فلاة


لميس الزين | سوريا

كانت الأستاذة غزيّة مسؤولة المخبَر دقيقةَ الملامح، سمرتُها لم تحل دونَ صفاء بشرتِها والتي شكلت مع شعرها الأسود الطويل وقامتها الممشوقة جمالاً رصيناً لم يكن أبرزَ ما ميَّزها، فوجهُها يكادُ المرءُ يحسبُه خالياً من التعابير، جمودٌ يقفُ حارساً يحولُ دونَ أن يتجرَّأ أحدٌ لدعوتها للمُشارَكة في موائد الإفطار والقهوة العربية والحلويات التي كانَت تحفلُ بها غرفة المعلّمات، لتقضيَ الفسحةَ وحيدةً في غرفة المخبَر. فلا نكادُ نراها إلاّ في الاجتماعات.
 أهو الغرور أم طبع الصحارى؟. أم تُراه حزن أطالَ البقاء حتَّى تحجَّر. تلك الأفكار راودتني على مدى عامٍ دراسيّ كامل إلى أن كانَت إحدى نوباتي في المناوبة التي تحتّم على معلمتَين البقاءَ حتى خروجِ آخر طالبةٍ.
 لم يكن قد تبقَّى سوى بضعِ طالباتٍ عندَما عبرَت غزيّة. ألقت سلاما بالكاد سُمع من دون أن تنظرَ لوجهِ إحدانا وخرجَت. فتعمدتُ التعليقَ لأستفزَّ زميلَتي علّها تبوحُ بشيء عنها. قلت "حسنٌ أنَّها سلَّمت". لكنَّها اكتفَت بـ "كان الله في عونها ". فكانَ لابدَّ من طرحٍ أكثرَ مباشرةً: "هل هي متزوجة ؟" فأجابَت: "كانَت". قلتُ في نفسي لعلَّها إحدى قصص الطّلاق وخيانات الأزواج التي لا تنتهي، فكأنّها قرأَتِ الأفكارَ التي تدورُ في رأسي أو لمحَت الفضولَ الذي لففتُه بعباءَة قصيرة فأبت ساقاه إلا ظهوراً. قالت:
" الأستاذة غزيّة، كانت متزوجة من ابن عمّها، وكانت سعيدةً معه، تعيشُ حياةً مُستقرَّة كثيراتٌ يغبطنَها عليها. رزِقَت منه بثلاثة أطفالٍ آيةٍ في الذّكاء والجمال. كانَ يعشقُ الصَّيد ويخرجُ دائما للبرّ - والبرُّ كلمة متداولة في الخليج تطلَق على الصحارى التي يقصدُها الناس للنزهات والصّيد-لمُمارسة ذلك الشغف ويعودُ أحياناً بأرانبَ وحيواناتٍ بريَّة تولم عليها للأهل والأقارب. كانَ يصطحبُ ابنَه الأكبر أحياناً، لكنّه في ذلك اليوم أرادَها أن تتفرَّغ لنفسها، فاقترحَ اصطحابَهم جميعاً مسوِّغاً بأنَّ الشَّمسَ ستكونُ مفيدةً لعظام الصّغير.
-    كم كانَ عمرُه؟
أجابَت وقد اكتسَت نظرتُها مسحةَ حزنٍ عميقٍ وكأنَّها سرَت إلى ملامحها بعدوى الحزن الذي يسكنُ صاحبةَ القصة:
-     تركي سنتان، نوف خمس سنوات، وفيصل عشر.
 في تلك اللحظة انطلقَ مكبّر الصّوت الخاصًّ بالحارس مناديا على الطالبة ما قبلَ الأخيرة، فخشيتُ أن نخرجَ قبلَ أن أعرفَ تتمَّة القصَّة، فاستعجلتُها "ثم ما الذي حصل ؟". قالت:
