الاغتراب المتشعب في "مجنون حيفا" لـ"عبلة الفاري"



أمين دراوشة | فلسطين

يواجه الكاتب في عصرنا المضطرب تحديات كبيرة، فهو يحاول تصوير وتحليل حياة أشخاص، في محاولة منه إنارة حياتنا المليئة بالدم والخوف والقلق والرعب. ومن الموضوعات التي يعالجها الكاتب ما سماه الكاتب السويسري "بيكار" بأننا نعيش أوضاع "انخلاع وتفكك في مفاصل عصرنا". (ج. دونالد آدامز. مسؤولية الأديب. في: الأدب وصناعته. بإشراف روي كاودن. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بيروت: منشورات مكتبة منيمنه، بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر في نيويورك. 1962. ص 178).
وهذا يعني وجود عالمين للإنسان وكلاهما يضجان بالفوضى والاضطراب، العالم الداخلي والعالم الخارجي.
وسنتناول في دراستنا قضية الاغتراب في المجموعة القصصية، والاغتراب لغة، يدل على البعد، ومعناه الابتعاد عن الوطن. (انظر الرازي. مختار الصحاح. القاهرة: المطبعة الأميرية، ط8. ترميم محمود خاطر. 1954)
فنقول عن المسافر إلى خارج الوطن، أنه في غربه واغتراب، ولمن تزوج من غير أقاربه بأنه اغترب. (انظر ابن منظور. لسان العرب، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. ج2. 630-711ه).
أما اصطلاحا فجاء بمعنى تغيير المكان والانفصال عنه، أو الانتماء والانتساب لشخص آخر، أو إلى مكان آخر، أو قوم آخرين.
يطغى الاغتراب على الشخصيات في المجموعة القصصية، والاغتراب ظاهرة وجدت مع وجود الإنسان على الأرض، فصراعه مع الظواهر الطبيعية أشعره بعدم الفهم، والخوف ومحاولة الانتصار على أفكاره المشوشة، ومع نشوء المجتمعات ظهرت الأزمات والمشاكل التي سببت الاغتراب للإنسان، وقف الإنسان بكل قوته وطاقته العقلية والروحية في مواجهتها، كان ينجح حينا بالثورة، وأحيانا أخرى يفشل ويستسلم، وينعزل ويتكور على ذاته.
وفي عصرنا الحالي يعاني الإنسان العربي من الاغتراب المتعدد، وكون القاصة تملك مشاعر فياضة، وإحساس عميق في الحياة، كان تأثير الاغتراب عليها كبيرا، وهذا انعكس على شخصياتها القصصية، فالإنسان العربي يعاني من الاغتراب لأسباب لا تخفى على أحد، أولها شعوره بانعدام الحرية، وأن القيود تكبله وتجعله غير قادر على ممارسة إبداعه، وحياته كما يشتهي ويريد، أما السبب الآخر فهو بلا شك، رؤية الأوطان وقد نخرها السوس، والتهمها العفن، والشعور الطاغي بصعوبة تخليص الوطن من أمراضه الناتجة عن الاستبداد السياسي، والظلم والقهر الاجتماعي والتآمر من الدول الأجنبية للبقاء على الأرض العربية لنهب خيراتها.  
وفي عالم الكاتبة الذي انهزمت فيه القيم الروحية، وطغت المادية، وجدت إنها تعيش في عالم يفتقر إلى الحب والإنسانية، فحاولت في قصصها أن تبنى عالمها الخاص. تقف فيه الكاتبة موقف الرافض للأوضاع المزرية التي يمر بها الوطن، والوطن لديها لا يقتصر على بلدها فلسطين، بل يشمل كل الوطن العربي الكبير.

 

