اشتباك نقدي مع قصيدة: "واجِهْ مَراياكَ" لـ "عمر هزاع"


محمد صالح محمد| ناقد

[واجِهْ مَراياكَ]
***
لا تُخفِ وَجهَكَ
لا تُنكِرْ خَطاياكا
فَلَن تَكُونَ بَرِيئًا
فِي مَراياكا
*
سُدًى..
تُحاوِلُ لَمسَ الماءِ
مُجتَنِبًا مَعنى سُقُوطِكَ
- وَحلًا -
عَن شَظاياكا
*
هَذي القِيامَةُ؛ فِي جَنبَيكَ دامِيَةٌ؛ شُمُوسُها
وَضُحاها مِن ضَحاياكا
*
فَقِفْ وَحِيدًا
وَحَدِّقْ جَيِّدًا
لِتَرى:
ماذا تَرَكتَ؟
وَما جَدوى وَصاياكا؟
*
ما زِلتَ تَزحَفُ
بِالكِفلِ الثَّقِيلِ
وَلَم تَكُنْ خَفِيفًا
وَلَم تَصدُقْ نَواياكا
*
ذَهَبتَ تَحمِلُ وَردًا
وَالطَّرِيقُ هُدًى
فَعُدتَ تَحمِلُ؛ أَشواكًا؛ هَداياكا
*
وَكُنتَ تُعطَى
فَتَنسى
ها.. رَجِعتَ..
وَلَم تَجِدْ؛ لِتَرجِعَ؛ بُدًّا مِن عَطاياكا
*
إِيَّاكَ..
أَن تُقنِعَ المِرآةَ:
أَنَّ دَمًا؛ عَلى يَدَيكَ بَدا؛ كالماءِ
إِيَّاكا..
*
الآنَ..
وَحدَكَ..
لا شُبَّاكَ..
كُلُّ صَدًى؛ عَلى البِلاطِ؛ تَهاوى..
مِن سَباياكا..
*
ما فِي الزُّجاجِ انحِناءاتٌ..
وَلَيسَ هُنا..
سِوى الحَقِيقَةِ..
تَطفُو فِي حَناياكا
*
لَملِمْ بَقاياكَ..
هَذا الجِسمُ يُرهِقُهُ؛ جِدًّا؛ بَقاؤُكَ..
وَاخرُجْ مِن خَلاياكا..

****
الإضاءة:
في نظرة أولى عجلى: حين يتخذ الشاعر من قصيدة له مرآة وجودية، ويحمّلها بإشراقات فلسفية حياتية، تخاطب فكر الإنسان، وتقوّم في منهجيتها حياته الداخلية والخارجية، وجدانه و كيانه، بكل خباياه ومنطلقاته ودقائقها، وحين تستطيع -هذه القصيدة- بكل جمالياتها وشفافيتها الغنائية أن تكسر الحجب، ومنها حجاب اللغة، والفكر، والعاطفة.. والسلوك المتأرجح المتفاوت، لتطوّعها وتوظّفها في إيقاعية هجومية تحاصر الفرد المتلقي بأبيات مضيئة مصقولة -وهي تمثل مرايا القصيدة بإشعاعاتها الصادقة-، عندها يتحول الشاعر إلى فيلسوف واعظ مجرّب، يقبض على أرواح الأفكار والتجارب الإنسانية، ويدفع بالإنسان الفرد المتلقي والمخاطب إلى روح الحقيقة الإنسانية المطلقة..

(وفي إشارة بعيدة محبّذة:
وتتحوّل القصيدة في همها وتعبيرها وطموحها إلى نبض بشري عام، ومرآة إنسانية صادقة صافية، يمكن أن تعْني للإنسان العربي الذي تخاطبه وتُغْنيه وتُغنّي له كرافد فنيٍّ ثقافي حضاري، ما تغْني وتغنّي وتعني لغيره من العرب لو ترجمت للغاتهم.