-     انطلقَ بهم بسيارته البيك آب فجراً، ساعتان ونصف تقريباً وصولاً إلى بادية النفود وما إن توقَّفَ حتى عرضَ له غزالٌ بعيد، فأسرعَ بسحب بندقيَّته الآلية من تحت كرسي السائق، لكنَّ الرصاصات كانَت أسرعَ، فانطلقت إلى صدره وبطنه. بكى الصغير وصرخت أختُه، أمَّا المسكينُ فيصل؛ فأسقط في يده، شعرَ أنَّه الآنَ المسؤولُ الوحيدُ، وعليه أن يتصرَّفَ كرجلٍ كما كان يطلبُ منه أبوه. نزعَ الشماغ من على رأس أبيه ووضعَه على مكانِ النَّزف. تلفتَ حوله لطلبِ مساعدةٍ لم يرَ إلا الرّمال. قال لأختِه أن تضغطَ مكانَ النَّزف ريثَما يبحثُ عن مساعدةٍ، تعلَّقَ به أخوه الذي أخذَ يبكي بشدَّة، فحملَه ومشى على غير هدى في صحراء لا نقاط علّامَ تميّزُها سوى سماءٍ تعلوها، وشمسٍ حارقة تلسعُ الرّمال بسياطها.
كنتُ أراقبُ تقاطُرَ الكلمات المُرَّة من فم محدِّثتي، وأنا أتخيَّلُ الشمسَ وقد ارتفعَت، قطرات العرق تتصبَّب من الجبهة الصّغيرة بالتناوبِ مع دموعٍ يمسحُها بكتفِ أخيه الصغير الذي يحضنُه وينوءُ بحملِه وببكائِه الذي يرفضُ التوقُّف. أيُّ حيرةٍ وأيُّ وجعٍ ذلك الذي ينقضُّ على طفولة بريئة فيغتالُ شعوراً بالأمان لن تعيدَه إلى الوجود كلّ مُحسّناتِ العيش التالية.
"ثمَّ ما الذي حصل؟" تمتمتُ. لكن نداء الحارس على الطالبة الأخيرة قاطعَها. فشرعَت بارتداءِ عباءَتها، وهي تكمِل:
-     كانت الشمسُ قد توسَّطت كبدَ السماء وزفرت جهنماً حينَ وجدَ سيارةً. حكى للرجل الذي ذهلَ لسماعه ما حصلَ وصعدَ معَه للعودةٍ إلى بقعة الحادث .. وهنا كانت الطامة. لا سبيل لمعرفة مكان البيك آب. ساعاتٍ والسيارةُ تدورُ في فلكِ رمالٍ ممتدَّة بدَت وكأنَّها قد تآمرَت على إخفاءِ جرمٍ. حينَ وصلوا قبيل الغروب كانَت المسكينة الصغيرة مازالَت تضغطُ على جثةٍ فقدَت الحياةَ منذ الصباح.
 أربع سنواتٍ مضى على الحادثِ ومازالَ الحادثُ حاضراً في وجوهِ الأولاد التي فارقَتها ضحكةُ البراءة، وفي انطوائيّة جعلَت حتى حملَهم على الذَّهاب إلى المدرسة مُعضِلة يوميّة. ولك أن تتخيّلي معاناةَ الأمّ التي فقدَت الزَّوج والمُعيلَ ووجدَت نفسَها أمامَ تلك المعاناة.
خرجنا من المدرسة، وعشراتُ المشاهد الصحراويّة تملؤني، والكثير من التفاصيل تحتلُّني. أمَّا مشهدُ ذلك الطفلِ الذي يحملُ طفلاً ضائعين وسطَ صحراءَ لا ترحمُ فما ينفكُّ يبزغُ كلّما ذُكِرَت الصّحارى. أتساءلُ أحياناً ترى أيَّ رجلٍ أصبح،. فأخالُه ما زالَ عالقاً هناكَ، وما تزال غزيّة تحاولُ انتشالَه.

 

تعليق عبر الفيس بوك