خوف، وقلق، ومحاولات هروب وانسحاب:
تقع المجموعة في مئة وأربع صفحات من الحجم المتوسط، وتضم عشرة قصص، والطاغي على راوي القصص ضمير المتكلم.
في القصة الأولى "عاصفة الظلام" تتناول القاصة حياة امرأة عجوز، وحيدة في كوخ منعزل، بعد أن هجرها أحبائها إلى بلاد أخرى، ولم يبق لها سوى الذكريات التي تقتات عليها.
في إحدى الأيام والمرأة تحدق في مرآتها، فتمسك بشعرها الأبيض، وتتفقد التجاعيد التي انتشرت في وجهها، وتحس أن الزمن يهرول ولا يترك للإنسان فرصة للتعويض عن أخطائه، أو محاولة إصلاح ما تأتي به العاصفة من أضرار. إنها اعتزلت الحياة وعاشت مع ذكرياتها الماضية، وآلامها التي تعيش معها كحاجة حميمية.
مع العاصفة تشعر المرأة بقوة غامضة تتملكها، فما كان منها إلا أن "انقضّت على جرّة الفخار القديمة المركنة إلى جانب قنديل الزيت المحتضر لترفعها عاليا وتقذف بها المرآة لتجعلها كومة من حطام...". (عبلة الفاري. مجنون حيفا. جنين: منشورات المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام. ط1. 2010. ص 12-13)
وضحكت بصوت عال، حتى اهتزت لضحكتها كل ذرة من الكوخ المتداعي، اندفعت إلى الخارج بكامل إرادتها، تركض داخل العاصفة حتى لم تعد تظهر.
أهل البلدة تناقلوا قصتها، ونقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم، حدثوهم عن المرأة التي تسكن الكوخ المتهاوي وحيدة، وعن ثورتها المجنونة، وشبحها الذي ذاب في الظلام في ليلة عاصفة. والبعض ما زالوا يحدثون أبناءهم عن المرآة الشبح التي تزور كوخها بين الفترة والأخرى، وتتمتم بأغاني شعبية حزينة، وهي تحمل قنديل الزيت.
فالاغتراب يقود الإنسان إلى الشعور بالوحدة والانعزال، والانسحاب من الحياة، وقد قاد الاغتراب العجوز إلى الضجر من كل شيء المدنية والقرية، وصادقت الليل، ورافقت الحزن، وسلمت نفسها للعاصفة راضية مطمئنة.
في قصة "ابن الشاطئ" تتناول القاصة سيرة حياة مسعود الفتى الذي كبر وسط عائلة فقيرة ومعدمة، ولم ينل حظه من التعليم، وتظهر شخصيته تعاني من قسوة الاغتراب، الذي ينخرها بقوة، يقول: "إخطبوط عملاق يجثم ثقيلا على صدري يطوقني حتى الاختناق، فأحس بحشرجات الموت تداهمني كلما غفوت قليلا لأستيقظ مرعوبا مصفر الوجه مزعزع الكيان". (ص 28) فهو يقضي وقته في أحضان أم صديقه منصور التي يعمل زوجها خارج البلاد ولا يعود إلا أيام قليلة في السنة، يقضيها في التدخين وشرب الكونياك، ولا أصدقاء له سوى منصور الذي يقدم له مسعود الحماية من الفتيان المشاكسين والعدوانيين.
وهنا نرى الشخصية تعاني من الانفصال الاجتماعي والمكاني، ويورد الباحث يحيى عبد الله في كتابه (الاغتراب) (يحيى العبد اللّه. دراسة تحليلية لشخصيّات الطاهر بن جلّون الروائية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2005. ص 22)
مجموعة استخدامات للمصطلح في وقتنا الحالي، ومنها:
التصدح الذهني الذي يعني نقص في الشخصية وعدم اكتمالها، إذ يشير إلى عدم الوعي، أو نقص الصحة العقلية، ويطلق على الأشخاص غير الأسوياء، وهنا نرى استخدام المصطلح بدلالة طبية.
والاغتراب الداخلي حيث ينكفئ الشخص وحيدا، وتمتاز علاقته بالآخرين بالبرود، كما يشير إلى اضطراب الذات وعدم قدرتها على القيام بواجباتها اتجاه نفسها والآخرين.
وفي ظل متاعبه التي لا تنتهي، يقرر الهجرة إلى الخارج، لعله يتخلص من كوابيسه، وفي النهاية لن يلحظ أحد غيابه، أهل القرية سيقولون كلب ومات، فهناك الكثير من أبناء الشاطئ. وأمه لن تلحظ غيابه، وهي مشغولة دائما في معركة غسل الصوف على الشاطئ لتأمين أرغفة الخبز الممتزجة بالعرق والشقاء والذل، فهي ترجع ليلا منهكة، تعد بعض الطعام لصغارها، ثم تنام لتستيقظ على نفس المعركة التي لا تنتهي، أما الأب فدائم السعال، ولا يعود إلى البيت إلا في وقت متأخر مهملا أولاده، يوقظ المرأة التعبة لتحضر له العشاء، وإذا كان في مزاج عكر يضايقها ويضربها، مما أجبر مسعود على ضربه بعمود خشبي على رأسه، وهرب ليعيش بجانب مزبلة القرية.