فهي مرآة عالمية تعكس تجارب الإنسان الحياتية. وهل أروع من أن تُترجم مثل هذه النماذج المشرّفة والمشرقة؟)
إنها قصيدة مضيئة ولكل بيت فيها إشعاع يتشعشع، فهي مرايا الشاعر الفيلسوف الفنية والفكرية التي يواجهنا بها ، يحاور فينا الإنسان، كي نسأل:
هل وقفنا بصدق وجودي إشراقي مع أنفسنا..؟
ألا ينبغي ذلك؟
أين وصلنا في جوهرنا الإنساني وفي تجربتنا الحياتية بكل مظاهرها وخفاياها؟
ألا تطفح مرايانا/حياتنا أفكارا وسلوكيات/ بتناقضاتنا الصعبة الرديئة؟
ألا نكف ونعترف ونواجه فينا الحقائق المشوّهة والمظاهر الخلابة الزائفة؟
ألا نتخلص من المزايدات ونراهن على طبيعة أنفسنا ونتقبّلها بعيوبها وبجهادنا للتخلص منها وتهذيبها؟
أنحن زينة أم جوهر؟
من أنا؟ من أنت؟ من نحن؟
هل من انعتاق حقيقي؟
لَملِمْ بَقاياكَ..
هَذا الجِسمُ يُرهِقُهُ؛ جِدًّا؛ بَقاؤُكَ..
وَاخرُجْ مِن خَلاياكا..

إن هذه الوقفات والدفقات/ المرايا الشعرية في هذه القصيدة الرشقية ليست زينة لغوية، ولا استعراضا عابرا، بلا حصيلة وجدانية حياتية عبر اللغة، كما أن وقفتنا أمام المرايا، ما ينبغي أن تكون زينة شكلية وظاهرية، هي تهذيب وصقل جوهري، وإحاطة ودفع بالعمق كما هي إحاطة ودفع بالمظهر. والجمال الأسمى هو جمال الداخل منعكسا على الخارج.
ومن هنا تتغلب المرايا الشعرية على المرايا المصطنعة الطبيعية بجدارة في الأهمية والأثر.
ومن هنا أيضا، فإن هذه المرايا الشعرية هي مرايا تتخذ شكلا ظاهريا هو اللغة والإيقاع والأسلوب والنظام اللغوي الشعري صورة وقالبا، ولكنها في الفكرة والغاية -وفي مخاطبتها الفنية الصريحة تتخذ نهجا وجدانيا وعمقا فكريا مقنعا ومشرقا بلغته السلسة الطافحة تنبيها وتحذيرا، وتلميحا وتصريحا، واستثارة وتحفيزا ومواجهة محكمة.
إن الحقيقة لابد أن تسطع، ولا بد أن تنكشف.
وكل تزيين زائف مخيبٌّ للآمال وللظنون، ولابد أن ينفضح ويتضح بل ويجرح.
ما فِي الزُّجاجِ انحِناءاتٌ..
وَلَيسَ هُنا..
سِوى الحَقِيقَةِ..
تَطفُو فِي حَناياكا
وبعد فالقصيدة أضواء سابحة لملمها الشاعر الصياد الماهر والفيلسوف الثائر وسكبها أمام كلٍّ منا مرايا رشيقة أنيقة تفتننا حين نقف أمامها، ولكن علينا أن نسبر فيها الروح والجوهر والمسيرة والعاقبة.. هي قيامتنا اليومية على أن تكون قيامة صادقة لا أن تكون:
هَذي القِيامَةُ؛ فِي جَنبَيكَ دامِيَةٌ؛ شُمُوسُها
وَضُحاها مِن ضَحاياكا

***
وفي جانب آخر، وفي نظرة ثانية موجزة مرتبكة امام المرايا:
إن الأدوات التعبيرية الإنشائية المتنوعة قد سكبت لنا هذه المرايا وصقلتها حتى استوى زجاجها الصافي بلا انحناءات، واستوت هي مرايا بالغة الرقة والعذوبة تترقرق في ضوئها الجمالي وتتشعشع في فتنة التعبير والكشف. (وما أجمل أن تكون هناك وقفات أخرى حول هذه الأدوات! جدير بنا نحن المتلقين القرّاء اجتراح ذلك.)
