هوامش عراقية على متن دنماركي


حوراء النّدّواي "تحتَ سماء كوبنهاغن" (3 – 5)
أ.د. يوسف حطيني – أديب فلسطيني بجامعة الإمارات
شخصيات الرواية: الصوت والصدى
لا تهتمّ الرواية كثيراً بإطلاق أسماء ذات أبعاد دلالية على شخصياتها، باستثناء رافد الذي يحيل على أحد الرافدين: دجلة والفرات، وهدى التي عبّرت عن خوف والديها من التوغل في متاهات الغربة، ص29،  و"جعلت من هدي اسمها يضلّني"، ص121، كما يقول رافد، ونخيل التي يحيل اسمها على ذاكرة العراق من غير مواربة.
وعلى الرغم من أنّ الشخصيتين الرئيسيتين هدى ورافد (وظلّيهما السرديين)، تتقاسمان بطولة الرواية، ويتمتعان بكفاءة سردية(1) إلا أنّ من الإنصاف الإشارة إلى أنّ رافد نفسه، كلن ظلاً لصوت هدى فيه(2)، ولا يعدو الفرق بينه وبين الآخرين أن يكون صدى قوياً لصوتها، فيما يكتفي الآخرون بالصدى الباهت أو حتى الذوبان في ضجيج تلك المدينة.
هدى السّاردة وهدى الواقعيّة:
تشير الرواية منذ فصلها الأول الذي يسرده رافد أنّ ثمة تطابقاً بين اسم الكاتبة التي يترجم روايتها، واسم بطلتها، وحين سألها عن ذلك بتحفظ أجابته ببساطة: "لأنها أنا"، ص19.
ولأنّ النقد يتعامل أساساً مع وجهة نظر السرد لا الساردين فقد رأت الدراسة أن تفرّق بين هدى الساردة (هدى أ)، وهدى المسرود عنها (هدى ب)، مثلما ستميّز لاحقاً بين رافد المترجم (رافد أ) ورافد المسرود عنه في الرواية (رافد ب)(3).
فهدى (أ) تجيد العربية تحدّثاً، ولا تجيدها قراءة وكتابة، وقد بدأت ملامحها بالظهور بعد اللحظة التي كشفت فيها نفسها أمام رافد في محطة الوقود: "فيما كنت املأ خزان وقود السيارة، لم أنتبه لاقترابها المفرط منّي، فقط سمعت اسمي: رافد؟!
يدي على مقبض الوقود المتدفّق في سيارتي.. التفتّتُ ورحتُ أحدّق في الفتاة لأجيب بعد ثوان قليلة برأسي محيياً وموافقاً معاً. فقفزت هي فوق ترددها بنبرة قائلة:
ـ أنا هدى"، ص178.
وهذا النسق اللفظي هو نفسه الذي يعاد من وجه نظر الساردة في نهاية الرواية التي ترجمها رافد، وفي نهاية رواية النداوي أيضاً: "تقدّمت منه خطوة.. اقتربت كثيراً، وشممت عطراً تعتّق على ثيابه وخِيط من رائحة سجائره، هزّ رأسه، وضعتُ كفاً على صدري، وقلت كأنني أحدد موقعي كي لا تتيه عيناه بحثاً عني:
ـ أنا هدى"، ص392.
وبين هذين النسقين تتلامح هدى (أ) أمام عيني رافد (أ) الذي يصفها في اللقاء الأول على النحو التالي:
•    "بدت ناضجة بالشباب وهي تبتسم، وأحسست تواً كم أن ابتسامتها قلبية، وأنا أنظر في عينيها مباشرة، بؤبؤا عينيها اتسعا على آخرهما في نظرة طفولية"، ص178.
•    "جمالها بريء غير صارخ (...)، بدأ يفرّخ في قلبي بتتابع مذهل، مثل قنبلة عنقودية انتشر فيّ، وأنا أحب جمال المرأة الذي لا يدعوني إليه بشدّة"، ص178.
فإذا انتقلنا من وصفها إلى ملامحها إلى وصف لباسها، وجدنا ما يجسّد انتماءها إلى المجموع (الجزء من الجالية العراقية الذي انتمت إليه)، فقد "كانت ترتدي معطفاً رمادياً وجينزاً أزرق ضاق عند أسفل ساقيها حتى كاحلها، وكما في المرة السابقة كانت تنتعل حذاء بدون كعب.. لماذا هو دائماً يكون بلا كعب"، ص297.
