد من رَحِم الحَياة مسارٌ يتَرَاءى ضياؤه من الأفق البَعيد، لكنَّه ما لبث أنْ توشَّح فضاؤه الواسِع بحزنٍ عَمِيق، فآوَى إلى بُؤس صِرَاعات الأقنِعة الزَّائفة في سِباقٍ مَحموم.. سباقٌ محموم على ثَرَوات ضائعة، خلَّفتها لعنة العابثين بأموال الوطن، لعنة طالت تأثيراتها بَنِي الإنسان -بريئًا كان أو غير- كَهل اغتُصِب مالُه جَبرًا فبَكى، وطفلةٌ من أقصى المدينة اعتصرَ قلبَها الألم، وأخرَى عذراء اختلطَ نحيبُها بأنينها.. الشرُّ هُنا بسمومِه يُصيب ما حوله، ولولا ذرَّات الخير المنتشرة في أصقاع الكون الواسع لسُحِقت الأرض بمَن فيها.

إنَّه السيناريو الذي تبثُّه الحياة بعد كلِّ سرقةٍ للمال عام مُنذ زمن طويل، وهو اختصارٌ لواقعٍ يقترفه الإنسان بطمع دون اكتراث بما دونه قوة، أو التِّيه في عالم مُظلم لا يُرَى فيه الجَشِع سوى بَطنِه ذات التُّخمة، يتبدَّى له طريقٌ وحيدٌ لا بصيصَ فيه سوى ما يراه مُمكنًا ليمتلكه بحِيلة مِلؤها الخُبث، أو حتَّى بنَحر من حوله، كلُّ ما يهم هو مَلء وعائه، أما ما يترتب عليه من مسؤوليات فهي في خبر كان، ولتكُن في طيِّ النسيان، ومع نزعة النفس السيئة تتلاشى الأحاسيس الوطنية والإنسانية، وعند غياب الضَّمير تضيع المؤسسة أو الدائرة التي أوكلتْ إليه قيادتها، ورغم أن التاريخ يوضح أن السراديب التي جرت فيها أنهارُ الأموات سلفًا وحتى حاضرا، خلفت آلامًا بغيضة وجِرَاحًا تتدفَّق حزنا، حتى وصل أنينها إلى عتبات السراب.

الحياة دومًا تكتب على صفحاتها أنَّ الإنسانَ الذي قضى عمره يجرف من خزائن حقوق الأجيال المتلاحقة ساعته ستحين يومًا، وعندما يرحل، فإن لحظته تطوى معها صحائفه المظلمة، ثم يُلف بكفنٍ رخيصٍ تبرَّع به أحد الفقراء من الذين اغتَصَب مالهم، فيُوضَع في تابوت ليس به إلا وحشة الظَلام، بينما تبقى شروره مُمتدة لأجيال تُرافقها دعوات المنكوبين، فيضيق به التابوت عند كلِّ دعوة.

إنَّ المسؤولَ الذي لم يَسرِق لم يطُرق ذهنه الطَّمع المقيت، ولم تُوسِّوس له نفسه بالاستيلاء على حقوق الغير، ولم تعمِ حواسه السِّت سحابةٌ سوداء فيخُون وطنه، إنَّ حاسة الإدراك لديه عالية، ومُعزَّزة بثقافة رفيعة؛ فقد أقتنع بأن وظيفته هي تكليفٌ ربانيٌّ قبل أن تكون تكليفًا بشريًّا أو حكوميًّا؛ فخدمة بني البشر وغيرهم من كائنات، هي مكافأة ليكسب من خلالها الثواب، وليجد نفسه في حضن جنة عرضها الأرض والسموات، فينعم براحة بال وسمو في الاطمئنان، إنها نِتاج ما قدمه من خدمات جليلة في بقعته التي تنضوي تحت مسؤوليته؛ فهي أغلى من أرض مساحتها آلاف الأمتار أو مزارع أشجارها لا تحصى، أو ناطحات سحاب في هذا هذا الكوكب الصغير؛ فراحة البال ودعاء الناس له بالخير أرقى ما يتمتع به، فمأكله وملبسه -على كل حال- هو نفسه الذي يرتديه المسؤول الذي سرق، لكنه حلال، هذا المسئول -الذي لم يسرق- أدرك جيدا أن مدة حياته لا تتجاوز الجدول الزمني كغيره من بني الإنسان، وأنَّ الخير ورضا ربه هو السبيل الوحيد لاعتناق الأرض الخضراء، فقد فهم أن عمره محدود، وأن الأيام تطوى سِراعا، وأنَّ نهاية دكتاتوريته تأتي بخبر معلن أو غير معلن حسب سلمه الوظيفي، أما روحه فتفيض في أي لحظة -شاء ذلك أم أبى- فيتلاشى حينها كلَّ ما حاز وسَرق. أمَّا جسده فينصهر حتما تحت التراب؛ لأنه عاش ليموت.