ها إنني ، ولو توهّمت أو عجزت عن التقدير والتعبير، لكنني أغامر وأتجرأ إذ أقول:
* للمرايا الشعرية صوت وصورة تنبثق من سطحها وغورها:
إنني (أسمع) أصواتا للمرايا تعكسها اللغة في إيقاعها الشعري المنجز والنافذ، وفي أدواتها التعبيرية المتشكلة.
كما أنني (أرى) في المرايا اللوحات الفنية التي رسمتها الأبيات بكل اقتدار وحلاوة وطلاوة في الصياغة وحقيقة التجسيد وابعاد التصوير.
إن هذه المرايا الشعرية حية وغنية ومتحركة ومتكشّفة ومتكلمة.
إنها (أصوات) تنسجم مع (المشاهد) المبثوثة، في تناسق لغوي إيقاعي، ضوئي وصوتي.. فهل أنا واهم ومسرف في الخيال؟ أم لعلي عاجز عن الإبانة والاستدلال؟
* هنالك بلا شك، جمال متكّون وناشئ ومنضوٍ عبر الأنساق الإنشائية وأدواتها وأنماطها وهو جمال مندغم ومشتبك لغة وإيقاعا.
* إن الجمال الإيقاعي لأبيات القصيدة وصوتها الشعري في وقفاتها واسترسالها -إن كانت كوحدات صوتية للكلمة تحمل علاقتها الخاصة وتؤثر وتتأثر بباقي الكلماتةفي السياق اللغوي والإيقاعي، أو كانت كفواصل ترسم العلاقة بين الجمل لغة وأيقاعا ، أو كأنماط تركيب، فإنها كلها تندرج في أدوات تشكّل القصيدة وأنساقها، وهي تبث الجمال المنضوي عبرها، وهي حقا تجعلني أشعر أو أتمثل ذلك صوتا وصورة، وليس صورة فقط، وكأنني أتمثّل صوت الشاعر وكأنه يخاطبني بصوت متقطع يخرج من المرايا، يخاطبني أنا المتلقي ولا يكتفي بعكس وكشف الصور/ صورتي كواقف ناظر متلقٍّ، ولكنني أكاد أسمع هذا الصوت المتقطع المتوقّف حينا ثم المسترسل ينساب في مسمعي بلباقة وإثارة مشبعة بنبرات صوتية فائقة التأثير والتغيّر بين رقة وعذوبة وبين انفجار تحذيري، بين أمر وطلب وتحذير وإغراء أو حث أو توبيخ وزجر.. ولعل لعامل الاستماع لإلقاء الشاعر في مرات سابقة دور أثر عليّ وهو قد أوحى لي بذلك.
(وهذا يعكس علاقة جيدة ووثيقة بين الشاعر والمتلقي عبر إلقاء الشعر. كما يعكس في جانبه الثاني إبداع الشاعر في الإلقاء كما في الإنشاء)
* وإن للتوزيع الكتابي للجمل والكلمات دورا أيضا في انبثاق هذا الصوت الذي أتوهمه. وللشاعر دور كبير في ذلك أيضا.
* إن زمن القصيدة المقروءة الشفاهية قد ولى وخفت، وتصدرت واحتلت القصيدة المكتوبة محله، لذلك كان لزاما على الشاعر المتوهج المتصدر أن يولي كل قصيدة له براعة تامة واهتماما واعيا في حسن التنظيم وجمال الترتيب، ضمن إخراجها ودعمها بعوامل النجاح والخلود والانتشار.
إن إخراج القصيدة شكليا ليس حلية فنية فقط ولكنه حقا من ضمن العناصر الفنية التي تتشكل في القصيدة وترفدها وتمتد بها وفيها مع عنصر اللغة والإيقاع بما لها من إيحاءات ومدولات وامتدادات.
* إن الشاعر -وفي ملاحظة عابرة جديرة- لحريص كل الحرص، ودقيق كل الدقة، في إخراج قصيدته هذه، وغيرها، بشكل محسوب ومرسوم ومتقن بما يتناسب مع دقائق تجربته الشعورية ومساراتها منعطفاتها ومتغيراتها ورحابة ميادينها، فلكل دفقة شعورية، تناسق وانسجام وتنامٍ بل وتطابق يكمن بين اللغة الناشئة بمحمولاتها ومدلولاتها وبين طريقة كتابتها وكيفية توزيعها، على السطر وفي المقطع وفي الصفحة، إن كانت حروفا مجتمعة أومقطعة أو مكررة أو متناثرة، أو كانت كلمات أو جملا، بل نقطا وعلامات ترقيم أيضا.
