"ثلاثُ خطواتٍ إلى المِشنقة"

شعريّةُ السّردِ تنتصرُ على قسوةِ الواقع (2 من2)

د. يوسف حطّيني

 

ثالثاً ـ سعيد كائن لُغوي:

في هذه الحكاية المتقنة، ذات الحبكة الارتدادية الدائرية، التي تبدأ بالسؤال: "أظمأه ملح السؤال الذي أراد طرحه على ربّه"، ص7، وتنتهي بالسؤال: "ما هو سؤالك"، ص223، ثمة شخصية وحيدة تشبه شمس المتصوفة، تدور في فلكها شخصيات أخرى، تُخلص فينتهي أمرها إلى المشنقة، أو تتردد أو تخون أو تغدر، فتعيش حياتها ذليلة منكسرة، أو تعادي الشيخ وفكره، فتمارس سطوتها عليه وعلى رفاقه: قتلاً وتنكيلاً.

غير أننا سنكتفي هنا باستعراض قطبي الرحى في هذه الرواية: سعيد السائر نحو مشنقته بخطوات ثابتة، بما يحمله من ذكريات، والجنديين التركيين الذين يقودانه إلى حتفه، وما يمثلانه من مرجعية رسمية تجعل القسوة واللامبالاة أظهر صفاتهما؛ فسعيد يبدو مصراً على إيصال رسالة إلى الجنديين، وما يمثلانه، فحواها أنه لا يهاب الموت، من خلال عدة مواقف؛ فحين تدخل حصاة صغيرة بين أصبعين من أصابع إحدى قدميه تؤلمه وتؤثر على مشيته، وحين كاد يتعثّر في مشيته حاول "أن يطلب منهما أن يخففا سيرهما، لكنه قال في نفسه: سيظنان أنني اخاف التوجه إلى مشنقتي"، ص11. ويؤكد السرد الفكرة ذاتها في سياقات متعددة، منها:

  • "كاد الشيخ يقول لهما: بأي قانون تضعون حلقاً ظامئاً في الحبل؟ لكنه أنف ذلك وترفّع عنه"، ص145.
  • "لو كنا نبحث عن العمر المديد لبقينا في قرانا نكتفي بإرشاد الناس إلى الطريقة، ولعلمناهم كيف يطهرون آبارهم التي سقطت فيها القطط والفئران"، ص36.

وهو يستند في عدم خوفه ذاك إلى فلسفة حتمية الموت، وانطلاق سهم الحياة باتجاه واحد نحو ذلك الهدف النهائي؛ فالحياة، كما يصرّح، "زقاق وحيد الاتجاه ينسدّ من الخلف كلّما مشى فيه الإنسان"، ص11، وخطوات المرء معدودة عليه "وكل خطوة تدنيه أكثر من موته، تماماً مثلما تبعده عن يوم مولده"، ص13.

أما الجنديان التركيان اللذان قادا سعيد بيران إلى المشنقة؛ فيبدوان ظلّين متطابقين لشخصية واحدة، وهما بلا اسمين، ، وليس ثمة تمييز بينهما؛ لأنهما لا يمثلان نفسيهما، بل أنقرة التي ألبستهما لباساً عسكرياً، لا يعرف الرحمة، وأخذا درس القسوة، بشكل مبكّر، عن الضابط الذي رافقهما إلى الزنزانة، وقيّد يدي سعيد وراء ظهره؛ إذ طلب أحد رفاقه من الجنديين أن يمنحاه فرصة للشرب؛ حيث قال الضابط بلهجة جافة: لا تقلق. سيشرب الشيخ الماء في الجنة، سيشرب ماء الكوثر في حضن الحوريات"، ص49.

من هنا لا نستغرب أن يصبح الألم مدعاة لسخريتهما، فقد استثارا عطش الشيخ، حين دلقا الماء من المطرة في جوفيهما، وشدّ أحدهما "عقدة الحبل قليلاً؛ ليضيّق الحلقة، ثم سأل بسخرية: هيه. أيؤلمك هذا يا شيخ أفندي"، ص156.

وفي مواجهة كلّ تلك القسوة ينهض موقف صوفي متسامح من قبل الشيخ سعيد، تجاه ذلكما الجنديين اللذين "كانا صامتين، وكأنهما يذهبان غلى حتفهما لا إلى حتف الشيخ المقيّد الذي يمسكان بذراعيه"، ص15. وإذ يلاحظ رغبتهما في النوم يرقّ حاله لهما: "حطّت رغبة فظيعة في النوم رحالها على وجهيهما. رقّ قلب الشيخ لحالهما، وقال لنفسه: مسكينان، لم يناما جيداً"، ص10. ومثل هذا التعاطف مع الجنديين نلمحه في سرود أخرى، منها السرد التالي:

"لم يفهم لم توحّش الجنديان فجأة، وعصرا ذراعيه كل من طرفه!

