عبد الله عيسى لا ينسى وجهه في مرايا الآخرين

...
...
...


أ.د/ يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

حين ينتهي المرء من قراءة ديوان "وصايا فوزية الحسن العشر" يؤمن إيماناً راسخاً أن الشعر الفلسطيني يقوم، رغم مرحلة الضغف العربي، بدوره في رفد الذاكرة الشعبية التي تكبر وتتسع؛ لتنتقل إلى جيل أكثر قدرة على التحرير؛ فالشاعر لا يستسلم لسطوة المحتل، ويزرع شعره في واحة الوعي، متفائلاً بأنها ستزهر في ذاكرة الأجيال، منطلقاً من إيمانه بأنّ العدو في هذه المرحلة يخاف الذاكرة أكثر مما يخاف الجنود.
من العنوان نبدأ.. من "وصايا فوزية الحسن" التي هي أمّه، وأمّي، وأم جميع المشردين في مخيّم اليرموك ومخيم جرمانا والعائدين والنيرب، وفي كل مخيمات اللجوء، وها هي ذي تجد مجالاً رحباً لتقول ما لديها من الوصايا، تلك الوصايا التي تتمايز عن الوصايا التي تلقفّها موسى على لوحي الشريعة في جبل حوريب، ودعا المسيح إلى العمل بها، وعن الوصايا العشر في الإسلام. وها هو ذا شاعرنا يتلقف وصاياها وينثرها في صفحات ديوانه، لتعانق وصايا أمهاتنا، مقدّما لتلك الوصايا بإهداء ديوانه لابني أختيه الشهيدين: محمد تيسير المحمود ومحمد حسين عجاج. ولعله ها هنا يريد أن تستأثر السلالة بهما، وأن يحرسهما من هواة الرثاء، مذكّراً بقول محمود درويش: "عندما يذهب الشهداء إلى النوم، أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء".
تحتل قصيدة وصايا أمنا فوزية الحسن مطلع المجموعة، وربما يحتاج المرء بعض عناء للبحث عنها في تضاعيف قصيديه، غير أن تلك الوصايا تدور جميعاً حول صديقي الشاعر عبد الله/ الفلسطيني/ وحولي: أنا الذي أشبهه في أمنياته وأحلامه، فتقول له:
•    "امضِ إليكَ وحدكَ" ص9
•    كن كما أنت مثلك، ص11.
•    لا تنسَ وجهك في مرايا الآخرين، ص14.
•    "لا تجئ من حيث عدتَ"، ص16.
•    "لا تلتفت للبلاغة راقصة في مديح الطغاة"، ص19.
•    "قل لهم: من  رمى حجرا كي يعدّ الدّوائر في النهر/ آذى الحصى والطحالب والسمك المطمئنّ" ص20.
•    "إذا لم تبك، مثل الريح بين ظلال هداهدٍ/ حاول فحسب". ص21.
•    "لا تقل مثلما قال عشاقها مذ رأوها لها/ ثم خرّوا على ركبتيها: أحبك"، ص22.
•    "جد لها عذرها/ إن أتت متأخرة، لو أتتك على موعدين"، ص24.
•    "لا تنتبه للظلّ في عينيكَ/ حتى ينهضَ الرجلُ الذي صلبوه من بين المقابر".ص26.
وإذ ينهي وصيته العاشرة يسرّب وصيّة أخرى تقول: "فامض وحدكَ بين ظلّكَ. قد يعود إليك"، ص26. فإذا نظرنا إلى جوهرها لمحنا ارتداداً إلى الوصية الأولى، يهدف منه عبدالله فنياً ورؤيوياً إلى أمرين: الأول أن يحقق لقصيدته بنية دائرية تعود فيها النهايات إلى بداياتها؛ ليحاكي ضياع الفلسطيني في متاهته، والثاني أن يؤكد أن وصايا الأم كانت وما زالت تتلخص في أن يحمل الفلسطيني صليبه، وأن يدرك أنه (جمل المحامل)، وألا أحد غيره سيحمل مفتاح فلسطين الثقيل. من هنا فعلى الفلسطيني كما جاء في الوصايا أن يكون هو، وألا يلتفت للمجاز في قصيدة مدح الطاغية، وأن... وأن... وأن... غير أن الوصية التي تكتب بماء الذهب هي الوصية الثالثة التي تقول: "لا تنس وجهك في مرايا الآخرين"، وهي تميمة من تمائم الشعر يمكن أن يتكئ عليها الشاعر الرسام والقاص؛ ليبني لنفسه عالماً مدهشاً من الإبداع.
**********
ثمة إيقاعات موضوعية لا تخطؤها عين القارئ، يقرؤها فتقرّع أذنيه باستمرار في هذا الديوان: فإيقاعات التشرد والرحيل والفقد والغياب والموت، حاضرة باستمرار، تطلّ من كلّ قصيدة؛ لترسّخ حال الفلسطيني: شهيداً وشريداً. من هنا يمكن للقارئ أن يفهم حضور المكان وغياب صاحبه في أكثر من سياق، من مثل قوله:
"لا تنسَى الأماكنُ ظلّها
إلا على أثرٍ لماءٍ عابرٍ في الريح
مثلكَ"، ص17.