*وهنا أيضا في هذا النص يتجلى حسن التقدير في إخراج النص كتابيا بما يتناسب ويتواكب مع الإشعاع الفكري والشحن الإيقاعي لتكون المرايا من حيث الشكل مكتملة وجاهزة ومغرية محفّزة عند المتلقي ليلقي نظراته نظرة إثر نظرة فتكشف له ما تكشف.
وكمثال على كل ما سبق:
لاحظ ذلك الاحتشاد الموسيقي، الطافح بالصوت، والذي يبثه هذا التناسق والتناغم وتبادل التأثير في الصياغة توقفا واسترسالا:

فَقِفْ وَحِيدًا
وَحَدِّقْ جَيِّدًا
لِتَرى:
ماذا تَرَكتَ؟
وَما جَدوى وَصاياكا؟
*
استقرئْ التركيب في التعبيرين:
كيف يتشكلان؟
* وحدة صوت وإيقاع جزئي تتمثل في توجيه يتكون من فعل أمر، ثم يلحقه صوت وإيقاع جزئي يلتزم بوقفة حرف الدال مع التنوين الساكن بالفتح.
هذا تماثل واتساق يحفل به وبأمثاله الصوت الشعري للشاعر هنا في كما يحفل بغيره في المواضع الاخرى من النصوص بصورة ملفتة ومتكررة.
إن هذا التماثل أو الاتساق والتناوب، ومهما كان غرضه البلاغي، لَتجيدُ رسمه يدُ الشاعر ليس على مستوى ودلالة الشكيل التعبيري أو الإيقاعي فقط بل حتى كتابيا على مستوى النظر والتشكيل الكتابي والإخراجي للنص.
هذان التعبيران:
[فَقِفْ وَحِيدًا
وَحَدِّقْ جَيِّدًا ]
يمثل كل منهما عبر المخاطبة هدفا توجيهيا مُلزِما ومستحوذا على المخاطب المتلقي عبر الهيمنة بفعل الأمر المباشر والمتكرر في تواليه، [فقفْ؟ وحدّقْ] ثم عبر الوقوف في نهاية الجملة [ وَحِيدًا، جَيِّدًا ] كفاصلة في كتابتها وفي موسيقاها وفي نهايتها اللغوية كجملة تدفع المتلقي لأن يقف عند نون التنوين الساكنة، وتقف كل جملة مهيمنة على سطرها الخاص، وبكل ذلك يخلق الشاعر عبر هذا التركيب وأمثاله فرصة لاستجابة المتلقي المخاطب امتثالا في النظر للمرايا/الفنية/الحياتية ومواكبة مع القراءة المتأنية والوقفة الساكنة، وكأنه حقّا يصغي لصوت الشاعر ينبثق بجهورية موزونة من بين مرايا قصيدته ووحداتها الموسيقية والتعبيرية، وهو سيرى عندةالقراءة المشهد المرسوم بتأدّة وأناة.
* هكذا بحسب ظني يقف المخاطب المتلقي برهة، ويحدق وحيدا أمام مرايا القصيدة الكاشفة الرائية، ثم يأتي [لِتَرى] فعل التبرير التقريري التحريضي، حيث وعبر مرايا القصيدة أيضا واستكمالا للقراءة، واستماع صوت الشاعر أو القراءة، يتحرك بصر هذا المتلقي بين المتواليات في إيقاع لغوي آخر، والهدف من ذلك الرؤية الواضحة والاستبصار بالبصيرة الفنية:
لِتَرى:
ماذا تَرَكتَ؟
وَما جَدوى وَصاياكا؟
*
* وننتقل لأداة تعبيرية أخرى هي السؤال:
إن للتساؤل وتوجيه السؤال أهمية بالغة في القصيدة الحديثة، وعلى الشاعر أن يكون حذرا وذكيا عند توظيفه للسؤال.