يحس مسعود بأنه زائد في الحياة، وأنه مخلوق قذر، وأهل القرية أطلقوا عليه لقب البغل. ويشعر أيضا بتأنيب الضمير لخيانته صديقه منصور، ويصمم على الرحيل إلى البعيد، يقول: "هناك خلف ذاك المدى البعيد أسمع صدى الرحيل يتردد من وراء تلك الجبال الشاهقة ويناديني ليحثني على الإسراع". (ص 33)
فالاغتراب ما هو إلا قلق ويأس يؤثر على النفس البشرية. ومن ناحية علم الاجتماع فقد تحدث العلماء عن عجز الإنسان عن التأثير في المواقف الاجتماعية التي يتفاعل معها، وشعوره بدونيه، والإحساس بالرفض المجتمعي وسيطرة فكرة الانعزال عليه. وانعدام الثقة بالأفراد والمجتمع بالنسبة للمغترب الذي يحس إن كل أعماله منتقدة وغير مفيدة وبالتالي التردد والشك، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات.
يمني مسعود النفس أنه سيجد في بلاد الغربة ما يصبو إليه بعيدا عن مزابل قريته، والناس المتلونة بكل لون، وأنه سيعيش كإنسان. هرب مسعود دون مال أو علم أو مهنة، هرب وهو يحمل النقمة على نفسه وزمانه وواقعه، هرب مشحونا بالغضب والقهر من واقع متخم بالمرارة والشقاء.
والإنسان في هذه الحالة "لا يعود ممتلكا لناصية جوهره وهكذا فإنه يغرب ذاته عن طبيعته الجوهرية أو يصبح مغتربا عن ذاته". (ريتشارد شاخت. الاغتراب. ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. 1980. ص 101)  كما يرى هيجل علاقة الإنسان بمجتمعه.
فالذات عندما تصدم بالحواجز المجتمعية مثلا، وتتوقف عن نموها الطبيعي، أو "أضفي الغموض عليها أو تعرضت للاختناق، فهي ذات تعيش حالة اغتراب ذاتي". (المرجع السابق. ص 199)
وفي البلاد الغريبة سيجد أناس يتحدثون لغة لا يفهمها، يتعثر بحياته، ولا يجد لقمة الخبز لتسد جوعه، ويحاول أن يدوس على وجعه، ويستمر في محاولة إيجاد نفسه دون جدوى "أبحث عن ذاتي فلا أجدها وأدخل في دوامة أو كابوس بلا بداية ولا نهاية". (ص 35)
يعود إلى الماضي فلا يجد فيه سوى الحزن والألم، ويقول لنفسه: "يجد الكلب عظمة في المزبلة تسكن جوعه، أما أنا لا أجد حتى ذاتي التي أهلكني البحث عنها بين غبار الطرقات وأكوام النفايات". (ص 35-36) وعندما تقفل كل الدروب في وجه يتمنى الموت لينتهي من هذا الألم والضياع. وظل مسعود يسير في حياته هائما وحائرا يحلم بالعودة إلى الوطن، حتى كتبت إحدى الصحف المحلية عن موت مهاجر لا شرعي، مجهول الهوية في ظروف غامضة.
اختارت القاصة أن تكون قصتها "مجنون حيفا" لتكون الأخيرة، وتكون عنوانا للمجموعة القصصية، لأنها تشعر أنها مهضومة الحقوق، وأن الزمن لم ينصفها إذ تسبب الاحتلال بطرد أهلها من بيتهم الحميم وقريتهم، لذا فالشعور الطاغي في قلبها هو: متى سنعود إلى حيفا؟ ولجأت القاصة إلى حيلة الجنون التي أصابت شخصية القصة لتحقيق الحلم، كما اختارت السارد العارف بكل شيء عن شخصيته، لتخبرنا عن أوجاعه وأحلامه والظروف التي أوصلته إلى الجنون.
المجنون الذي يسكن كراج جنين الخاص بالحافلات، والذي تشتت أسرته، وتركه ابنه وهاجر إلى أمريكا بحثا عن مستقبل أفضل، وأقام الراوي صداقة معه، حيث كان يزوده بالفطور والقهوة كل يوم، الراوي الذي يدرس التاريخ في جامعة النجاح كان مهتما برواية المجنون العم منصور حول التهجير، لذا كان يجلس معه محاولا أن يستخلص منه حكايته، وهو يشبه جدة الراوي، وكأن كل كبار السن المهجرين يشبهون بعضهم البعض، يقول الراوي عنه أنه يشبه جدتي، فهو عذب الحديث مثلها "رقيق القلب، واسع الثقافة رغم شروده وجنونه". (ص 100) والجدة تحتفظ بالمفتاح القديم في عبّها، والعم منصور يحتفظ به في حزامه.
في أحد الأيام يختفي العم منصور، فيبحث عنه الراوي في المستشفيات وفي كل مكان لعله يعثر عليه دون جدوى.
حتى يقرأ في أحد الأيام عن دهس سائق مخمور في حيفا رجل كهل ومختل عقليا ويحمل في حزامه مفتاحا كبيرا.
إن محاولات العم منصور من أجل الوصول إلى حيفا كلها باءت بالفشل، ولكنه نجح أخيرا بالوصول إليها بعد أن فقد عقله، ولم يعد يعي المخاطر التي ستواجهه في الطريق إليها إذ ينتشر جنود الاحتلال على الحواجز لمنع أو قتل كل فلسطيني يرغب ولو بزيارة مدينته الضائعة، فالجنون وسيلة الإنسان الهش الذي يعجز عن تحقيق ما يصبو إليه فيهرب إلى الجنون لأنه يعود بلا عقل غير إن الشخصية هنا تفقد ذاكراتها الحاضرة، وتتعلق بالماضي الجميل.