كما يمكن له أن يتلمّس آثار الفقد الذي لا يقتصر على الإحساس بالآخر القريب الذي يتلاشى، بل يتعدّى ذلك إلا فقدان الذات أو جزءاً من أجزائها، كأن يتفقد الميت جثته، أو يبحث عن عضو من أعضائه. يقول عبد الله في بداية قصيدة "صدى لظل مائل":
جسد آخر قابل للحياة
على عجلٍ يتفقّد أعضاءه في المرايا
ليرجع من حيث عاد" 65.
أما إيقاع الموت فهو الذي يبدو أكثر حضوراً ابتداء من العنوان؛ حيث تفترض الوصايا  موت صاحبها، مروراً بالإهداء إلى شهيدين من شهداء "السلالة"، وليس انتهاء بالذين غادروا عالم الحضور إلى عالم الغياب بالشهادة أو بالموت قهراً وانتظاراً. ولنا هنا أن نشير إلى مثالين: واحدٍ نجتزئه من قصيدة رثى فيها عبد الله عيسى الشاعرَ الفلسطيني الرّاحل سميح القاسم، يقول فيه:
"لكنّه الموت يأتي؛ ليبقى طويلاً
فنشبهه في المرايا،
ولا يتجوّل بين الأسرّة إلا ليخطف أجملنا"، 109.
ومثال آخر نأخذه من قصيدة يرثي فيها الشهيد أحمد محمود، فيقول في سياق شعري موجعٍ ذي دلالات كثيفة تحمّل الذاهبين دم الراحلين:
"كان يُسند فكرتَه في المساء على كفّه،
ويغنّي كعادته في المرايا لسيدة لم تزره
سوى مرةٍ واحدهْ
لم يصلّوا عليه
اكتفوا في الصباحِ بان ورثوا غدهُ
دون أن يبصروا دمه
في الكؤوسِ على المائدهْ"، ص66.
على أنّ المرء يلاحظ، حين يتناول عبد الله عيسى موضوع الشهادة أو غيرها، حضور الآخَر في نصّه على نحو بارز، فحين نتساءل مع الشاعر عن سبب ما فعله أحمد وناس في قصيدة "حارس المقبرة 1970":
"ـ ما الذي حلّ؟
حتى بنى خيمة عند مدخل مقبرة الشهداء
ـ ليحرس سكانها المطمئنين من شر ما كاده الجنّ
والناس"، ص65.
تصلنا إجابة تحيلنا على نص درويشي سبقت الإشارة إليه في بداية هذا المقال، وإذا بحثنا فكرة الصليب نجد الشاعر يفيد من التراث المسيحي الذى بنى عليه كثير من الشعراء، ولن نعدم وجود آثار المتنبي في سياقات متعددة منها: "الدرب الذي آلمتَهُ بالشوك في قدميك أدفأ من بيوتٍ لم تزل فيها غريباً كالنبي" ص10، كما سنلمح آثار أسطورة نرسيس في قوله:
"تجيئين قبلي كثيراً، وبعدي كثيراً،
إلى ضفة النهرِ
تنتظرين، وأنت تلومين دمعتك الراعفهْ
كان وعدك
مثلك
نرجسةً زائفهْ" ص44.
وهذا يعني أنّ الشاعر يستثمر مقروءاته ليبني تناصات متقنة تخدم رؤية النص، وربما علينا أن نعيد التأكيد هنا على أن عنوان المجموعة ذاته "وصايا فوزية الحمد العشر" منبنٍ على سياق ثقافي ديني سبقت الإشارة إليه، وأن الوصية الأولى التي تمتاز ببراعة الاستهلال: "في البدء كنتَ" ص9، تعيد إنتاج "سفر تكوين فلسطيني"؛ إذ لا يحتاج  المرء لكبير عناء حتى يلتقط تلك الإحالة على سفر التكوين، فكأنه يضع سفره في مواجهة سفر الطغاة الذي يستندون إليه.
إلى ذلك يمكن أن يضاف أن النص الشعري الذي يقدّمه عبد الله عيسى يعتمد اعتماداً كبيراً على الصور التي تطرح على مخيلة القارئ سؤال الدهشة من مثل قوله:
"النساء كما الماء
كُنْ ليديهنّ رائحةً كي يعدنَ إليكَ"، ص23.
ومن مثل قوله:
"لأنكَ تشبهُ المجرى ستتبعُكَ الينابيعُ التي انحدرتْ من الجبلِ المجاور"، ص9.
ومن مثل اتكائه على صورة الحلم؛ ليبني عالماً غريباً ترتاح فيه روح الشاعر المنفي؛ إذ يقول:
"ليس عندي
غير حلمي كي أصدّقه، ويشبهني،
يطارده رجال الأمن مثلي في العواصم
والمطارات الكبيرهْ" ص93.
**********
ولعلي هنا أشير إلى ظاهرة يهتم بها عبد الله عيسى، وينجح في تظهيرها في عدد من نصوصه القصيرة جداً، وهي ظاهرة السردية التي تنتهج نهجاً متنامياً، تشكل من خلاله وحدة موضوعية لا يلتفت إليها كثير من الشعراء، على نحو ما نجد في قصيدة تحمل عنوان "في وصف حال الحاجة أم صبحة"؛ فهي ترصدها، عند افتتاح النص، في برهة الانتظار:
"العجوز التي وهنت في يديها العصا
وانحنى ظهرها تحت صرّة هجرتها فجأة
ويداها اللتان ترملتا