وهنا استكمالا للمقطع السابق، بعد أن هيأ الشاعر متلقيه للوقوف والتطلع والتأمل ليرى في المرايا بصورة واضحة وصادقة حيادية.. يسأله، ووظيفة السؤال هنا مركزية ومحورية، فما جدوى المرايا الشعرية إن لم يقف المتلقي يتلقى الأجوبة من المرتسمة حيث يقف أمامها:
- وحيدا غير منشغل بالآخرين ، ومحاديا مع نفسه لا يؤثر عليه غيره، ولا يتصنّع له.
- ومحدّقا في مراجعة شاملة وعميقة ومركزة متأنية.
ليرى بكل ذلك حقيقة النفس الخافية/الحياة/الطريق/القيامة التي قطعها والتي يحملها معه كلما نظر للمرايا..
ليرى ماذا أودع واذّخر وخلّف في نفسه وطريقه وقيامته اليومية بآخر الوقفات..؟ وبذلك يرى الحقيقة..
إن ما قام به في الطريق وأودعه في حياته ونفسه، هو الذي يجب أن يتفحّص فيه ويتأمل ويراجع نفسه ليرى وجهه الحقيقي غير المزيّن والمبهرج.. هل هو وجه بريء أم مدان، طاهر أم ملوّث..؟
إنه وحده عبر هذا الوقفة والقيامة الصادقة يمكن أن ينعتق من أكاذيبه وبهرجته وادّعاءاته وكل مظاهر الزيف والخديعة. إن ذلك مرهون بإرادته وحدها وتصميمه ومعالجته فالمرايا قد أدُت وظيفتها حين دلتْه وأرشدته وأوصته بوصاياها ولكن هل لذلك جدوى.
ومن هنا اكتسب العنوان [واجِهْ مَراياكَ] قيمته العالية كعتبة أولى تختزن وتحرّض المتلقي منذ البداية وبصورة مكثفة جدا على النظر والتأمل في:
مرايا القصيدة قراءة أولا وهذا الدور الوظيفي الناجع للعنوان.
-ثم في التدرج عبر قراءة كل بيت بالتأمل في مرايا النفس ثانيا.
* إن القصيدة كلما أمعن قراءتها والنظر فيها لَتزدان إشراقا في مراياها عبر
الأدوات التعبيرية الإنشائية المتنوعة واحتشادها بصورة فنية زاهرة..
وإني لأحبذ أن لا أنهي هذه النظرة أو الإضاءة البسيطة إلا بالإشارة لها، و وبمزيد من التفصيل ولو جزئيا في القراءة فنيا.
فمن هذه الأدوات التعبيرية التي تدب لغة وتحمل آثارها الخاصة على سطح المرايا ومكوناتها:
* أسلوب النهي:
لا تُخفِ وَجهَكَ
لا تُنكِرْ خَطاياكا
مرايا القصيدة منذ البداية في أول بيت وهي تنزع منزعا ناهيا زاجرا، وتلتمع النظرة الأولى -الفكرية والتعبيرية- فيها بأن يسمح المتلقي لوجهه بأن يتكشّف ويتبدّى كما هو ، لا يزيّنه، ولا يخفي عيوبه وتشوهاته، يمتثل وينظر لكل العيوب والمثالب حتى يصلحها..
وإلا سيظل مدانا معيوبا ومشوها ومتناقضا مهما أعاد النظر لمراياه في كل مرة:
فَلَن تَكُونَ بَرِيئًا
فِي مَراياكا
إن الانكار فيما يختص بتقييم الذات تقييما نزيها هي حيلة نفسية بغيضة ومتفشية ومتجذرة، حتى لتكاد تكون سمة ، إذ يجنح الإنسان من التفلت والالتفاف والفرار من كل ما يدينه ويحمله مسؤولية ما لم يلتزم بها أو يتحمل تداعيات الاخفاق فيه. لكن هذا الانكار مهما كان محكما ومستمرا ومغطى لكنه لا يخفي الحقيقة متى ما نشدها الإنسان وتأمل في ذاته .
