حوراء النّدّواي "تحتَ سماء كوبنهاغن" (4 -5)


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات
رافد: صدى بمرتبة الصوت:
يقرّر السرد منذ  البداية أن يجعل رافد صدى لصوت هدى، منذ أن تختاره هدى مترجماً لروايتها، ذلك أنه ليس مترجماً للأدب بالفعل، بل إنها هي التي جعلته في هذا الموضع لغاية في نفسها: "لغتي العربية كأي رجل عربي، يقرأ ويكتب بالعربية، لكنه لا يجيد صياغتها بالشكل الذي يجعلها تغري أي قارئ"، ص17.
وعلى الرغم من أن الخيال كان يأخذه أحياناً إلى موقف العزّة بالإبداع، فإنّ الواقع يعيده إلى مربّع المترجم الذي انطلق منه برغبتها: "وحين كنت أعتقد بأني قد روّضت القلم إلى الحد الذي ينساب فيه دون تململ، كنت أفاجأ بين حين وآخر بحقيقة أني لست الكاتب الفعلي لما أسطّر"، ص9.
غير أننا لا ننكر أنّ رافد في موقعه الجديد امتلك فرصة التعبير عن رؤياه، وعن مواقفه من الشخصيات التي تحيط به، وعن تأثير تلك الـ "هدى" التي قرأها قبل ان يراها. وقد وجدت هدى فيه رجلاً مناسباً لتنفيذ حفرياتها الأدبية في أعماقه، فقد كان امرأً متطلباً، لا يكتفي من الأنثى بهدوئها وجمالها، ولا بطبخها الذي تمنحه معظم الوقت:
"لا أرغب فيما هو امرأة هادئة وجميلة ومرضية (...) بل أطلب امرأة منسابة تتدفق بين يديّ  بصراحة لفظها، وعفوية لفتاتها (...) شذى التي ما أثارها كأس ماء قبل زواجها بي كرّست كلّ حنكة أنوثتها في المطبخ"، ص86.
ولأن العين تألف الجمال بعد حين، فقد أدرك رافد حاجته إلى التجدد، ووجد في مغامرة هدى ما يشبع فضوله: "بعد مرور أقل من سنة شبعت من التفاصيل التي تلقفها عيني، وصرت أبحث عما هو أكثر. أبحث عما يجعلني أطّلع على وجهة نظرها الأنثوية"، ص85.
صحيح أنه لم يخطط للاشتراك بمغامرة ترجمة الرواية، وصحيح أيضاً أنه واجه بعض التردد في قبول المشروع، ولكنّ الفضول قاده إلى القراءة، ثم إلى الترجمة، ثم إلى التعايش مع هدى (ب) التي كانت طفلة في البداية، طفلة استطاعت أن تقتحم حياة رافد، وتطلع له من كل مكان في البيت، حتى إنها تلحقه إلى السيارة في طريق ذهابه إلى العمل: "تقفز في قهوتي صباحاً، وتهرول بين قدميّ عند خروجي من المنزل متوجهاً إلى عملي.. تجلس إلى جانبي في سيارتي..... إلخ"، ص114.
وحين يريد أن يلقي نفسه خارج السرد يكتشف مدى صعوبة ذلك، فقد تمكّنت الطفلة من قلبه، ولم تعد سراباً يمكن أن يُطرد ببساطة خارج المخيلة:
"ـ أنتِ سرابٌ لا وجود له.
تردّ عليّ بجدّية لا تناسب طفولتها:
ـ إنني معك.
وإنها لكذلك"، ص115.
وشيئاً فشيئاً تتمكن هدى (ب) الطفلة من قلب رافد، ليعدّ نفسه خير أب لها، ويفتخر بها وبكلماتها، وتنتابه الرغبة أحياناً في ان يتلاعب بمصائر الشخصيات من أجلها: "ولكم راودني إحساس خبيث بتحوير تلك الأحداث المؤتمنة بين يديّ لتتناسب وما أشتهي من نهايات لطفلتي"، ص117.
غير أن اكتشاف التشابه فيما بعد بينه وبين البطل، قاداه إلى الاستجابة التامة لخيوط السرد المحبوكة حول قلبه الذي دفعه للبحث عن نظائر الرواية في الواقع المحيط به: "في كلّ مرة يصادف فيها مروري في شارع نوربرو توقظ جموع الفتيات المحجبات غريزة التصيّد فيّ، صيدها من بينهنّ، على الرغم من كون أداتي ضعيفة، وهنّ كثر"، ص119، وعندما كان مع زوجته في مقهى ماماميا في فيست تورفيت، يقول: "كنت شبه واثق بأنها تتبعني بعينها، وأني قاب قوسين أو أدنى منها"، ص145،
ومثلما يبحث رافد عن هدى (أ) في كل مكان حوله، فإنه يبحث عنها أيضاً في جسد زوجته، فقد تحوّلت بفعل السرد من طفلة إلى امرأة، وكان عليه أن يدسّ يده بين منحنيات جسد زوجته باحثاً عن امرأة أخرى تقبع في روحه: "أدرتها نحوي.. هبطت بشفتيّ على شفتيها، بحثت، فتّشت، نقّبت، راجياً التقام هدى بفمي من ظلمة كهف زوجتي"، ص123.