حتى الحذاء الذي تنتعله يعبّر عن مدى رغبتها في عدم الخروج عن المجموع، ولعلها عندما قررت أن تضع قدمها في كعب عال في نهاية الرواية أرادت أن تقول إن قرارها جاء متأخراً جداً، على الرغم من أن الدنيا تبدو أكثر كمالاً من موقعها الجديد:
"تغيّر شكلي كلياً بعد أن ارتفعتُ بنفسي عن الأرض.. هكذا تبدو الدنيا من علُ؟ تبدو أجمل بكثير من هذا المستوى.. وأشفقتُ أكثر  من قصري، وأنا أكتشف أن الدنيا أكثر كمالاً من فوق"، ص347.
أما الملامح النفسية لهدى فقد شابها كثيراً من الاضطراب الذي يحاكي نفسها المضطربة، فهي رومانسية حالمة، ضائعة عبثية، تتحول في لحظة ما إلى عاصفة تواجه من حولها. إنها شفّافة إلى الحد الذي تمشي فيه فوق الأرض الثلجية على أطراف أصابعها؟ حتى لا تعكّر بياض الثلج، وبدت هذه الملامح أبرز وأنصع في هدى (ب)، التي تقول: "في جوفي عالم ثان مثل عالمنا.. له هيجان عواصفه، ورقة ربيعه، وسيلان أمطاره، وسكون أشعته"، ص213، حيث لا تستطيع أن تشعر بقدرة لغتها الأم على التعبير عن مشاعرها الهائجة: "أفضّل الدنماركية حين أغضب"، ص137، وتعبّر عن ضياعها الروحي والجسدي حين تصعد في الباص، قاصدة إلى محطة معينة، فتغير رأيها، وتبقى حتى نهاية الخط، أو تنزل في محطة أخرى لتصعد باصاً آخر، فكأنها تحترف الضياع، وهي تقّرر أن تفشل نفسها عمداً في الامتحان، نكاية بشارب المعلّم الأصفر، ثم تجيب فيه بشكل جيد وتنجح، وهكذا تبدو تناقضاتها جلية لمن يتعامل معها(4)، لدرجة تجعل من التواصل معها أمراً صعباً: "ليس بمقدور أحد الاغتراف منّي، فأنا نهر معكّر، لا يقبل عليه إلا من هو على وشك الموت عطشاً، أو الموت تطفّلاً"، ص136.
وعلى الرغم من أن هدى (ب) تحمل اختلافها فوق رأسها، وتنطوي على نفسها، وعلى الرغم من إدراكها أنها تتميز عن الآخرين، وأنها تشبه لوحات مونيه(5)، فقد قدّمت تناقضاتها الواضحة على طبق من سرد: "فألوانه المتأودة بعضها ببعض تشبهني أنا المصنوعة من ألوان تتدامج بثقة وحيرة معاً، مثل انطباعيته المتطرفة، مثل رشقات فرشاته ونمنمته على الـ "كنفاس".. مثل نمنمته أنا"، ص148.
فمن تناقضاتها أنها تكره صديقتها زينة التي تقيم علاقة غرامية مع أخيها عماد، على الرغم من معرفتها أنه يساكن امرأة دنماركية، ولكنها تشفق على زينة حين تتعرض هذه العلاقة للاهتزاز: "شبكت ذراعها في ذراعي، وشعرت لوهلة أنني يمكن أن أحبها عندما تكون جريحة"، ص258.
ومن تناقضاتها وضعفها أن تكيل الشتائم مرة بعد مرة لرضا الذي يقول لها: "بريئة بما يكفي لتكوني ساذجة"، ص235."، ثم تسمح له أن يقبّلها، وأن يرافقها في رحلة ليلية، وهي تشبه علاقتها به "مثل استغراق في سادية يغذّيها مجرد حضوره"، ص23، ولعلّ هذه السادية المعلنة تترافق مع مازوخية غير معلنة؛ ذلك أنّ علاقتها برضا كانت تسبب لها كثيراً من تعذيب الذات.
