قولبة الفكر


 
د. حمود بن أحمد الحنيني | مسقط

تعلمنا في المدارس أنه "مَن جدَّ وَجدَ ومَن غرسَ حصدَ" فعندما يخرج جيل الشباب بتطلعات وتصرفات قد يراها باقي أفراد المجتمع غريبة أو دخيلة فلا بد أن نتذكر أن تصرفاتهم هذه ليست إلا نتيجة التنشئة وما غرس في فكرهم أثناء مراحل تربيتهم في مؤسسات التنشئة المختلفة. في كل مجتمع يوجد تنوع في الأجيال، وكل جيل يحمل أفكاراً عامة تطغى على أفراد الجيل وهي نتاج التنشئة والفكر الذي يتعرض له كل جيل. وسواء رضينا أو سخطنا من ممارسات شباب المجتمع، فهذه الممارسات لا يتحملها جيل الشباب وحده إذ ما نراه اليوم أمامنا من واقع أفعال تصدر من شبابنا هي ليست إلا نتيجة ما غرس في فكر الشباب وما هي إلا نتيجة ممارسات مجتمعية أسهمت في صياغة فكرهم وتوجيه تصرفاتهم وأفعالهم.

 فكر الشباب هو نتيجة مباشرة لتراكمات الأحداث اليومية التي يمر بها الإنسان منذ نعومة أظفاره. فكل ما يسمعه الطفل وما يراه في المجتمع من ممارسات تسهم في صناعة فكره وتوجهاته. والأحداث والمتغيرات اليومية التي يمر بها الفرد تعمل على صقل فكره وبناء خبراته التراكمية في الحياة ولذاك تنبع أهمية الاهتمام بنوعية الخبرات التي يمر بها الناشئة من أفراد المجتمع للتحكم في توجيه ما يغرس من فكر في عقول الناشئة والشباب بما يتناسب مع رؤية البناء لمستقبل الاوطان.

  في عالم اليوم المليء بالمتغيرات ومن أجل صناعة مستقبل مشرق للأوطان لا ينبغي أن تترك الأحداث والمعطيات اليومية لتكون كلها مجرد صدف عفوية تنشأ بذاتها لتصقل عقول الشباب في اتجاهات مختلفة قد لا تتوافق مع الموروثات الحضارية لبيئة المجتمع وكأن المجتمع بلا إرادة مجتمعية لربط ماضيه العريق ليصنع مستقبل مشرق لأبنائه. فهناك أحداث يجب ألا ينظر لها على أنها وليدة اللحظة وألا تترك لتمر مرور الكرام لأنها بتكرارها مع الزمن تصبح جزأ من فكر وثقافة المجتمع. فلا بد أن يشمل تخطيط المجتمع للأحداث الاجتماعية والممارسات في العمل وما يبث من فكر في الحوارات اليومية التي تشغل وتصنع فكر الشباب.

فحينما يجد الشباب صعوبة في البحث عن فرص العمل وتكثر الحوارات بينهم عن أهمية (الواسطة) يجب ان لا تمر قناعات كهذه مرور الكرام. فأفكار الشباب تنبثق من خلال ما يتعرضون له من مواقف في حياتهم تصنع منهم قوالب فكرية جماعية تشكل فكر المجتمع في قادم الأيام.

البداية دائما تكون في مستوى الأسرة والتي هي نواة تركيبة المجتمع؛ عبر الأسرة تتم صناعة مجموعة من الأفكار الأولية والتي يتخذها الشباب أساسا لعدد من القوالب الفكرية في المجتمع والحياة. فهذه القوالب تصنع من خلال أحداث ومواضيع تشغل أفراد الأسرة وتأثر في بناء فكر الأفراد والمجتمع. يتعلم الطفل من ممارسات من حوله ومما يسمعه وما يشاهده وما يطلب منه من أعمال منزلية ومدرسية. فأن يتم إقناع الطفل بقبول المكافأة على أعمال لم يقم بها من أجل (وهم) النجاح والترقي في السلم المدرسي مثلا، يكون لذلك تأثير على فكره عندما يكبر ويصبح موظف (وبعبارة أخرى فإن الصاعدين على أكتاف الآخرين في العمل هم نتاج مجتمع رضي بشراء الأبحاث لأبنائه من المكتبات للحصول على الدرجات المدرسية والجامعية). كما أن العبارات يطلقها الأهل أمام أبنائهم مثل (لا يمكن الاستغناء عن الشغالة، والبيوت لا تستقيم بدون الشغالة) ليست مجرد عبارات تمر مرور الكرام على الطفل وإنما عبارات سيكون لها أثرها على المجتمع في المستقبل القريب والبعيد من خلال قناعات الأفراد الذين كانوا أطفالاً، إن لم يقف المجتمع للنظر في أسبابها ونتائجها المستقبلية. حينما يكثر الحديث في مجالس الرجال أمام المراهقين بأن الزواج من غير بنات البلد يوفر له امرأة تقوم على خدمته وتسهر على راحته أكثر من بنات البلد وأن حقوق الزوج مسلوبة في المجتمع، بينما وفي ذات الوقت يتم إغفال تذكيره بالمسؤوليات الملازمة لحقوق الزوجة عليه سواء تزوج من داخل البلد أو خارجه، ما تلك التوجهات إلا سرطانات فكرية يسهم البعض بالترويج لها وإيصال رسائل خفية (قد لا يعيها المتحدث) الى أجيال ما زالت تبني فكرها عبر حوارات المجتمع ومؤسساته المختلفة لصناعة مستقبل فكر أبناءها.
 