وإذ يقرأ في السرد أن هدى (ب) قد صافحته ولامست كفه يندم على تلك اللحظة التي فرّط بها: "لو كنت أعلم أنّ حدثاً تافهاً كهذا يمكن أن يخبّئ خلفه شخصاً أهتم بأمره كل هذا الاهتمام، لكنت قبضت على كفها مانعاً إياها من الإفلات مني"، ص141.
ويجري رافد مقارنات طريفة بين ملامح وجهه، وملامح وجه رافد (ب) كما صورته الساردة، ليشك في الأصلية منها: "أنا الرجل الذي صرت أشكّ في ملامح وجهي بعد أن رسمتني امرأة كما تشاء"، ص325، وليصرّح من ثمّ أنّ ثمة خلافات بينها، وأنّ صورته السردية، إنما رسمت حروفها بعين الرضى الكليلة عن كلّ عيب:
•    "عيناي ليستا سوداوين كما تصفهما.. إنهما بنّيتان غامقتان فحسب. وشفتي لم أنتبه لها من قبل أنها تنحرف حين أتكلّم أو أبتسم"، ص326.
•    "أعيد قراءة السطور التي تصفني بها، مستغرباً أنني قد ترجمتُ نفسي، ثمّ انتقلتُ عنّي ببساطة متناهية"، ص326.
وتقترب صورة رافد (ب) التي قرأها رافد (أ) وترجمها شبيهة بأبطال الأساطير، فحين تراه هدى (ب) المرة الأولى تقول: "التقطتُ وجهه بسرعة عجيبة.. بل إني أكاد لا أفرّق بين اللحظات التي دخل فيها إلى المقهى، واللحظة التي اتخذ فيها مجلسه.. كأنه طار وحطّ على كرسيّه بسرعة لم أعها. وجهه المشرق مثل صباح صيفيّ حلّ أمامي"، ص262. وفي ذلك اللقاء تنتبه إلى شفتيه، "ولا أدري كيف التفتّ لشفتيه بتلك السرعة.. لفتني ذلك الاعوجاج البسيط فيهما، كأن ابتسامته تبتسم لنفسها"، ص ص264ـ265، وتخزّن شكله في ذاكرتها، وتبحث عنه في نفسها، قبل أن تجدّ في البحث عنه في الآخرين والأشياء: "وكعادتي بحثت فيه عمّا يشبهني فوجدتُ شعره وعينيه بمثل لون شعري المتفحّم وعينيّ السوداوين"، ص265.
إنه سرّ لا تستطيع هدى (ب) أن تفقه جاذبيته، ولا أن تدرك "كيف أمكن لكائن ذكر أن يكون على هذا القدر من الحبور؟!"، ص263، وما ذلك إلا لأن "وسامته مثل الأرض، قريبة مني ولها رائحة كفي المصنوعة من طينتها"، ص264. ومن كانت وسامته مثل الأرض فمن الطبيعي أن يسمو عن مرتبة البشر، وأن يعلو فوق قوانينهم، ومن غير الطبيعي أن يتزوج، حتى لا يلتحق بالمجموع: "يتزوّج؟! ويصبح مثل غيره من الرجال.. أولئك العاديين الذين يتزوجون؟؟ أشفق عليه من ضياع تفوقه بتلك الشراكة غير المتكافئة"، ص340.
وعندما تتحول هدى الساردة عنه من سرد إلى واقع، إثر اللقاء الأول بينهما، كشخصين يعرف كل منهما الآخر، يستغرب رافد أن نواميس الكون بقيت تحكمه، وأن الطبيعة حافظت على هدوئها، على الرغم من هذا الحدث الجلل، فيتساءل: "لِمَ لم تستشط السماء للقيانا فتهوي من فوقنا؟ كيف لم يهج البحر لمرآنا فينهال علينا تسونامياً جديداً من هول ما أحدثنا؟ لماذا الطبيعة على طبيعتها ونحن نلتقي؟"، ص179.
