أشرف قاسم.. قَمَرٌ.. عَلَيْهِ تَآمَرَتِ النُّجُومُ!!


البيومي محمد عوض | ناقد من مصر

     في رحلتنا الكادحةِ العذبةِ مع الشعر والشعراء، كثيراً جداً ما نمسكُ بديوانٍ من الدواوين، نَفِرُّهُ، أو نتصفحه،  ببطءٍ حيناً، وحيناً بشكلٍ أسرع، ربما نتوقف أمام جملةٍ رائعةٍ، نرددها، ونحسد الشاعر كيف سبكها هذا السبكَ الفنيَّ البالغ الروعة والبهاء، ربما خطَّتِ الروح خطوطاً لازورديةً تحت صورةٍ شعريةٍ هنا أو استعارةٍ مدهشةٍ هناكَ، ربما أوصينا الذاكرة ألا تخون _كعهدها_ هذا الجمال المفاجئ، فتلقي به في سراديب النسيانِ القصية الرطبة الخانقة، ربما وربما كثيراً .. وتنتهي بنا الرحلة مع النص أو القصيدةِ دون أن نحاولَ التعرف، أو السعي إلى لقاء الشاعر وجهاً لوجهٍ .. روحاً لروحٍ، لكننا في حالات قليلةٍ ما يدفعنا الشعر المقروء، بأيادٍ ناعمةٍ خفيةٍ، إلى السعي الدءوب للقرب من الشاعر والتعرف إليهِ، ورؤيةِ هذه الروح الصوفية الغريبة في مدائن الدخانِ والعصبيةِ.
     مع أشرف قاسم، وديوانهِ: قراءة في كتاب النأي، خطت الروح خطوطها اللازوردية تحتَ هذا النور الهادئ الرهيف، المنبعث من بين سطور الشعر المنساب في رقةٍ كالجدولِ الشادي بين بساتين الكروم والنخل العالي، ثم نهضت هذه الروح بقوةٍ غريبةٍ إلى الانتصابِ الملحِّ الداعي إلى أسر الشاعرِ في شرفات الامتنانِ والعرفانِ المطلةِ على حدائق العبير والمحبة، والرضا والعفاف، والنور والضمير.
     قراءةٌ في كتاب النأي، ديوان محبةٍ وحزنٍ وسفرٍ وأحلامٍ .. محبةٍ معتزة بشرف عذابها في سبيل عيون المحبوب الأرهف، حزنٍ هو آية الإنسانيةِ الأبهى، سفرٍ كالقدر مكتوب على جبين العشق والعشاق، في الأزمنة الضنينة باللقاء والوصال والعناق، أحلامٍ موءودة عن سبق إصرار وتعمدٍ من التافهينَ المتفيهقينَ الممتلئينَ زوراً وغشاً وخداعاً ودجلاً ..
     وبرغم جبال الحزن الساحقة التي يحملها الشاعر على ظهره، إلا أن صفاء روحه، وسماحها البالغَ، لمما يستفزُّ المرءَ استفزازاً عصبياً، أَنْ ما هذا الرجل؟! وما هذه الأخلاق الرضية في هذه الأوطان التي تأكل أقمارها النجيبةَ في شراهةٍ مريبةٍ فاجعةٍ، يصرُّ الشاعر على الغناءِ، نعم.. ستسيل دموعه أنهاراً حيناً .. وحيناً يصرخ في صاحبه: حتَّامَ الصمتُ، قم إلى الثورة، تعال نصنع الطوفانَ إن لم يأتِ بنفسهِ!! لكنَّ هذا الانسجام اللحنيَّ البالغ الرهافة في خطاب صاحبنا الشعري، وهذه الروح النقية الطاهرة المطلة علينا من وراء ستار السطور والجمل، تمنعنا أن ننهض إلى الطوفانِ صانعين لهُ، خالقين إياه، ليطهرنا من دناءاتِ هذا العالمِ المريبِ .. هذه الرقة حتى وهو يثورُ .. هذه الحروف الممدودة التي تسمح للنفَس أن يسترخي، وللنفْسِ أن تواصل رحلة استعذابها الألمَ، لا لشيء إلا أنه ألمٌ تصنعه المحبة، أوجاعٌ ترسمها ريشة الغرام، شقاءٌ عيون الحبيبةِ تنقشه وشماً على جداريات الروح والضمير القانع، يقول أشرف:
آهٍ من الدنيا ومن وجع الضنى
عَطْشَى تخاصم ريَّنا الأكوابُ
//
نمضي أُسارى الوهمِ في صحرائها
فإذا أمانينا العِذابُ سرابُ
//
نحن الذين استعذبوا أحزانهم
إن قيل: أحزان الغرام عِذابُ
//
نحن الخليُّون الذين استأنسوا
بالطهر لما ضمهم سردابُ
//
نخطو إلى المجهول دون تهيبٍ
ونظل آلام الفراق نهابُ
//
وعلى جمار الحلم نطهو خوفنا
متطهرينَ يضمنا المحرابُ
//
حتى إذا انتهت الحكاية ضمنا
سطر وحيد يحتويه كتابُ
//
"عاشوا على أمل وماتوا دونه
والله أعلم بالذين أنابوا" /11.