فشخصية المجنون هنا تشعر بالاغتراب الذي هو "عملية صيرورية تتكون من ثلاث مراحل متصلة اتصالاً وثيقاً". (حليم بركات. "غربة المثقف العربي". مجلة المستقبل العربي، ع2. تموز، 1978، ص 106)
 المرحلة الأولى تنشأ نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي، والمرحلة الثانية تتشكل بسبب وعي الإنسان بوضعه، أما المرحلة الثالثة "فتنعكس على تصرفه إنساناً مغترباً على وفق الخيارات المتاحة أمامه". (المرجع السابق نفسه)
فالعجوز خسر بيته ومدينته ومن ثم خسر ابنه، لذلك أصبحت الحياة بالنسبة إليه فارغة ولا تستحق العيش، وارتبط المكان في وعيه بحياته الماضية المليئة بالمسرات والخيرات، والمكان ارتبط عند الكاتبة "ارتباطا وثيقا بوعي الإنسان وإحساسه، ويعكس ما تعانيه الشخصية من قلق وحسرة وخيبة ومعاناة". (نبيه القاسم. الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف. فلسطين: دار الهدى. ط1. 2005. ص 66)
 فالمدن كلها متشابهة، وهي قاسية وغير مبالية بألمه، ولا مدينة ستحتضنه وتحن عليه غير المدنية التي ولد وعاش فيها، وبما أن حيفا مدينة محتلة ولا يمكن له العودة إليها للعيش فيها، فلم يتبق له سوى رؤيتها للمرة الأخيرة قبل الموت.
أما في قصة "الامتحان الأول" فنرى شخصيتها "حسن" غارق في قراءة الكتب الأدبية والفلسفية، ولكن هذا الأمر يسبب له المشاكل وسخرية الأهل والأصدقاء، ويقول لنفسه وهو يتفقد كتبه (غوته، شوبنهاور، هيجل، نيتشه، المعري، المتنبي) إن هؤلاء الأشخاص قد سيطروا على فكره، وهم "المسؤولون عن تعسي وشقائي في هذا الزمن، فلو لم تكونوا هنا، لما وصلت إلى هذا الحال، أسير في الطرقات ضائعا أحدّث نفسي، أعيش في أقصى منافي غربتي وأنا بين أهلي". (ص 16-17)
وفي لحظة يأس، وبعد أن نال من سخرية الجميع ما نال، قرر حرق كتبه، يقول" إنّ أغراض الثقافة قاتلة لدرجة أنّهم ألصقوا بي تهمة المجنون، لأني ولدت سوسة تنخر الكتب لتعيش وتهمة المتخلّف لأن خمرتي المعتقة هي القهوة المرّة، وتهمة المعقد لأني جاهل في التعامل مع الجنس اللطيف". (ص 18)
فما حصد من ثقافة الكتب إلا الهزء والمعاناة، فالزمن مصاب بداء السطحية والقشور، والناس لم يعد يهمها سوى المال، وبحرقه لكتبه، وشربه للخمرة، ومضاجعته للنساء يشعر أنه تحرر من التهم المنسوبة إليه، يرجع إلى غرفته سعيدا، ولكن في الطريق إليها تصدمه شاحنة كبيرة وتقطعه أشلاء، وهنا ينهض من كابوسه مذعورا، وعندما يهدأ يدرك أنه كان في حلم بائس ومخيف، وأنه ليس مجرد قشرة بين القشور "ولست ورقة خريف صفراء تعبث العواصف بها...أنا شيء آخر هو الإنسان". (ص 25) الإنسان القادر على اجتياز الأوجاع والحواجز. فالاغتراب الذي أحس به حسن لم يجعله يستكين ويستسلم بل دفعه إلى الإصرار على تحقيق هدفه غير عابئ بسخرية الناس وهزئهم.
وكذلك تفعل البطلة في قصة "نسائم الذكريات"، إذ نرى البطلة تعاني بسبب وفاة والدتها صغيرة، ومن قسوة زوجة الأب، إلا أنها كانت تجد المواساة في الصعود إلى شجرة سنديان، تجلس تحلم بغد أجمل، حتى جاء اليوم الذي قطعت فيه الشجرة، وصارت البطلة دون معين. أخذها خالها بعيد وقام بتربيتها والاعتناء بها حتى أصبحت معلمة، وعادت إلى قريتها لتعلم أطفالها معنى الألم والإرادة، تقول: "تجول بخاطري نسائم الذكريات وأستهجن لهذه الإرادة التي غرستها قسوة الحياة في أعماقي لأثبت بها لنفسي أنّ رغبة الحياة أقوى مليون مرّة من نعيق الموت". (ص 66)
وفي النهاية لا بد من القول أن القاصة عبلة الفاري، كاتبة غاضبة ومقاتلة بقصصها، وأنتجت في بواكير مشروعها الأدبي مجموعة من القصص المكتملة فنيا، والملاحظة الوحيدة على بعض القصص إن الكاتبة استهلتها بشيء يشبه الخاطرة الشعرية، وهذا يجعل القارئ لا يقفز إلى دراما القصة مباشرة، ويتشتت فكره.