ـ ربما يخافان الموت؟

قال لنفسه، وهو يرثي لحالهما"، ص37.

ولمواءمة شخصية سعيد يمنح الروائي كثيراً من مساحات سرده لغة ذات دلالات صوفية، على نحو ما رأينا في العتبات، وعلى نحو ما يمكن أن نرى في لغة الشخصيات، وارتباطها بالطبيعة، من مثل خضر البوطي، ومن مثل خالص الذي يقول لسعيد عندما يرمد، ملمّحاً إلى الكحل الذي تصنعه بريخان، بيتين من شعر الجزيري، هما: "لا شك أن تراب طريقها توتياء وكحل/ لو وضع في عيني أعمى لأبصر حالا"، ص92، مذكّراً بميمية ابن الفارض التي مطلعها:

شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً/ سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ

بينما يقول سعيد نفسه، ملمّحاً إلى نص شهير للحلاج (وينسب لغيره أيضاً): "ما في الجبة إلا نيران مستعرة. إنها لم تعد تضم شخصاً اسمه سعيد النقشبندي"، ص161.

وللحق فإن لغة السرد تجنج جنوحاً حاداً نحو الخيال الاستعاري، خاصة حين تقدّم جوانب من شخصية سعيد بلغة (السارد الشاهد)، وتلبس ثوباً مزخرفاً يتقن الروائي حياكته، على قدّ ذلك الرجل الذاهب إلى الموت. ويمكن أن نتتبع سحر اللغة في السياقات التالية:

  • "لاحت له المشانق من بعيد فبدت قدراً منصوباً من أعمدة وحبال"، ص13.
  • "لاحت النجمة اللامعة من خلال حلقة الحبل مثل زر من الضوء، بينما اختفت النجوم التي كانت ترتعش استعدادً للفجر"، ص64
  • "كانت مذراة خياله تذرّي بيدر أعوامه السبعين على أنغام ريح الموت الذي بدأ يقترب أكثر"، ص124.
  • "في ربيع ذلك العام في بالو كان الفتى سعيد يداوي رمد عينيه برؤية قامة بريخان"، ص97.

هذه اللغة من خلال احتفالها بالمستوى الاستعاري، نجت من السقوط في فخ الأيديولوجيا التي يمثلها سعيد، فالقائد المحلل المفكر لم يقحم اللغة الفجة المباشرة في أثناء التعبير عن أفكاره، وإنما استبدل بها لغة مجازية، تقول ما لديها من خلف غلالة شفيفة، ومن ذلك السياقات التالية:

  • "كل ثوراتنا التي نشبت لم تكن سوى بندقيتين أطلقتا النار بدون تناغم، ثم تبعتها المشانق"، ص19.
  • "نحن الكرد نخوض الثورات تماماً كما يدخل العميان حلقة رقص"، ص20.
  • "مزهرية سيفر التي وضعها مندوبو الدول العظمى على طاولة خيال الكرد بقيت دون أزهار"، ص138.
  • "بدا صف المشانق مثل سطر كتابة دوّنتها أصابع أنقرة بقلم من لوزان على ورقة كردية"، ص93.

رابعاً ـ إيقاعات السرد:

ثمة إيقاعات متعددة تتناوب السرد، وتدقّ صدر القارئ وعقله، على نحو ما نرى في إيقاع العطش الذي ضبط الحبكة، وإيقاع السؤال الذي منحها سمتها الدائرية، وإيقاع الجوز الذي قاس مدى فعالية انتفاضة الكرد، وإيقاع الظل الذي قاس أثر القائد الذاهب إلى المشنقة فيما حوله من أحداث.

لقد رافق إيقاع العطش الرواية من مبتداها، من الكلمة الأولى "أظمأه"، ص7، ومن ملح السؤال المجازي، إلى الظمأ الواقعي، بعد صفحتين، حيث "ما من أحد كان ظامئاً ذلك الفجر في آمد سوى ذلك الشيخ"، ص9،  وهذا ما جعل الشيخ يشعر "بأن تحت لسانه صحراء تتلوى من القيظ"، ص46. إذاً "بذلك العطش ذاته وقف الشيخ سعيد في تلك الليلة أمام حبل مشنقته التي كانت تنتظر رقبته"، ص105، فعلى الرغم من أن ينابيع دجلة كانت تمور بالماء فإن الشيخ ها هنا "ينتصب أمام مشنقته ظامئاً مثل نبتة عوسج"، ص35، "ناله الظمأ من ملوحة ثورته"، ص47. ومن "عطش الحب لا يشبه العطش إلى الماء"، ص104، فراح يحلم "بجرار الماء، بالينابيع والسواقي، لكنه لم يظفر ولو بجرعة منها. بقي في أحلامه دائم الظمأ"، ص15.