     إن المرء ليحار من هذه الروح الحزينةِ الموجوعةِ التي تتلطَّفُ في عتابها الحياةَ والدنيا والأقدار غاية التلطفِ، بل إنها يبدو كما لو كانتْ على وشكِ إعلان العفو والرضا والسماح عن خطاياها التعتيمية في حق هذه الأنوار الوردية العفيفةِ التي كان من حقها أن تعتلي أرقى منابر البهاء في أوطانها، لكن .. وكم عذبت العشاقَ والشعراء والحالمين هذه الـ لكن، .. ولابد منها، لكن يبدو أن ثمةَ من يريد لهذا الأنوار الوردية العفيفة ألا ترى النور، ثمة من يريد لها أن تظل مقموعةً في صحاريها وعطشها وتلهبها الأعنف الباطني، يحار المرء، أهذا شعرٌ للعتاب والتمرد والثورة؟! أم شعرٌ للعفوِ قبلَ إعلان جرائم الخصمِ التي تؤهله لحسابٍ عسيرٍ إن انتصبَ ميزانٌ دقيقٌ للعدالةِ، لكن أين يوجد هذا الميزان؟! يعرف الشاعر أنه لا وجود لهذا الميزانِ إلا عند حَكَمِ السماءِ العَدْلِ البَرِّ .. الرءوف الرحيم،  لهذا ختم الشاعر أبياته بقوله: والله أعلم بالذين أنابوا.
     إنها أسلوبية قرآنية كريمةٌ تربى عليها الشاعر في أزهريته المضيئة الكريمةِ، عرف خلالها كيف كانت الآيات القرآنية الكريمة تختم مشهد وعدها أو وعيدها بالتذكير بالرجوع إلى الله وأنَّ إليه المصير، هذا الختام الذي يفقه الشاعر مقولة ساداتنا من علماء التفسير بأن هذا الختام فيه من الوعد والوعيد ما فيه، فالوعد لأهل مقامات الصابرين، والوعيد لفراعنة الجور والطغيانِ والتزييف ..
     لن يغلب زيف العالم نور ضمير هذا الروح الجميل، بل سيعاهد أباه (القلب الكبير) على أن يحفظ هذا العهد الذي بينهما:
"أبتي
على بعد المسافة بيننا
أستسمحُ القلب الكبيرْ
بيني وبينك يا أبي
عهدٌ
بألا ينطفي في داخلي
نورُ الضَّميرْ
ألا أسيرَ مخدَّراً
في ذلك الزمن الضريرْ" /104.
وقد تنتاب الشاعر أحياناً جراء ضغط أزماته الروحية عليه حالاتٌ من اليأس والإحباط، لكنه اليأس القريب السهل الضحل غير المتمكنِ من ربقة روحه، لكنه الإحباط العنكبوتي الهش، الذي ينسفه نسفاً أوَّلُ طلةٍ للشمس في عيون حبيبتهِ (ليلى)/ (الوطن):
ضدَّانِ نحنُ .. أنا ووجهُ سعادتي
وضياء أفراحي خبيث ساهي
//
يا عنكبوت اليأس غادرْ شرفتي
ودع الستائر للنسيم اللاهي
//
سافرتُ أبحث عن عيون حبيبتي
أنفقت عزي في الطريق وجاهي
//
والآن أنظر في مرايا رحلتي
فيطل وجه المحبطين تجاهي/ 16.
     صحيح أن كلمة المحبطين هذه كلمة قاسية ثقيلٌ وقعها على الروح، إلا أن الشاعر يقاوم آثارها التخريبية لعمارة روحه بالإصرار على الكفاحِ، ولو على أرض التوهمِ غير السرابية ... والوهم غير السراب بيقينٍ ... الوهم آلة دفاعية من آلات الروح لصد غارات الخيبة والإحباط والاستسلام والهزيمة .. الوهم رديف الخيال .. رديف الحرية اللاهية التي رمز الشاعر إليها بهذه الصورة بالغة الرهافة والبساطة والعمق معاً، صورة الستائر التي يلهو بها النسيم في الأبيات السابقة..