 

 

 

 

 

 

 


جماليات المكان في المجموعة القصصية "وردة لصيف واحد"
للقاص الأردني ناصر الريماوي

ينطلق القاص ناصر الريماوي في عالم الإبداع بثقة واقتدار، فبعد إصداره لمجموعتين قصصيتين هما "جاليريا 2010" و "ميرميد 2012"، ها هو يبقى وفيا للقصة القصيرة، ويصدر مجموعته الثالثة "وردة لصيف واحد 2015" عن دار "الآن ناشرون وموزعون" في عمان، والمجموعة متوسطة الحجم وتقع في 112 صفحة، وتتضمن ثماني عشرة قصة.
والمجموعة القصصية الجديدة تتصف بلغتها الشعرية العذبة، الموازية للنثر دون أن تقوضه، حيث الإسهاب بالوصف ضرورة، دون فائض، مما يدل على خبرة القاص الريماوي وبراعته إلى جانب ثقافته الواسعة، واطلاعه على كل جديد في عالم الأدب.

ذكرى المكان بين الحنين والألم
الحبيبان اللذان لا يلتقيان
القرى والحكايات الحزينة
إذا أراد القاص أن يكون مميزا ومبدعا، فعليه أن لا يكرر نفسه، وهذا ما حرص عليه الريماوي في هذه المجموعة، فهو يبدع في التقاط موضوعاته وأفكاره على أسس تعدد زوايا النظر والتناول، ويبتكر من خياله الأماكن والأسماء، حتى وإن كانت ترمز إلى أمكان وأسماء بعينها، ببراعة واقتدار كبيرين.
تتنوع الأمكنة في المجموعة، فهناك القرية، والحارة الشعبية، والعديد من المدن... عمّان، وباريس، وغزة، ودبي، وهناك المخيم والمقاهي.
في قصة "رجم الشوك" التي مسرحها القرية، يحدثنا الكاتب عن أحوال القرى هذه الأيام. ففي القرية تنبت قصة حب بين عاشقين، وهي القصة التي شغلت بال أهل القرية كلها.
تنتصب العديد من الأسوار أمام بطل القصة كغيره من شباب القرية، فالقرية الجميلة الوادعة، لم يعد أحد راغب في البقاء فيها، رغم أشجار السرو والكينا والأكي دنيا ووشوشات الطيور...فالفرص محدودة في الانطلاق، لذا لا يجد شباب القرية بدّاً من الرحيل سعيا وراء مستقبل أفضل.
يبتكر الكاتب في القصة فكرة جديدة، وهي: انتشار عرف بين أهل القرية، يقضي ببناء ضريح لكل من يرحل عنها أو يغادرها خلسة على نية الهجر.
وعند رحيل الحبيب، ترفض تلك الحبيبة المشاركة بوضع أي من متعلقاته في النعش وفقا لذلك العرف، لتكتفي بابتسامة ساخرة أمام حفرة الضريح، فقد راهنت على قصر مدة غيابه.
ولكن بعد مرور وقت طويل على رحيل الحبيب، بان على محياها الانكسار، وهي تتفقد الطريق الرئيسي الذي يسلكه المغادرون والقادمون.
وعملت بجهد على إزالة الشوك النابت حول الضريح، وكانت تقول: "هذا الشوك، ينبت في صدري، ليكبر هناك!". (ناصر الريماوي. وردة لصيف واحد. عمان: منشورات دار "الآن ناشرون وموزعون" للنشر والتوزيع. ط1. 2015. ص 8)
واستمرت باقتلاع الشوك لتضعه في صدرها حتى فاضت روحها، ولم يمض وقت طويل حتى رحل أغلب سكان القرية، وتمدد الشوك بين الطرقات، وأحاط بالبيوت المهجورة، وطغى الليل على الحقول، ولم يبق غير نعيق البوم.
بدت القرية في البداية جذابة ومثيرة، والحبيبة متمسكة بالحياة فيها، بدا ذلك واضحا في قولها: "إنّ الروح تظل توّاقة للمكان". (ص 5) ولكن عندما ترى رجال القرية يغادرونها، وغالبيتهم لا يرجعون، والذي يعود تظهر عليه علامات الخيبة والانكسار، تتحول نظرتها إلى القرية، لتبدو أقرب إلى الخيبة، تغدو كشيء مخيف وقاس، فهي "منهوبة بالرحيل والموت، هو مدخلها الذي يشحذ قاطنيها بهذه الرغبة". (ص 5) ولن يمر وقت طويل حتى يغادرها الجميع.
القرية التي هجرها سكانها بحثا عن الخلاص الفردي، سكنت العتمة بيوتها، وأوغلت حقولها بصمت رهيب.
ومع هذه الأجواء القاتمة، التي تدلل على الضياع والألم والعجز، يترك لنا سارد الحكاية فسحة من أمل "فذؤابة الفانوس في الغرف العتيقة لم تخمد...وهي ترشح بالظلال". (ص 9)
ظل الحبيبة الغائبة، وظل طفلين على تلة لوز أخضر.
في قصة أخرى مكانها القرية أيضا "دالية الوقف"، والتي أخذت فيها تلك الدالية بطرح حصرما حامضا، على مدى عشرين عاما، كون بهلول العاشق لم يظفر بمعشوقته " بهية "، ليبقى يعزف على نايه أغاني حزينة، وهو يضحك بمرارة بثوبه المهترئ، حتى أجمع سكان القرية أن بهلولًا مصاب في حشاشة قلبه وليس في عقله. "وأنّ صفير الناي الذي يعزف بألحان موجعة في كل ليلة...هو السبب، وأن ما يحرث جوف تلك القصبة ليس سوى صدر بهية... ليبثّهم مرارة غربتها". (ص 12)
ألحان بهلول التي تفتت القلب تتواصل، وكان حين يتعب، يبدأ بنثر موّال قديم على أعين السهارى وعذارى الليلة الأخيرة: "بهية، وعيون بهية...كل الحكاية عيون بهية...". (ص 13)
صبايا القرية رأينه، وهو يلصق وجه إلى جدار العلّيّة ويبكي بحرقة، كان يغني لهنّ مواويل الفجيعة ولبهية حتى الصباح، وتناقلت الأجيال قصته، وقصة دالية الوقف التي نبتت في تلك الليلة من بذور الحنّاء، وشبّت على ساعد الخشب، وكلما غنى لغياب بهية كانت تنمو، حتى كبرت وسكنت رأس العلّيّة، وظللت المكان، أهل القرية قالوا عنها: إنها دالية الوقف، وإن أهل بهية لم يمسوا ثمارها، "تنوء بأقراط تلمع من بعيد، في كل المواسم...، لسنوات خلت وهي تطرح عناقيد حامضية تطرّز أثواب العرائس المشغولة بلهفة الانتظار، وفي ليال الحنّاء يلتقطن ثمارها، ليفركن حصرم اليدين على بياض الثلج". (ص 13)
ولم يبق لبهلول سوى سروة معمّرة، يتوسد قمتها، ويرنو لعليّة البيت وتكعيبة الظل لدالية الوقف.
العليّة والسروة القديمة هي كل ما بقى لبهلول من ذكريات، فهو يحتفظ بأسراره الجميلة والحزينة هناك.