قبل أن يضع العابرون حقائبهم في الممر
لم تلد ولداً لتقول له: لماذا ذهبت إلى الحرب وحدك". ص64.
ثم ترافق القصيدةُ بطلتَها، بوساطة لغة شعرية سردية، في الطريق إلى جبل الشيخ، حيث تستوقف المهجّرين والمنفيين والذاهبين والعائدين؛ لتسألهم:
"كيف حال فلسطين؟"ص64.
وعى الرغم من أنني لا أميل كثيراً إلى إطلاق أحكام القيمة، فإنّ ذائقتي التي قد أخفق في تسويغ احكامها، مالت ميلاً شديداً إلى قصيدتين، ربما  كانتا أجمل قصائد الديوان، تحمل إحداهما عنوان "نشيدُ بحّار عجوز" والثانية تحمل عنوان"ظل العائد"؛ إذ إنهما تصلحان نموذجين فين لتضافر العناصر الفنية كافة لتحقيق مقولتيهما: ثمة في كل منهما سرد ينمو، ترفده الصورة والإيقاع، والتكثيف والقافية المطمئنّة، لتصل إلى نهاية تحقق الإدهاش، وتغلق دائرة السرد، وتلغي حاجة القارئ المستمرة إلى سؤال: وماذا بعد. يقول الشاعر في "نشيد بحّار عجوز":
"أكتفي بقليل من الماء والخبز،
يا نهر،
خذني على قاربي الورقيّ معكْ
لأطلَّ على ذاكرات النوارس في بحر يافا
كأنّ أصابع أمّي تراني برائحة البرتقال هناك
وأحجارها لا تزال تئنّ بصدر أبي كالرّحى
لستُ أكثر من ألم الضوءِ
ذاكَ الذي مسّني  بين عينيّ ثم امّحى
أكتفي بالقليل من الشمس،
قد أكتفي بالهواء القليل، بما عافَ
طير البراري الحزين، فخذني
لأحمل عنك الذي أوجعكْ"، ص40.
ويقول في قصيدة "ظل العائد":
"أرتدي، بين حصارين، خوذةَ جدّي الّتي
كلحتْ منذُ حربِ فلسطينَ فوق الجدارْ
لأكبرَ في خلسةٍ عنهما
وأردَّ السّلامَ على قبرهِ في حديثِ السّلالةِ
وحدي،
لأرجعَ، من حيثُ جئتُ، إلى صورتي معَهُ في الإطارْ
وما كنتُ ذاكَ الّذي خصَّهُ بالعباءةِ والسّيفِ
عند الشّريطِ الحدوديّ
لكنني صرتُ أشبهُهُ،
غيرَ أنّ يدي هرمتْ في مصافحةِ الغُرباءِ،
وعينيَّ لم تعرفاني، كما كانتا
بعدما انتهتِ الحربُ
يا ليتني مِتُّ مثلكِ، يا جدّتي، قبلَ هذا الحصارْ"، ص41.
**********
أخيراً فإنني، بعيداً عن ازدحام المصطلحات والتأطيرات التي يختزنها الوعي النقدي، وبعيداً عن القوالب التي تقيس الشعر بميزان الوزن والصورة وفصاحة التركيب، وعن الخلاف الذي أدّعيه بيني وبين أصحاب قصيدة النثر التي يراوح صديقي بينها وبين التفعيلة، يمكن أن أشير إلى أن هذا الديوان أفسح المجال واسعاً أمام ثلاثين سنة ارتدّت إلى ذاكرة المخيمات؛ لأشاهد عبد الله عيسى الشاعر الشاب الصامت الغاضب المتمرّد الذي ينشد شعراً نشمّ فيه عبق الأمهات ونرى فيه صور الشهداء التي تملأ الجدران.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
•    عبد الله عيسى: وصايا فوزية الحسن العشر، دار ابن رشد، القاهرة، 2017.
•     الوصايا التي تلقفها موسى هي: لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي، ولاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، ولا تحلف باسم الهك باطلا، واُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ، وأكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، ولا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد شهادة زور، ولاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ.
•    الوصايا كثيرة جدا في القرآن والسنة، غير أن أهمها ما ورد في سورة الأنعام، وقد تكررت في سورة الإسراء، وهي: توحيد الله وعدم الإشراك به، والإحسان للوالدين والبر بهما، وعدم قتل الأولاد خشية الإملاق، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعدم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والحفاظ على مال اليتيم وعدم القرب منه إلا للمصلحة، والإيفاء بالكيل والميزان بالقسط، والعدل وقول الحق، والوفاء بالعهد، اتّباع صراط الله المستقيم و عدم اتباع سُبل أخرى.

 

تعليق عبر الفيس بوك