     ويعرف الشاعر أن حريته هي شرفُ روحه، وأن رسالته كشاعر هي أن يخرج العالمَ من ظلمات القيد والضرورة إلى نور الحرية واللهو واللعب بمعناهما الفني الأعمق، ولهذا يغني للحرية أغنيتين جميلتين، أولاهما يحاور فيها رحيل الشاعر الكبير محمود درويش الذي يسائله الشاعر:
"لماذا رحلتَ؟!
وممن تعلمتَ هذا الجفاء
لمن يحفظونَ عرائس شعركَ بين الضلوع؟!" /53.
وثانيتهما يحاور فيها صديقه:
"القابع في عزلته
متشحاً بوشاحِ وقارهْ
كنبيٍّ
كلُّ رسالتِهِ
أن يصمتَ من أجل صغارهْ
يتلو أوراد رسالتهِ
من داخل شرنقةٍ تنمو
ويناجي الكون بإضماره"/65.
     وهي القصيدة التي كتبها الشاعر في 24 مارس 2006 معاتباً فيها صديقه المسالمَ هذا، وداعياً للثورة والتمردِ وتحطيم كلِّ متاحفِ آثارِ زمنِ الكذبِ:
"ما آخر هذا الصمتِ؟!
على الأبوابِ طبولُ الثورة
والطوفانُ
فثرْ
واستنفر ما فينا من غضبٍ كارهْ
عاندْ
وتمرَّدْ
وتحرَّرْ
من زمنٍ يخطر في عاره"/67.
     وحين يكتب شاعرنا قصيدة الميلاد وحكايات الخريف المهداة إلى الشاعر الكبير يس الفيل، يبدو شاعرنا كما لو كان يتحدث عن نفسه هوَ .. هو المطحونُ المتشققة يداه وروحه من طول الترحال والسفر والضرب في مناكب الأرض، بحثاً عن عيون حبيبتهِ التي أنفق في جمالها عزه وجاهه الفخيمينِ، غير مبالٍ بما أنفقَ، طالماَ أن سعيه هذا في طريق النور والحرية:
"لا تكترثْ
أنَّ الربيع مضى وأنتَ مضيَّعٌ
فوق الرصيفْ
زبد البحار مضى
وأنت غداً على شط الغرامِ
تبوس كفيكَ
الأُلُوفْ
وعلى جبينكَ
سوف تخلع تاجها
غيداءُ مملكة الحروفْ
ها أنتَ
تحملك الرؤوس
وأنتَ تولد من جديدٍ
بعد أحزان الخريف" /73.
     بمهارةٍ وذكاءٍ عرف شاعرنا كيف يختار قناعه الفني الذي من ورائه سوف يفضي بمكنون أحزانه للعالم، إن يس الفيلَ ليس إلا ذلك القناع الفنيَّ الذي اختبأ وراء جلالهِ الشاعرُ ليعلنَ على الملأ وعده لكل العالمِ .. ستأتيني غيداء مملكة الحروف لتخلع تاجها الذهبي على جبيني ذاتَ لحظةٍ من كبرياء العدل والوفاء..
     ولصديقته وفاء بغدادي الشاعرة والروائية السكندرية الجميلة يغني شاعرنا غنوةً من أجمل ما غنت طيور الوفاء والتحدي والأمل:
"صديقتي وفاءْ
أحس في حروفكِ
التي تنام فوق مكتبي
تحدِّي الصقورْ
فكيف يا صديقة الصباحِ
قد هجرتِ النورْ؟!
وكيف تخلقين جنةً
وليس في دروبها
ملائكٌ وحورْ
صديقتي وفاءْ
هل تعلمين أن جملة بسيطةً
قد تصنع الإنسانْ؟!
وجملةً خبيثةً
قد تهدم الأركانْ؟!
وأنتِ يا صديقتي
حروفك الحسانْ
رسائلٌ مكتوبة بالحب للإنسانْ
بعيدةٌ عن التعصب الغبي للألوانْ
..
صديقتي وفاءْ
لا تحزني .. إن عاند الزمانُ حلمنا القديمْ
لا شيء يا صديقتي
يجعلنا عظاماً سوى أسىً عظيمْ
فـ واصلي صديقتي غناءك الرخيمْ
فالليل يا صديقتي لا شك راحلٌ
وصبحنا مقيمْ
وصبحنا مقيمْ"/81.