المدينة... فوضى وأرق مزمن
في قصة "صخب طفوليّ" تدور أحداث الحكاية في غزة، وتحكي عن قصة أم فقدت أطفالها في الحرب التي شنها الاحتلال على قطاع غزة، وراوي الحكاية الذي يدرس في القاهرة وعائد في إجازة.
فغزة في القصة مكان لا يعرف الراحة والأمان، فهي "تتقلّب على وسادة البحر، ككل ليلة، وتنشر عدوى أرقها المزمن في فضاء المدنية!". (ص 88)
يملئها الضجيج، وفي كل بيت من بيوتها حكاية، فمريم "تعدّ إفطار صغارها على هدير الرصاص". (ص 89)
الأطفال الذين صعدوا إلى السماء وما زالت الأم، تتأمل في عودتهم ولا تكف عن السؤال عنهم في الطرقات، وفي المدرسة التي تعمل فيها آذنة، حتى ضجت بها المدرسة وتخلت عنها. تسأل الطالبات: "ألم تعد ياسمين...ألم يرها أحد منكم؟". (ص 90)
وفي صف الذكور تسأل الطلبة: "هل عاد جابر، ولم تأخر سعيد...ألستم أصدقاء، فلم تأخروا في المجيء لهذا اليوم إذن". ( ص90)
وتسأل الراوي قبل سفره للقاهرة أن يبحث عن أطفالها هناك، قائلة له: "ربما كبروا قليلا...فلا يختلط الأمر عليك". (ص 90) يعدها خيرا، ويطلب منها العودة إلى العمل في المدرسة، فترد بقوة: "أبيع البحر في علب صفيح...ولا أعود لقسوة الانتظار والناس". (ص 90)
هذه الأم المكلومة لخسارة أبنائها برصاص الاحتلال، لا تكتفي الحياة بخطفهم، بل إن أهل المدينة المجروحة لا يقفون إلى جانبها لمساعدتها بل على النقيض يتم طردها من عملها لأنها تثير خوف طلبة المدرسة بسؤالها الدائم عن أطفالها الذي رحلوا إلى عالم أرحم وأجمل لا وجود فيه لاحتلال أو قسوة الناس التي لا ترحم.
أما في قصة "المضيفة" و"وردة لصيف واحد"، فيتطرق فيها الكاتب إلى عمان، وناصر الريماوي المغترب في السعودية من أجل لقمة العيش، يهزه الحنين كلما عاد إلى عمان، يقطعها من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، يحاول أن يشرب كل هوائها، ويتشمم كل أماكنها التي زرع فيها ذكرياته. عمان في فصل الصيف تختلف عنها في باقي الفصول، فكل المغتربين يعودون في إجازات من عملهم، كما إنها تمتلئ بالسائحين من كل دول العالم. لذلك عندما يقترب الصيف "تتهيأ لصيف جديد، ترمّم الأجواء وتغسل النهارات من مخلفات الفصول". (المضيفة. ص 42)
يطوف الراوي في أحياء المدينة ... "جبل عمّان" "واللوبيدة" و "ميدان بارس" وغيرها عطشانا ليرتوي من بقايا سهرات عتيقة، فالمدينة الصاخبة المزدحمة تضايقه، ويتكرر وصف عمان بالصيف "بالازدحام، الصخب، الزحمة"، ولكن عمان بنظر الصديقة الشاعرة بوجود الراوي تختلف عنها في غيابه، فالأشخاص والعلاقات الإنسانية ترتبط بالأماكن، والناس من تجعل من الأمكنة فضاء رحب أو سجن مقفل. فالصديقة الشاعرة تقول له: "مذ وصلت من غيابك والمدنية تخلع حضارتها، عمارة عمارة! يحتّل الرمل أرصفتها".(وردة لصيف واحد. ص37)
والراوي "القاص" يشعر إن الوقت يمضي كالبرق، لذا فهو يحتاج لهذا الوقت، " أحتاج لهذا الفائض من الوقت كي أوغل في المدنية أكثر!". ( المضيفة. ص 43)
عمان في الصيف تلتهم الوقت، ولا يكون هناك متسع لهضم الذكريات، ففي عمان "يلزمنا أكثر من صيف لنستنطق وردة...". (المضيفة. ص41)

كل طريق إلى الحب مقفل...إلا إلى فلسطين
تدور أحداث قصة "أنوار المخيم" على أرض مخيم عين الحلوة، ومدينة بيروت، ويظهر المخيم كمكان لا يطاق، فهو مزدحم، ويضيق بالأسئلة، وأزقته الموحلة "تتشعب في حيلولة دون التصاق البيوت "البراكيات"، لتفضي نهاياتها الحادة إلى زقاق مترب يتسع قليلا في اختراقه الفجّ لحارات أخرى تكدّست بالصفيح". (ص 14)
الأطفال يولدون في هذه الظروف الصعبة مرضى، ومصابون بضيق النفس، الراوي يخبرنا عن ذكرياته هناك، وحبه لجارته الطفلة "أنوار"، ولأن بيوت المخيم متلاصقة، ولا يوجد فيها رفاهية المساحات المفتوحة، فإن أصوات الجيران غالبا ما تتداخل، ويسمع الجميع أصوات بعضهم البعض، بل إن الطفل قادر أن يشم "روائح الأطعمة التي تنضج ببطء على "بوابير الكاز". (ص 14) وصيحات أم أنوار، وحتى صدى الهمسات المتصاعدة.
الأم تعتقد إن ظروفهم الحياتية التي لا تطاق، لا تمنح الطفلة أنوار حق التمتع بالدراسة والشهادات وقراءة الكتب، فما نفع ذلك " وهذا القنّ يحتاج للكنس والشطف...". (ص 15)
أنوار ليست كالأطفال الآخرين، تتابع الأخبار عبر مذياع أهداه لها الراوي، ويبدأ وعيها بالتشكل، وتتبنى أفكار جديدة أكبر من سنها، تقول له: "في "عين الحلوة" يتصاعد الضيق، صدورنا أيضا لم تعد تحتمل، تضيق بأجسادنا كمقبرة "درب السيم" المجاورة، ألسنا كبقية الأطفال في هذا العالم؟". (ص 15)، وينتابها شعور جارف إن الضيق في طريقه للتبدد، وأنها تسير نحو الخلاص...وفي ذات مساء ترحل أنوار...وتستقر في أحد معسكرات الثورة في بيروت. بعد سنوات يلتقي الراوي فيها، كانت قد كبرت ونضجت، ولكنها كانت كفاكهة محرّمة، فقد بنت متاريس حولها يصعب اجتيازها، ولم يعد لها رغبة ولا اهتمام بالحب إلا لهواء فلسطين، تقول له: "هواء الجليل، على مقربة من هنا...افتح ذراعيك وصدرك فقط...ألم تدرك سرّ انعدام الضيق من صدور أطفال المخيم بعد؟". (ص 17)
تخلت أنوار عن كل شيء يخص المرأة العادية عن المرآة وأحمر الشفاه، واستبدلت العطر برائحة البارود، وتزنرت برمان القنابل، والأهم تخلت عن حبها له، فهي تسعى وراء حب أكبر...في منفاه كان يتتبع أخبارها، وقيل له إنها ما زالت تحمل حزام الرصاص، "وإنها تواظب على هتافها للأرض على مفرق ضيّق بين "الشيّاح" وطريق "الحازمية". (ص 19)
فالمخيم الذي عشعش فيه المرض والفقر، وانكسار البعض، كان مثل بركان يغلي في صدور البعض، حتى انفجر ثورة لا درب لها غير درب النصر.
امتازت المجموعة القصصية باللغة السليمة، القوية، حيث كانت تتراقص بين يدي الكاتب، بخيال جامح، فالكاتب لديه القدرة على تكوين الصور الذهنية لأشياء ليست في متناول الحس، غير إنه كان معنيا بمدلولات محددة، في تلك اللغة، اشتغل عليها باقتدار، حتى أخذته إلى تخوم الصور الشعرية في بعض القصص،  ما أدى إلى تراجع في إبراز الحبكة عند بعض قصص المجموعة دون أن تفقد تلك القصص شيئا من قيمتها الفنية.
أيضا تكشف قصص الريماوي عن قدرة عالية في التبصر داخل أعماق النفس الإنسانية، وهذا مردّه إلى نضج التجربة ومدى عمقها لديه ككاتب، وظهرت شخصياته القصصية حية ونامية مما يوحي للمتلقي بواقعية مرهفة للأحداث في تلك القصص رغم خياله الجامح فيها كحكايات.
بعد الانتهاء من قراءة تلك القصص يظل هناك بعض الأثر في النفس، شيء يشبه النشوة أو اللذة، وهو غالبا ما تتركه فينا تلك النصوص التي تأخذنا معها في رحلة، رحلة ميدانية نعود منها بالكثير من لذة الاكتشاف على صعيد المعرفة، إلى جانب المتعة، على حد سواء.