ويعلم المهتمون بالتعليم والتربية أن هناك تعليم غير مباشر ورسائل مخفية يمكن أن يستقبلها المتعلم دون أن يتم التصريح له بمضمون ما يراد له تعلمه، وهي أكثر اثراً مما يسمعه في الدروس والحصص وكلام الآباء. وهنا تبرز أهمية الإعلام المحلي المستقل بشخصيته الاعتبارية ليدلو بدلوه في إنتاج ما يتناسب مع رؤية المجتمع المستقبلية والتصدي للأفكار القادمة من الخارج المستوردة مع الاعمال الفنية من أفلام ومسلسلات والتي يتم إنتاجها بهدف الربح المادي فقط دون التفكير فيما يبث من فكر يتوافق مع رؤية المجتمعات المختلفة لمستقبلها. فهو الذي يصنع الأحلام الوردية للفتاة وبأن فارس الأحلام سيحقق لها ما عجز عنه أو رفض أهلها تحقيقه، ومما يدور في مخيلتها من أحلام ورغبات كالسفر والتسوق بشراء كل ما يخطر ببالها. وهو يدخل في تكوين مفهوم الفتاة عن الزواج وكيف يجب أن تتصرف هي وكيف يتصرف ( الزوج الصالح) دون النظر إلى أولويات الشباب في المجتمع ومتوسط مستويات دخلهم المختلفة في كل مجتمع.

في السابق نجح الإعلام بساعات بثه القصيرة في اختيار وتقنين ما يبث للمجتمع بساعات بثه المحدودة فكانت الرسوم المتحركة تبث أهداف إيجابية رُسمت قبل رسم الصور. هناك عدة أجيال في مجتمعنا كل منها تربى على نوع مختلف من الإعلام الموجهة للأطفال عبر أفلام الكرتون، هناك جيل نشأ يتابع رسوم متحركة يابانية تمزج بين القيم العالمية في حماية كوكب الأرض من الأشرار والخيال العلمي في صناعة الروبوتات التي تساعد الإنسان في القيام بواجبات صيانة القيم. ويعد المسلسل الكرتوني كابتن ماجد أشهر مثال على الطموح الياباني في صناعة الفكر الرياضي وإحداث نقلة نوعية في الاهتمام بكرة القدم وتحقيق الحلم لبلوغ نهائيات كأس العالم.

واليوم تعمل قنوات عربية متخصصة للأطفال بساعات بث على مدار اليوم الكاملة تفائَل وتفاعل الشارع العربي مع افتتاح بثها لتكون بديل عربي يبث من أفكار من واقع العالم العربي، إلا ان ما يبث اليوم في هذه القنوات لا يتجاوز حدود (الغناء) بلا رؤية واضحة حول ما تحمله من أفكار، بل وعلى العكس تماماً فإن بعض ما نشاهده من تصوير فيديوهات الأغاني لا يتناسب مع أفكار وقيم المجتمعات العربية. والأخطر هو بروز قنوات عربية تعمل على إيجاد هوية تاريخية مصطنعة بتعمد تشويه الحقائق وغرس مفاهيم وأفكار لإنتاج جيل عربي بفكر مشوه لا يعرف الماضي بحقيقته ولا يرى إلا ما رسم له عبر برامج هذه القنوات مع عدم وجود بديل يجمع للطفل بين الترفيه والفكر السليم لبناء مستقبل يربط الماضي بالمستقبل وعلى المجتمع ان يخطط لأفعال وتصرفات ابناءه لأنها مع الوقت تصبح جزء من الثقافة.

 

تعليق عبر الفيس بوك