*
* وأسلوب النفي: وهو أسلوب هيمن على هذه القصيدة، بما يحمله وما له من دلالات قيّمة وأكيدة وواسعة في كشف مساحات وأبعاد الزيف، وفي فضح الصورة الوهمية، في كل أساليبها ومناحيها ودواعيها:
فَلَن تَكُونَ بَرِيئًا
وَلَم تَكُنْ خَفِيفًا
وَلَم تَصدُقْ نَواياكا
وَلَم تَجِدْ؛ لِتَرجِعَ؛ بُدًّا مِن عَطاياكا
لا شُبَّاكَ..
ما فِي الزُّجاجِ انحِناءاتٌ..
وَلَيسَ هُنا..
سِوى الحَقِيقَةِ..
إن هذا العدد الهائل من الجمل المنفية هي مرايا كاشفة تحاصر وتفضح كل ادعاء يمارسه هذا الناظر، وإن كثرة أعدادها تدل على شدة وكثرة ما يدعيه ويخفيه ويتظاهر بخلافه ودور المرايا هنا أن تصرّح به وتفصّل في كشفه وترصد صوره.
* أسلوب التحذير:
إِيَّاكَ..
أَن تُقنِعَ المِرآةَ:
أَنَّ دَمًا؛ عَلى يَدَيكَ بَدا؛ كالماءِ
إِيَّاكا..
وهو هنا يبث صرخة متكررة (إِيَّاكَ..إِيَّاكا..) تدل على تلك المعرفة الوثيقة بالنفس الإنسانية وأنها تظل مخادعة مراوغة تقلب الحقائق مهما كانت واضحة في شكلها وطبيعتها ونوعيتها، فالدم بلونه الأحمر القاني البارز وهو دليل الجناية والفتل والاعتداء ووزهقةالأرواح، لا يتشابه أبدا بالماء الذي هو بريء وطاهر حامله وهو دليل على فضل السقاية والإحياء، فهولا لون له.
إن النفس حين تكذب وتغيّر وتتمحّل، تموّه في الأدلة الواضحة، فالدم الذي يسيل على اليد القاتلة الجانية لا يمكن تشبيهه بالماء على يد البريء الساقي وإن كان سائلا أيضا.
*ولا يفوتنا أن ننتبن بإن:
لأسلوب المفارقة ورصد الثنائيات المتضادة والمتقابلة في القصيدة دورا فيما تعكسه هذه المرايا من لوحات إنسانية تضج بالتناقض والازدواجية، كما في:
المقابلة بين الماء والوحل:
سُدًى..
تُحاوِلُ لَمسَ الماءِ
مُجتَنِبًا مَعنى سُقُوطِكَ
- وَحلًا -
عَن شَظاياكا
للماء قيمة ودلالة الشفافية والطهارة والإحياء والسمو الروحي والرواء الإنساني خاصة حين يتنزل من السماء أو تمسه النفس الشاربة وترفعه للسقي ، وإن هذا الماء يعكس وجه الناظر للمرايا حين يكون تكون صورته صافية صادقة حية.
ويقابله الوحل:
وهو الصورة المشوّهة والملوّثة والمتلوّنة الرديئة الساقطة تعكسه المرايا للناظر حين يحمله بين يديه أو يلطخ وجهه وسمته وملبسه.
إن الصورة محتجبة لا تمثل حقيقة الإنسان ووجهه الواضح القسمات حين يوسمه الوحل ويتغشاه ويسقطه.
ومن منا يحب إنسانا يغطيه الوحل مرتميا فيه.

يا لها من صور فنية بليغة من الحياة بكل المتناقضات تعكسها لنا هذه المرايا الفنية. وعلينا أن نتأمل جديّا
*
وكما في المقابلة والمفارقة الأليمة الحادة في:
ذَهَبتَ تَحمِلُ وَردًا
وَالطَّرِيقُ هُدًى
فَعُدتَ تَحمِلُ؛ أَشواكًا؛ هَداياكا
*
إنه التغيير والاجتراح السلبي غير المبررين، حمل الضغينة وروح الشر، ونشرها آلاما في الطريق الممهّد ليكون وبالا على الآخرين..
