قصة قصيرة: الإبحار في الفراغ


نهى الطرانيسي | مصر
أصواتٌ متكاثفةٌ كباقَةٍ من مختلف الأحاديث والشكوى، لم تجد لها بابا، حتى إن الآذان قد اختنقت من ضجيجها وسيطرتها.. بيدين مُتَعَرِّقَتين أجفّفُ وجنتيّ المتوهجتين وجبهتي ويدي قبل أن أبلل الصورة الشخصية لأعطيها للموظف لاستكمال الأوراق المطلوبة لاستخراج جواز السفر.
لم أصل بعد لسن العشرين ولكن ما رأته عيناي على مراحل حياتي أكسبني قدرة على حمل ما لم أكن أستطيع حمله، إنه يئز بداخلي أزيز إناءٍ لا يكفّ عن الغليان، يكشف وجهي عن سيدة أرملة طُبِعت ملامحها على وجهي البريء.
خرجت من المصلحة الحكومية، وما زال سؤال الموظف يتردد في أذني (ما اسمك؟) .. (هند !!).. تلوته سريعا.
نفدت المناديل التي كانت بحوزتي، وما زالت يداي تفرزان نداهما الرطب، صفة ورثتها عن والدي، الذي أراد مني السفر إليه ليقنعني مستقبلا بالإقامة معه وترك والدتي.
جفّفتُ يدي تكرارا بملابسي حتى لا ينزلق المفتاح من يدي، دلفت لغرفتي، تمددت على سريري الذي يتوسط الغرفة. هي لحظة يرتاح فيها العقل من التفكير ومن ذلك الخيال الذي يرسمه؛ ليبحر في الفراغ، لا تعلم فيم تفكر... هي فقط هدنة... سلوك يتبعه العقل ليهدأ.. ليستطيع المواصلة بعد ذلك.
وقعت عيناي على خدش على الحائط نصفه مخفيّ خلفَ الخزانة، تذكرته.. كنت أفعل ذلك حينما أتوتر، لا أعرف ما يحدث، ولكني أشعر بالسوء تجاهه، والخوف من القادم.. وأنت طفل هناك دائما حدس داخلك يخبرك بالصدق إذا ترددت، ولم تستطع فهم ما يدور حولك، حتى تكبر، وهنالك تأتيك الدلائل لتثبت صدق ذلك الحدس.
بيت تكافح فيه أمي أمام غرور أبي، غادر بدون رجعة ليفرغ غروره النفسي على آخر يتقبله ليس حبا له، وإنما هي غريزة الحياة والبقاء، إنها هدف بحد ذاته.
تأملت أمي وهي تخفي ألمًا خلف ضحكاتها وأحاديثها المفتعلة معنا، ليس ألم فَقْد الشريك بل ألَم المعاناة من معايشتها مع زوجها وصبرها، لم أستطع نطق كلمة (أبي)، أعلم أنها فطرة داخلية، ولكن فطرتي تشعر بالغضب والحزن والشفقة، لا أرى نفسي إلا وأنا أكمل الطريق منفردة، كلما رأيت بنات سني يتهامسْنَ بأسرارهنّ الوردية، وتنبئ عيونهن عن أحلامهن، نفرت..!
جعلتَني أيها الأب أنفر من فطرتي النفسية والبيولوجية. أتعاطف مع الأطفال فهم خلاصة تجارب آبائهم أيا كانت هذه الخبرات وما ستكون نتيجتها، فقط أشعر كأنهم فئران تجارب لا يعبئون بقيمتها الحقيقية.
الشفقة والحزن يعتريني كشق السكين، لا أدري شفقة على من، أشعر أنها على أسرتي كافة!!
حقيبة السفر فمها فارغ.. تنتظرني.. كلمات والدتي توصيني على نفسي خيرا.. أبٌ يبلغني برسالة أنه أرسل تذكرة السفر وسيكون بالانتظار.
أنا؟ ماذا أردت؟ دقات الساعة زادت من طنينها، الحقيبة نبت لها نتوءٌ.. عينان محدقتان، يدي ازدادت تعرقا، رنين الهاتف
_ مرحبا...
_ لمَ تصمتين؟! ألا تعرفين كلمة أبي؟!
_ نعم أبي، سئمت من تعرق يدي الذي أصبح يصيبني بالحرج.
_ عندما تأتين سأذهب بك إلى أفضلهم هنا.
_ ولكني لا أعرفهم.
_ ولا تعرفين طبيبا جيدا عندك أيضا، صحيح؟
_ نعم، لكن أمي تعرف...!!

 

تعليق عبر الفيس بوك