        إنَّ المقابلةَ العجيبة بينَ الجملة (البسيطة)، والجملة (الخبيثة) في المقطع السابق لمما يستلفت النظر، وذلك لبعد المسافة في الظاهر بين البساطة والخبث، أعني أن البساطة ليست المقابل الحتمي للخبث في سياق المفارقة ولعبة الأضداد الفنية المرهفة .. غير أن العجب أو التعجب يزولُ إذا فهمنا ذلك الفضاء العرفانيَّ الذي تسبح فيه روح الشاعر النقية.. فالشاعر وهو ابن القرية منتجةِ البساطةِ والصفاء والعمق والغنى يختار الانحياز لإملاءاتِ المكانِ الذي تسكنه روحه، والذي برغم طول أسفار الشاعر في المدن والعواصم الكبيرة إلا أن هذه العواصم والمدن لم تستطع نقب هذه السدَّ الروحي العميق الذي أقامته القرية في روحه حائلاً بينه وبين أن يضيع أو يتوه مع الضائعين والتائهين في غمار دخان المدن القصديرية وضبابها العكر..حين نفهم هذا .. نفهم معه كيف ساغ للشاعر فنياً أن يقابل بين البساطة والخبث .. فالبساطةُ فلسفةٌ كاملةٌ وموقف بالغ التحدي من تعقيدات العالم الراهن، والتواءاتهِ المعدنيةِ الفاجرة .. البساطةُ هي الإيمان واليقين .. إيمان العجائز، ويقين الشهداء!!
     ويواصل الشاعر نزف روحه ودمه الذي تمنى على أصدقائه في إهداء الديوانِ أن يتقبلوا منه هذا النزف الصِّدِّيقَ الشَّهِيدَ، ويواصل الكتابة، وبالدم يكتب قصيدته إلى مروان البرغوثي المناضل الفلسطيني العظيم:
"ها أنتَ كاللغةِ التي
قد خاصمتْ زمن التزلفِ والدجلْ
عالٍ .. شموخ السنديانِ
وراسخ مثل الجبلْ
هذا زمانكَ
أنتَ من علمتنا
معنى البقاء
على متاريس الأملْ
إن الذين استيقنوا باللهِ
لا خوف عليهمْ
لا .. ولا هم في وجلْ
لن يستوي
من باع يوماً عرضهُ
من باع يوماً أرضهُ
ومن استقام على دروب الأنبياءْ
هذا زمانكَ
يا "حسينُ"
ولن ينام _اليوم_
كلبٌ
في أزقة كربلاءْ"/88.
      هذه هي المرة الوحيدة التي انفلت فيها غضب الشاعر من عقاله، فخرجَ على (أخلاقية) معجمه الشعري، ليذكر هذا الـ (كلب) في المقطع السابقِ، في نوبةٍ من نوباتِ غضبهِ المأمون عاقبته على أية حالٍ.
      أستطيع القول الآنَ، إن سببَ هذه الموقف (الراضي)، المتسامح من العالمِ، هو هذه البذرة الصوفية الخفية المرتكنة إلى جدارٍ خفيٍّ في قلبِ الشاعر، هذه البذرة التي توحي إلى الشاعر في هدوءٍ باذخٍ أبداً .. أن لا عدالة هنا على هذه الأرض، فلا تطلب المستحيلَ.. غنِّ غنوتكَ وامضِ إلى اللهِ .. فعنده وحدهُ تنتصب الموازين الحق، وعنده وحده وعد الفرح واليقين.
      أشرف قاسم شاعرٌ تحبه لحزنه الشفيف، وحرفه المتعفف، وروحه الراضيةِ، وقلبهِ المتصوِّفِ، ونبلهِ وشفقتهِ الرحيمةِ الشاهدةِ على خطايا هذا العالمِ الرجيمِ.
"الآنَ
أجلس كالعصافيرِ الحزينةِ
تحت أمطارِ الهمومْ
عيناكَ أجملُ ما حلمتُ بهِ
من الزمن الظلومْ
قمرٌ أنا
وعليهِ يا أبتيِ
تآمرتِ النجومْ"/102.
      أكاد أضرب رأسي في الحائط عجباً ودهشةً مما تفعله سماحة هذا الفتى الجميلِ، الذي يأبى عليه جماله إلا أن يصف أعداءَه وصالبيهِ بأنهم (النجوم)، أية نجوم هذه التي تتقن فن المؤامرة؟! لا وجود لهذه النجوم، ولكن ثمة وجودٌ باذخُ البهاءِ لروح ٍكبيرةٍ طيبةٍ تنشر أريج نبلها في الوجودِ، عبر هذا الشعر فائق البساطةِ والثراءِ الوجدانيِّ في وقت واحدٍ معاً، ثمة فتى شاعرٌ يدعى أشرف قاسم..
      تحيةً لكَ أيها القمر الذي هو مؤامرةُ الجمالِ والرضا على الكونِ والروحِ والحياةِ، الذي هو أنتَ لا سواكَ!!

 

تعليق عبر الفيس بوك