عماد ـ زينة ـ رضا، والآخرون: أصداء باهتة
إذا كان رافد المعشوق قد كشف ملامح مهمة من شخصية هدى، فكانت مواقفها منه صدى قوياً لملامحها، فقد جاءت الشخصيات الأخرى، لتشكلّ صدى باهتاً لها، وتحاول إكمال تلك الملامح من خلال ارتباطها بهدى، وعلاقتها معها. ويذكر هنا أن الشخصيات الأخرى جميعاً (باستثناء رافد) كانت تنتمي إلى سردها فقط، أي أنها كانت محكومة برؤيتها، ولم نشهد لها مواقف تعبّر فيها عن ذاتها خارج الرواية التي كتبتها بنفسها.
نبدأ من البيت حيث يحيط بهدى أربعة أفراد: الأب والأم ونخيل وعماد:
يطالعنا أب، تعرض الرواية ملامح شبابه الغض، بقوام فارع وشعر أسود كثيف، وقدرة على تقبّل الآخر وتقلباته، لا يحتسي الخمر أمام أفراد أسرته، "من المؤكّد أنه لا يفعل ذلك خجلاً، فأبي ليس بالضعيف الذي يتستّر خجلاً من فعل ما"، ص196، منسجم مع نفسه، حتى أن الساردة تصفه بأنه "الصدق الوحيد الصامد بين طيات زيفنا المتعددة"، ص198.
أمّا الأم التي هربت في شبابها من الشرطة الذين يصبغون سيقان الفتيات من مرتديات الميني جيب، فقد كانت فاتنة، "وعيناها عسليتان واسعتان أخذتا مساحة نصف وجهها الصغير.. أنفها دقيق أشمّ خلق ليزيّن وجهها لا لتتنفس به كما يحب أن يصفه هو. وفمها صغير يتناغم صغره مع صغر كل شيء فيها"، ص61، وقد خضعت في كبرها لأم حسن ومن حولها فتحجّبت ثم حجّبت نخيل وهدى، وبقيت ضعيفة أم سطوة ابنها الذي يساكن المرأة الدنماركية.
لقد تعملت هدى درس الصدق من أبيها، وخبّأت في نفسها تمرّدها ضدّ أمّها؛ لتجابه أخاها عماد الذي "تركته العائلة في بغداد خوفاً عليه من رحلة الفرار، ليلتحق بهم في طريق الرحلة الطويل، منتقلاً من بلد إلى بلد، حتى وصل أخيراً إلى الدنمارك أخاً عسيراً عنيداً "جمع عناد كلّ العراقيين ليحبسه في صدره"، ص212، قاسياً مع الجميع، فهو يقول لهدى: "إذا سمعت صوتج.. راسج أكسّره"، ص43، ويقول لأمه : "ألم تخجلي أن تأتي بهذه ـ ويقصدني أنا ـ وأنت في هذا السنّ؟!"، ص43.
وعلى الرغم من ذلك فهو يصرّ على أن يرتدي عباءة العراقي المسلم الذي يحافظ على دينه، وإن كان ذلك يتم بطريقة كاريكاتورية (1)، تقول هدى عن زينة وعماد: "أبتسم لعبارات زينة التي تصف فيها علاقتهما في شهر رمضان.. حين كان يطلب منها ألا يتحدثا عبر الهاتف، وألا يتراسلا طوال الشهر، كي لا يبطل صيامهما. ابتسمت ساخرة لمعرفتي التامة بأن أخي لا يصوم رمضان أصلاً"، ص256.
ترى؟ هل جاءت ملامح عماد تجسيداً للتجربة التي عاشها، وهل كان من الممكن أن يتغيّر شيء ما لو تغيرت الظروف قليلاً. تقول هدى عن أمها: "... فلو أنها أصرّت على اصطحابه معها في اللحظة الأخيرة، هل كان عماد ليصبح غير الذي يقابلنا بنفوره البالغ (...) لو أنّ والديّ ترددا في قرار الهجرة برمّته لكنت أنا نفسي الآن مختلفة تماماً عنّي"، ص41.
أما زينة، حبيبة عماد وصديقة هدى فقد كانت ضرورية لترسم ظلاً آخر لها، ظلاً يجسّد ميلها نحو الانعتاق، على الرغم من أنّ زينة كثيراً ما كانت تثير حنقها، بسبب الوقاحة التي تطفح من عينها، فتغلّف تلك الوقاحة أنوثتها وجمالها بطريقة غامضة"، ص130، وتمنحها كثيراً من الإغراء الذي يغودي كثيراً من البنات لمرافقتها، على الرغم من تحذير الأهالي: "أغلب الأهالي من جاليتنا كانوا يحذّرون بناتهم من رفقتها، إلا أنها رغم سمعتها المشوّهة هذه كان الكلّ يحبّ مرافقتها"، ص130.