ومن ضياع هدى (ب) وانطوائيتها أنها تتحاور مع عدة أشخاص عبر شبكات التواصل، ويقرّ قرارها على توربن الذي يبلغ من العمر ستة وخمسين عاماً، وتشعر معه بالأمان والاستقرار النسبي، فتثق به وتعطيه رقم هاتفها المحمول، وتبقى على علاقة به، حتى يواعدها في الواحدة من بعد ظهر أحد الأيام تحت الساعة في محطة كوبنهاغن الرئيسية، ولكنها حين تذهب إلى هناك ترى رافد أولاً ثم توربن، فتفرّ منه في اللحظة الأخيرة، مبرهنة على عدم قدرتها على اتخاذ القرار.
غير أن هدى (ب) الضعيفة المتهمة بالسذاجة، تستبدّ بها الرغبة في أن تثبت عكس ذلك، خاصة في مواجهة أخيها الذي يريد أم يمارس عليها مفهوم "الذكورة الشرقي" في عقر كوبنهاغن، فيسمح لنفسه، بمساكنة هيلدا الدنماركية، ويقيم علاقة مع صديقتها زينة، ولكنها تتحداه، وتزوره، في مؤشر على قوتها، في بيت هيلدا نفسه، فتفاجئه، وتربكه، وتكشف تناقضاته، ولا تستسلم له على الرغم من أنه يهددها بالضرب، "هواية طالعة عينج" ص250؛ لأنها ليست كبيرة لتفهم الأمور:
"بعدج بقد القندرة.
ـ وكم يا ترى تكبر زينة الحذاء الذي قستني به؟"، ص251.
ولعلّ رافد كان الاستثاء الوحيد في حياة هدى (ب)، الذي أعطى حياتها معناها، لذلك كانت كلّ رؤية له تعني لها تاريخاً  جديداً: "رؤيته الأولى أرّخت ابتسامته، ورؤيته الثانية أرّخت نظرته، والثالثة أرّختني أنا"، ص292.
من هنا صارت هدى (ب) ترى رافد في كل مكان، وتبحث عن أشباهه، ونظائره، فعين العاشق، ترى صورة المعشوق في كل البشر، بل في كل ما تراه:
•    "لا أعرف كيف أوجدت له أشباهاً في رجال لا يمتّون إلى بعضهم بصلة شبه فعلية على الإطلاق، بعد أن شبهته بثمانين بالمئة من الرجال الذين أقابلهم في الشارع"، ص364.
•    "بل أراه في الناس والأشياء أيضاً.. شيء ما في هذه الشجرة يذكرني به، مصابيح الشوارع، محطات الباصات، الثلج المتراكم عند عتبة الباب..."، ص364.

الهوامش:
1)    تعني الكفاءة السردية القدرة على إنتاج السّرد وفهمه، أو القدرة على تسريد الوقائع والمواقف المتخيّلة. وقد تعني أيضاً القدرة على فهم السّرد. ووصفُ خصائص هذه الكفاءة هو أحد أهداف التّحليل السّردي.
2)    الصوت هو مجموعة العلامات الّتي تسم السّارد واللّحظة السّردية الّتي تحيط به، والّتي تتحكّم في العلاقات بين العمليّة السّرديّة والنّصّ السّرديّ، وهو أوسع مدى من الشّخص. ويمكن مجازاً أن نعدّ رافد جزءاً من صوت هدى، لأنّ في سرده سمات سردها الأساسية.
3)    السارد هو الممثّل السرديّ الذي يقوم بدور الوساطة بين الأحداث والوقائع من جهة، ومتلقّيها من جهة أخرى، إنّه الشّخص الّذي يقوم بالسّرد. أمّا المسرود له فهو الشّخص الّذي يُسرد له، والمتوضّع أو المنطبع في السّرد، وهناك مسرود له لكلّ سرد يقع في مستوى الحكي للسّارد نفسه الّذي يوجّه الكلام له، والمسرود له يجب أن يميّز عن القارئ الضّمنيّ، وعن القارئ الحقيقيّ أيضاً.
4)    هدى شخصيّة مركّبة  تعيش الصّراع الّذي يتطوّر في داخلها، إضافة إلى الصراع مع الشخصيات  والظّروف المحيطة بها. ومن أهم صفاتها أنّها تنمو، وليس من السّهل التّنبّؤ بسلوكها
5)    كلود مونيه (1840-1926): رسام فرنسي، وهو رائد المدرسة الانطباعية في الرسم، حتى إن اسم "المدرسة الانطباعية" مشتق من لوحته المسماة "انطباع، شمس مشرقة" التي رسمها عام 1872.

 

تعليق عبر الفيس بوك