إنه الاستعداد التام لإيذاء الآخرين عبر التمويه وإن كان لا يخفى على بصر. فالمرايا الصادقة تكشف ذلك حين ترصد ما تحمله اليد ذهابا وإيابا وما تزرعه أو تهديه، وعلينا ان نحذر من ذلك. فهل من كفّ واجتناب من هذا الحمل والتغيير؟
والمفارقة في:
وَكُنتَ تُعطَى
فَتَنسى
ها.. رَجِعتَ..
وَلَم تَجِدْ؛ لِتَرجِعَ؛ بُدًّا مِن عَطاياكا
*
الاحجام عن المنع والبخل وشح النفس التي ما قامت وما استوت إلا بعطايا غيرها. إنها حقيقة أخرى تضيء عليها المرايا وتكشف في وجه من لا يبادل غيره عطاء بعطاء وحياة بحياة..
اشواط الحياة وفي عناوينها الفذة الراجحة:
كما تدين تدان!
بل إن المفارقة تبلغ أوجّها الدامي في لقطة درامية كاشفة وعنيفة ومريرة حيث يدمُر الإنسان نفسه وما بين جنبيه، إذ تلتهم الذات جسدا وروحا نار القيامة، الرمز الفني والحياتي المعادل للمستقبل، هذه القيامة وظيفتهت أن يجب ان تجود بالخلاص والسلامة والسلام عبر إشراقات تتسم بالشموس الدائمة الملطلة والتي تنشر أجمل أوقاتها عافية وروتقة وبركة وصحوا.. هذه القيامة وهي وقفة يحب ان تكون أخيرة جادة تبدا وتاذن بخياة الطمانينة والهناءة، لكنها تنقلب إلى ساعة دامية تنفجر فيها الشموس وينزف بها الصخى، وذلك يؤدي إلى هلاك نهائي فاجع ومرير.
إن نبذ هذا التناقض هو السبيل للقيامة والنهضة المبشّرة بجنة الخلاص وسعادة المصير وحسن المنقلب في مسيرة الإنسان.
إنه انسجام الإنسان السوي مع نفسه ومستقبله ورموز الحياة وعناصرها من حوله.
هَذي القِيامَةُ؛ فِي جَنبَيكَ دامِيَةٌ؛ شُمُوسُها
وَضُحاها مِن ضَحاياكا
..........
..........
وتظل القصيدة تحمل دعوتها الصادقة والعميقة لأن يحاور الإنسان نفسه، ويسبر غورها ويرصد سلوكياتها وقيمها الأخلاقية، عبر الوقوف والإضاءة على أعماق الذات وطواياها، وعبر المحاسبة والتأمل في مسيرتها الواقعية، وعليه أن يصدق ولا يخاف ويعمل على الانعتاق التدريجي :
لَملِمْ بَقاياكَ..
هَذا الجِسمُ يُرهِقُهُ؛ جِدًّا؛ بَقاؤُكَ..
وَاخرُجْ مِن خَلاياكا..
دعوة لتخليص الروح من كل أثقال ترهقها. الروح تذوي مرهقة، إن لم يواجه الإنسان مراياه، وحتى الجسد بمركبته وما حمل من أحمال الكذب والإدعاء والتمويه والتناقض والتي أثقلته وشوهته وأطبقت عليه أثقالا على أثقال، وجرجرته قيودا على قيود في مسارات مهلكة، تستنزف قواه وعافيته.

هكذا فإن القصيدة المرايا:
صرخة تبعث الانتفاضة لأن يزيح الإنسان عن كاهله وجسده المثقل كل ما تركم من أثقال وقيود لينقذ ما تبقى من أشواط حياته وروحه المحتضرة المكبّلة. إنه انعتاق أخير، وانسلاخ جذري وجوهري حيث ترقى الروح الإنسانية متى ما عزمت على إعادة النظر في سيرتها الإنسانية. هذه مؤدّى نصنا.
ستنقلب كل الصور في هذه الأبيات إلى أضدادها من الصور المشرقة متى ما حدث ذلك ولكن بشرط ان تتحقق الصرخة والوصية:
[واجِهْ مَراياكَ]

 

تعليق عبر الفيس بوك