لقد كانت هدى تجد في زينة شهرزادها التي قصّ المجتمع لسانها مثلما قص شعرها، لذلك طربت لحكايات زينة التي "تتحدث عمّن تدّعي أنها أحبتهم وأحبوها، لقد كانوا كثراً نسبة إلى عمرها في ذلك الوقت.. عمر السادسة عشرة (...) [و] أنّ أول صديق لها في حياتها كان في وقت لم تتعد فيه العاشرة"، ص161، وكانت تجد فيها خبث الأنثى الذي لا تقدر عليه، ذلك الخبث الذي يحسن إدارة الحوار مع الرجل، ولفت نظره إلى أنه لا يحدّث غرّاً، وحسبنا هنا أن نشير إلى الحوار التالي الذي جرى بين زينة وعماد في اللقاء الأول بينهما عندما كانت تزور هدى في بيتها:
" ـ ومن أين أنت؟
أنا من هوي توستروب.
ابتسم عماد:
ـ أقصد أين ولدتِ؟
ردّت زينة متخابثة:
ـ في كوبنهاغن.
نظر إليها عماد بلوم، فضحكت وقالت بالعربية:
ـ أنا أصلاً من النجف"، ص163.
وعلى الرغم من أنّ بعض تصرفات زينة لا تبدو مفهومة بالنسبة لهدى، كإصرارها على الارتباط بعماد، رغم مساكنته امرأة دنماركية، فإنّها بدت شخصية نفعية، أو لنقل إنها تفهم المجتمع الذي تعيش فيه، فهي لن تتزوج دنماركياً بسبب انتمائها الضيق للجالية، ولن تتزوج من الجالية إلا رجلاً مثل عماد، وهذا بالضبط ما يحولها من فتاة متمردة تنشد الحرية، إلى فتاةة قادرة على التآلف مع ظروف جاليتها، وعلى تسويغ ارتباط الرجل الذي تحبه بامرأة أخرى:
"ـ لكنه يسكن مع أخرى!
ـ أعرف.
ـ وهذا لا يعني لديك شيئاً؟
ـ منذ تعرفت إليه، وهو يسكن مع تلك الأخرى. إنه في السادسة والعشرين. وما تقدمه هيلدا لا أقدّمه أنا"، ص207.
وليس بعيداً عن بيت هدى تقيم عائلة أبي حسن، حيث ثمة شخصيتان كانتا على تماس مباشر مع هدى، هما شخصيتا: فاطمة الغبية التي تم إبعادها عنها، ولم تكن ذات تأثير يذكر عليها، ورضا الذي كان يشبه حقل تجارب لتذبذبات هدى وتقلباتها.
لقد كرهت هدى ابن جيرانها رضا كما لم تكره أحداً من البشر، كرهت فيها هوايته الأنثوية الغريبة حين رأته مع فاطمة، "يدوران معاً، يجمعان ويتبادلان أوراق الرسائل الملونة والمعطرة، ويضيفان إليها صوراًمزركشة لشخصيات ديزني"، ص66، كما كرهت فيه إلحاحه على متابعتها، وصبره عليها، وقد كانت أعصابها تتمزق من ذلك الإلحاح، واستسلامه اللزج أمامها:
"ـ أظن أنني أكرهكَ.
واعتقدته سيثأر لكرامته، لكنه ضحك ضحكة بلهاء:
ـ هذا لا يمنع"، ص216.
غير أن رضا نفسه امتاز بميزة عجيبة، هي صراحته الشديدة التي كان يجابه بها هدى التي يراها ساذجة، ويحدثها عن موقفه من أخيها بلا خوف على مستقبل علاقته بها، تلك العلاقة التي لم تكن جيدة أصلاً، فهو يقول لها عنه:
•    "عماد يسكن عند امرأة تدفع إيجار بيتها بنفسها، في الوقت الذي لا يضطر هو فيه إلا للصرف على نفسه"، ص238.
•    "أخوك بدأ يطبّق في المستشفيات، ويلتزم بخفارات ليلية تدرّ عليه أمولاً لا بأس بها، ورغم هذا فهو مصرّ على السكن مع دنماركية تصرف عليه"، ص238.
وربما كانت هذه الصفة بالذات هي التي جعلت منه في نظر هدى شخصاً قابلاً للتواصل معه، والخروج معه في ليلة ميلادها، بل والسماح له بتقبيلها ذات استسلام لموقف درامي تعجز هي، مثلما نعجز نحن، عن الاطمئنان لتفسيره.

.....................
الهوامش:
(1)    تقترب شخصيّة عماد هنا من الشخصية الكاريكاتوية، إذ تتسم ملامحه بأنها متناقضة ومشوهة، أو تمّ مسخها؛ لتعبّر عن دلالات رمزية شديدة الإيحاء، وهي تتفق مع هذه الشخصية بكونها يتمّ الاعتماد عليها في السّياق الانتقاديّ للمجتمع.

 

تعليق عبر الفيس بوك