 

محاصرة الأحلام في قصة "ليلة القهر"
للروائية الكويتية ليلى العثمان

"ذات يوم سأمتلك زجاجة عطر"
اختارت المؤلفة ليلى العثمان قصة "ليلة القهر" لتكون عنوانا لمجموعتها القصصية، ولا شك أنها كانت موفقة في ذلك. فالقصة جميلة، وأسلوبها رشيق ومفرداتها تضج بالحركة والحيوية وصورها عذبة منسابة رغم الألم والوجع التي تزخر فيه حياة شخوصها.
تتناول ليلى العثمان في قصتها عاملة آسيوية، تعمل كمنظفة لحمامات النساء في المطار، وأحلامها بسيطة، فغاية حلمها أن تمتلك زجاجة عطر، لذلك ما أن رأت زجاجة عطر قرب المغسلة لإحدى السيدات التي دلفت إلى المرحاض، حتى تملكتها رغبة جامحة في أن تندفع نحوها تفتحها، ترشّ قليلا على كفّها الخشن الذي يصكّ على –ربع دينار-ألقمتها إياه صاحبة الزجاجة قبل أن تغادر.
فكرت: "ماذا لو أخذت الزجاجة كلّها؟ أرشّها على جسدي فتفوح رائحتي شهيّة ككل النساء؟". (ليلى العثمان. المجموعة القصصية "ليلة القهر". الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت: منشورات الدار العربية للعلوم. 2010. ص72) فالعاملة الآسيوية المسكينة والمحرومة من كل شيء، عليها أن ترى النساء الجميلات والأنيقات بملابسهن الملونة، يخرجن من المراحيض ليتراكضن نحو المغسلة، يغسلن أيديهن المليئة بالذهب، ويضعن الأصباغ ويورّدن الخدود. وآخر لمساتهن زخات متتالية من عطور الزجاجات المبهرة، ثم يخرجن على عجل من أجل اللحاق بالطائرة.
تجلس العاملة على كرسيها تحلم بإكرامية، ولكن الكثيرات يدخلن ويخرجن غير شاعرات بوجودها، ولا "بحلمها الذي لا يهدأ ولا يبور، فتهمس لنفسها كلّ مرة: "ذات يوم سأمتلك زجاجة عطر". (ص73)
تعود منكسرة إلى غرفتها المتواضعة تطاردها رائحة الحمام الكريهة الملتصقة بملابسها وجسدها. وفي ليلها الطويل والمضجر، تشرع في التفكير بالنساء وزينتهن وعطرهن، وتحاول عبثا أن تصطاد ولو رشة، رشة واحدة من عطورهن، ولكنها ترجع إلى واقعها الزري بعد أن تصطدم برائحة زوجها الشاخر، الذي تنبعث منه رائحة "السّمبوسك وكبّة البطاطا" التي يتشبّع بها في المطعم الهندي حيث يعمل. وتقول لنفسها بحسرة وألم: أكيد يشمّ هو الآخر رائحتي المنتنة.
ويعود خيالها ليحلق من جديد، ويلاحق زجاجة عطر، ترش على جسدها وتتخلص من الروائح العالقة بها، وتلتصق بزوجها "تنام وفي دهاليز الأحلام تجد نفسها تطارد عشرات من الزجاجات ذات الأجنحة". (ص74)
تبدع الكاتبة بإدخال الشخصية الأنثى الثانية في القصة، والتي وأن ظهر الاختلاف بينها وبين العاملة إلا أنهما يشتركان في أن الحياة لم تنصفهما، وتعرضتا إلى النبذ والهجران.
تدخل المرأة إلى الحمام، تقدم للعاملة دينارا كاملا، وفي تصورها أنها تهبها ثروة، وتكون المفاجأة برفض العاملة له وتطلب عوضا عنه زجاجة عطرها، فتقول لها والحيرة ترتسم على وجهها، وماذا يفيدك العطر وأنت هنا؟! فترد بتوسّل "أرشّه في الليل ليجذب زوجي". (ص75)
وقعت كلماتها كالصخرة على رأسها وأصيبت بالدهشة والحزن، وعادت لها ذكرى أليمه، وتعبر عنها بصورة بلاغية "دفعتك امرأة الحمام غير قاصدة أن تفكي أحزمة ذاكرتك في اللحظة التي أنهيت ربط حزام الأمان". (ص75)
