علي بن سالم كفيتان بيت سعيد
بعد أن أتمّ عاما في خدمة الأمير أحمد بن علي آل ثاني كان الرجل أكثر ثباتاً في وظيفته وأصبح يتقاضى مبالغ إضافية تجاوزت الـ 300 روبية، وهو مبلغ جيد في ذلك الزمن فتم إيفاء كامل الدين البالغ 100 ريال فرنس لدكان المؤونة في منطقة الحصن بصلالة عن طريق الحوالات الشهرية، وكل المكاتيب تبشر بالخير فمحمد وميزون كبرا وباتا يدعوان لأبو تمام راعي الدكان بدلاً من أبيهما لسماعهما هذا الاسم يتردد كثيرا بين الجدة والعم. وتم توفير الأعلاف الكافية للمواشي من سمك السردين المجفف أو كما يسمونها في ظفار (العيد) وباتت غرفة الريفي مركزا للمهاجرين الباحثين عن عمل في قطر من أهله وجماعته ممن يعرفهم ومن لا يعرفهم، فكرم بن ثاني غطى كل الاحتياجات من مأكل ومشرب لكل الضيوف، ولا توجد هناك مسألة عمّن يأتي ومن يذهب بل إن الأمير كان يسأل المهري عندما يطلع من قصره موقفاً سيارته عند باب الغرفة تواضعاً منه ويقول: "ضيوفك ضيوفنا يا سالم، أنا خبّرت الذوادي إنّه ما يقصر معكم" فيرد عليه: "خيرك فاضل طويل العمر".
في ذلك العام وفد إلى قطر رجال من ظفار في طريقهم للحج ومنهم فرج بن مسحات وكالعادة استراحوا عدة أيام في ضيافة الرجل، فوجدها فرصة ليطلب الرخصة من الأمير ويذهب مع جماعته للحج فهي فرصة لا تُفوّت ولكنّ الأمير كان خارجا في رحلة قنص وعاد فقط قبل ليلة واحدة من مغادرة الحجاج الظفاريين، وبعد صلاة الفجر توجه لمجلس الأمير فظل منتظراً حتى خرج عليه فسأله أن يأذن له بالحج مع أهله فالرحل منتظر الإذن من سموّكم لكي التحق بهم ولكنّ الأمير رفض. فخرج الرجل تعلوه علامات الحزن والأسى، وجلس على مفازة ينظر الراحلون إلى بيت الله الحرام والدموع تنهال من مقلتيه في صمت؛ وهنا بلغ أحد خويان الأمير بأنّ المهري يبكي في طرف المدينة بينما غادر أهله للحج فقال: جيبوا لي ياه.
حضر الرجل وعلامات الحزن الشديد على وجهه فسأله الأمير: (... ايش بلاك يرجل...) فجاوبه بأنني حلمت قبل عدة شهور في المنام أنّي أتيت حاجاً إلى بيت الله الحرام ولمّا قدم أهلي من ظفار توقعت أن يتحقق حلمي بحج بيته الحرام وزيارة قبر النبي صلى الله وعليه وسلم، ولكنكم رفضتم فما كان مني إلا ما ترى يا سمو الأمير. فقال له: "تعال اجلس عندي أنت ولدنا ونحنا راح نحج العام المقبل وإنت بتكون معنا بإذن الله" وهنا ارتاح فؤاد الرجل قليلا رغم الشعور بالغصة على ضياع فرصة حج هذا العام مع وفد ظفار.
ومع حلول موسم الشتاء الجديد استعد الجميع للقنص فمنهم من يذهب إلى فارس ومنهم من يتوجه لبادية قطر وطبعاً سمو الأمير رجل مولع بالقنص كان صباح يوم بارد والمجلس عامر بالرجال والسلب والسيارات جاهزة، فالأمير سيذهب في رحلة قنص لمدة لا تقل عن شهر والمهري كان في طرف الجلسة ذلك الصباح فطلب منه الأمير الاهتمام بالحلال ورعاية المجلس مع الخويان إذا احتاجوا وخرج الأمير من مجلسه العامر وخلفه المهري وكان في يده رزمة روبيات في العادة يعطيها للسائقين والمرافقين وعندما هم بإدخال المبلغ إلى جيبه طاحت الرزمة على الأرض فأخذها المهري، ونادى الأمير وقال له هذي الفلوس طاحت منك طويل العمر، فرد عليه الأمير بأنها مش فلوسي. وهنا علق بها إلى يد الأمير، وقال أنا ما جيت من بلادي عشان أبوج دارك. فضحك الأمير ورجع للمجلس وسأل الربع وقال لهم: إذا طاحت من هالفوس مني من يرجعها لي؟ قال له واحد: فلوس تطيح من يد حمد ونرجعها لحمد اللي يسويها يا طويل العمر الله لا يرجعه لأهله ولا يدخل الجنة. فقال لهم الأمير أي بالله المهري عملها. فضحك الجميع وأثنوا على أمانة الرجل، وغادر الأمير وركبه إلى رحلة القنص السنوية.
في غياب الأمير كانت المسؤوليات على الرجل أكبر فمعظم الشيوخ والخويان غادروا الدار، فكان يجلس في المجلس مع طاقم الضيافة، ويستقبل من يفد للمجلس، ويقدم لهم الواجب، وفي الغالب يبلغهم بأنّ الأمير في القنص وسيعود بعد شهر تقريباً. بعد غيبة عاد الأمير فتهللت المدينة وعادت المياه إلى مجاريها، وبعد عدة أيام استدعى الأمير المهري وأجلسه بجواره وقال له نحن ذاهبين الحج وأنت معنا بإذن الله.. وفي هذه اللحظات لم تسع الدنيا الرجل من الفرحة فقام وقبّل رأس الأمير وشكره واستأذنه بالخروج ليتجهز فالرحيل سيكون بعد غد. وهنا حج سالم مع الأمير أحمد بن علي ال ثاني أمير قطر رحمه الله فكانت حجته الأولى حيث طاف ببيت الله الحرام وهو لا زال تراباً وزار قبر النبي صلى الله وعليه وسلم فوجده كما رآه في المنام قبل عام..
وللحديث بقية بإذن الله.