وقد تمادى به عطش الحب وعطش الماء معاً، حين طلب من بريخان أن تسقيه في ذلك الصيف البعيد، فغلبها دلو الماء وهي تصب له كأساً على حافة البئر، فسقطت في قاعه، وأُخرجت منه وهي تحتضر؛ لتسأل حبيبها سؤلاً واحداً قبل أن تموت: "هل شربت الماء يا مولاي؟". غير أن سعيداً لم يشرب، فرافقه العَطَشانِ: عطشُ الحبّ وعطشُ الماء إلى لحظات حياته الأخيرة.

إن تردد مفردات الظمأ ومرادفاتها في المقطع السابق غيض من فيض نص سردي يبحث عن الماء، وعن اللحظة المناسبة للسؤال، ذلك السؤال الغامض الذي أراد الشيخ أن يطرحه أمام ربه منذ العبارة الافتتاحية، ولكنّه كان يؤجله إلى لحظة اللاعودة، ليحقق المؤلف بذلك بنية دائرية للغة السرد والحبكة معاً؛ لذلك نجده يؤجله مرة بعد مرة:

  • "لم يحن أوان موتي بعد. سأطرح سؤالي في حينه"، ص8.
  • "أراد أن يطرح على ربه السؤال المؤجل، لكنه حين شاهد المسافة بينه وبين المشنقة قال: ما زالت هناك فسحة من الوقت قبل أن ينقر طائر الموت روحي"، ص17.

حتى إنّ الشيخ حين يصبح أمام المشنقة تماماً يرى أن وقت السؤال لم يحن بعد؛ لأنه يريد أن يكون سؤالَ صوفيٍّ نقيّ السريرة؛ لذلك يؤجله قائلاً: "لم يحن بعدُ أوان وضع المفتاح في قفل السماء"، ص100. ولعلّ من المفارقات التي يحفل بها هذا النص أنّه عندما يحين وقت السؤال يفقد الشيخ القدرة على طرحه: "الآن. ها أنذا بين يديك.. يلف حبل المشنقة رقبتي، ويصوغ قافية لحياتي. الآن  أريد أن أطرح عليك سؤالي.

(...) سحب [الجندي] الكرسي ذا المساند الثلاثة؛ فاختنق السؤال المالح في فم الشيخ الجاف"، ص220.

هنا؛ إذ تنتقل خيبة الشيخ إلى المتلقي، نتيجه هذه النهاية المأساوية يستعين جان دوست بالخيال الصوفي مرة أخرى؛ لمنح النهاية بعداً آخر، يشكّل اخضراراً في سواد ليل الشيخ:

"وضع يديه على عينيه من شدة النور وقوة لمعانه. لم يختف النور. لم تعد عيناه تؤلمانه. اتحد مع ذلك النور. لم يعد يرى نفسه. سمع صوتاً من تلك الأرجاء (...) كان صوتاً مرئياً مثل ضباب كثيف خرج من بين تلك الأمواج البيضاء الساطعة، وانسكب إلى أذني الشيخ قائلاً:

ـ ما هو سؤالك؟"، ص ص222ـ 223.

وإذا كان الإيقاعان السابقان بنائيين فإن الإيقاعين اللاحقين (الجوز والظل) يشكلان إيقاعيين موضوعيين يتخذان طابعاً رمزياً؛ فقد عمد السرد، عبر شخصيات مختلفة، إلى ترسيخ فكرة مفادها أن الجوز لا يستقر على القباب؛ فقد ظهر الدرويش خضر، وهو يخرج حبة جوز من كشكوله ويرميها نحو القبة، مؤمّلاً أن تستقر فوقها. وحين سأله سعيد عن الحكمة في أنه يرمي الجوز فوق القبة منذ سنة دون أن تستقر واحدة فوقها، أجاب: "ليس منذ سنة. بل منذ عشرين سنة يا ولدي. هذا جوز الأمير بدرخان. جوز أمير بوطان وآماله المهشّمة. يا حسرتاه. الذنب ليس ذنب الجوز يا ولدي. إنه ذنب القباب"، ص58.

وشيئاً فشيئاً يصبح الجوز رمزاً للكرد، والقباب رمزاً لبني عثمان، وإذ يروي خضر البوطي حكاية الأمير بدرخان لسعيد، يرسّخ هذا المفهوم في ذهنه: "كان ذلك قبل عشرين عاماً، حين أصبحت الجزيرة جوزة تحت سنابك خيل عثمان باشا"، ص59.

أما رفيق الدراسة خالص البدليسي الذي يجن في آخر حياته، بسبب مقتل زوجته الأرمنية، ثم يوجد مقتولاً في النهر، فيرث رمي الجوز نحو القباب عن خضر البوطي. وإذ يراه سعيد في هيئة غريبة، يقول له:

"ـ أنت تعرف يا خالص أن الجوزة لا تقف على القباب.

ـ تقف. إنها تقف. ومن قال لك: لا تقف؟ صحيح أن هذا الموضوع شاق، ولكنه ممكن إذا مهّدت القباب.

ـ والقباب لا تمهّد.

ـ بل تمهّد. القباب كرات عجين تمهّدها القوة"، ص123.

هنا يكتسب الجوز معنى آخر: حين تكون الثورة قوية بما يكفي، فإنها تستطيع تمهيد القباب والاستقرار فوقها. وفي سياق آخر، حين يشعر سعيد أن الناس تنفضّ من حوله، يتذكّر جوز خضر وخالص، فيقول: "وحبة الجوز التي رميتها أيضاً لم تستقرّ على القبة"، ص177. وعندما تندفع جموع الناس الهائجة لتهاجم مخفر بيران، في استباق غبي لموعد الانتفاضة الشاملة، ضاربين عُرض الحائط بنداءات الشيخ القائد، يصرخ، دون أن يصغي إليه أحد: "عودوا أيها الحمقى، لقد خطفتم جوزتي، فلا تهدموا القبّة. تعالوا أيها المتهوّرون. تعالوا لا تجهضوها"، ص184.

هكذا أجهضت انتفاضة الشيخ. ولأنّ ظله أضحى رمزاً من رموزها، على المستوى الرمزي، فقد برز؛ ليشكّل إيقاعاً متكرراً، ومتغيراً لها، فحين كان الترتيب للانتفاضة الشاملة يتم بشكل جيّد، وكان الشيخ ينتقل من مكان إلى آخر بخطوات مدروسة وهادئة، ظهر ظلّه أخضر اللون:

"قال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذه الكرامة. ظل الشيخ أخضر. ما أشدّ خضرته!

التفت الشيخ ونظر خلفه. رأى ظلّه فقال للمريدين مبتسماً:

ـ هذا ظل القلب. إنه ظلّ قلبي"، ص168.

إذاً الأخضر هو قلب الشيخ، ومعروف أن هذا اللون يحمل رمز الأمل والقدرة على التجدد والنماء، وهو صالح للتمثيل به، في المرحلة الأولى. غير أن هذا الظل يميل نحو الاصفرار، حين يهاجم المسلحون الكرد مخفر بيران بلا تخطيط؛ إذ يقول شركس مرافق الشيخ، بخوف:

"ـ ظلّك يا مولاي. ظلك لونه أصفر.

ـ (...) هذا ظل روحي، لقد ذبلت روحي اليوم يا شركس"، ص185

وإذ يدرك الشيخ إخفاق ثورته، ينبهه شركس إلى اختفاء ظلّه، فيردّ عليه بأنه غير موجود، أي أن انتفاضة الكرد كانت فقاعة، سببت القتل ولتدمير، ولم تخلّف وراءها إلا العدم:

"ـ ظلّك يا مولاي. ظلك. لا ظلّ لك.

ـ (...) الظل علامة وجود الأشياء (...) أنا لست موجوداً، فكيف سيكون لي ظل يا ولدي؟"، ص206.

*****

في هذه الرواية يلجأ جان دوست مرة بعد مرة إلى اللعب باللغة والزمن؛ لينتصر بهما على الواقع المرّ الذي صوّره، وليثبت أن الصورة الكارثية لما جرى، يمكن تمويهها خلف حجب الجمال اللغوي والبنائي، بغية الوصول إلى قلب القارئ. وكأنّي بالمؤلف يردد قول الشاعر محمود درويش: "وهناكَ ما يكفي من الكلماتِ كل يعلو المجاز على الوقائع"؛ ليجعل الواقع أقلّ قسوة ودموية.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

جان دوست: ثلاث خطوات إلى المشنقة، دار الساقي، بيروت، ط1، 2017.

تعليق عبر الفيس بوك