تتذكر ليال القهر وهي منزوية في فراشها "مغموسة بسوائل غضبه اليومّية. يعوفك وأنت أشهى من تفاحة، وأنضر من زهرة، أنت التي تشهّاها وتمنّاها". (ص75) ولكنه الآن يبعد وليس إلا زير نساء ومدمن للشراب وأناني، وخائب أملك أنك ستقدرين بذكاء وجمالك أن تملكيه وتغيريه، فمع الأيام بدأت تشمين عطورهن في ثناياه. وفي ليلة من الليالي يدخل إلى البيت منتشيا بخمرته، يحمل رزمة، وكاد قلبك يرفرف من الفرح، فها هو أخيرا تذكر وجودك بهدية، وعندما نام ركضت إلى الرزمة الملونة وفتحتيها لتذهلي أنها لصديقتك الأثيرة، فتحت الرسالة وقرأت "عطرك المفضّل الذي يدوّخني ويجعلني أسيرك دائما". (ص76)
تنهار وتلهبها الغيرة، تدلف إلى الحمام وتدعك جسدها البضّ المهجور، وترتدي قميصا شفافا سماويا، وتسكب نصف الزجاجة على أنحاء جسمها، وتندس تحت اللحاف ورغباتها تنطلق وتحلق، ينهض كالملدوغ، وهي تحتفل بقلبها الطائر "سيرويني بعد القحط ويقطف ثماري الناضجة إنه لعطر ساحر حقا". (ص77) ولكنها سقطت من أحلامها ورغباتها المشتعلة لتتلقى ردّة فعله الوحشية، وينهال عليها ضربا ويمزق الثوب السماوي، ويصرخ فيها "كيف تجرّأت على عطرها؟" رماها عن الفراش وبصق وشتم وألقى بها في قلب البانيو وغطاها بمساحيق الغسيل وأخذ يفركها بالماء ليزيل أي أثر للعطر. قضت ليلتها في البانيو غارقة بالألم والعذاب، غير أنها تنتفض بعد ذلك، وتتركه شاقة طريقها نحو الغد، وتتسأل: "كم مضى الآن منذ أن انتزعت روحك من بحيرته الآسنة هادلة ستائر النسيان السميكة على روائح قهرك القديم؟". (ص 77)
تخرج عاملة الحمام إلى الشارع، تمني النفس بنهار جميل وليلة منتظرة، ولم تشعر بالندم لأنها رفضت الدينار رغم حاجتها له، فهي تقبض بقوة الآن على حاجتها الأشهى والأغلى، تشد على حقيبتها المهترئة حيث تنام الزجاجة، وكأنها قلبها التي تحافظ عليه.
وصلت ملاحقها وقلبها يزقزق من الفرح، الذي لم تعرفه يومًا، وأخذت تغازل الزجاجة "أخيرا يا حبيبتي امتلكتك وسيعرف جسدي رائحة غير رائحته. آه..". (ص79)
ولكن أنّى لها، أن تعرف سّر العطر وطريقة التعامل معه، لذلك لم يخطر ببالها أن تستحم، وتزيل روائح جسدها العطنة المتراكمة، ولا أن تغير ثوبها الملطخ، ففرحها وحلمها الملهوف استلباها. أفرغت كل الزجاجة على جسدها، وقررت عدم القيام بأي عمل، وارتاحت مؤملة النفس بليلة سينسى فيها زوجها تعبه ويجرفه "تيار العطر إلى جسدها الجائع، ستداويه من ألم الصبر والانتظار، وبهذا العطر الساحر ستجعله يفرغ مطره المكتوم ويرشّ بذاره المخزون". (ص79)
جاء الزوج ليلا، وضع رأسه على الوسادة وطفق يشخر من التعب ككل يوم، ولكنه استبد به القلق، وسمعته يستنشق وكأنه يبحث عن رائحة ما، سعدت وظنت أنها استثارته ودنت منه بغرور، والتصقت به، زفر بقوة، أحست بجسدها يرتعش من جوع الرغبة، وحلمها يصل إلى منتهاه حتى جاءت صرخته لتنزل عليها كالوباء: "رائحتك الليلة كريهة لا أطيقها، قومي واغتسلي". (ص80)
شعرت أنها سقطت في بئر عميق تفوح منه الروائح، وأن الروائح اخترقت جسدها ومحت كل أثر للعطر، وأخذت مكانه الفارغ.
تعالج ليلى العثمان في مجموعتها قضايا المرأة، وتتناول أوضاعها المختلفة والمتردية، من كبت لحريتها، وفرض قيود على حركتها، ومحاصرة أحلامها، وشخصياتها على الأغلب في المجموعة هن من النساء الواقعات تحت وطأة القسوة والخيانة والظلم والقهر، ولكن ليس كل شخوصها يتغلغل فيها الضعف والهشاشة، فهناك نماذج استطاعت الانطلاق وكسر الطوق، والتحليق في فضاء الحرية الرحب.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك