د. مُحمَّد بن سعيد الحجري
جدل المؤشرات الطموحة وحرق المراحل
كان هناك جدلٌ كبيرٌ حول المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الطموحة التي وضعها مشروع الرؤية أمام الأولويات الوطنية الثلاثة عشر، والتي أرادتْ لعُمان أن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة على مستوى العالم في بعض المؤشرات؛ فهناك من يراها مُغالية في طموحها أو غير واقعية، وهناك من يراها ممكنة التحقق بسبب عوامل الثقة التي تتمتع بها السلطنة وتعطيها ميزة تنافسية عن غيرها.
ومهما يكن الجدل في ذلك فإنَّ وضع هذه المؤشرات العالية، وهذه الجسارة على الطموح أمر متوقع فـ"من يتجرأ ينتصر"، فلنا أن نجسُر على الحلم، شريطة أن تكون الاستعدادات مكافئة للحلم، فهو أمر جيد لعدة أسباب لعل أقربها أنه من طبيعة الاجتماع البشري أن ما يتحقق وما يبقى من أي خطة هو عادة أقل من المخطط له؛ فإذا كان المخطَّط له منخفض الطموح أصلاً، فإن ما سيتحقق منه سيكون أقل بطبيعة الحال، ومع ذلك فإنَّ الحقائق الواقعية تُبرز نفسها، وتواجهك بقوة، وليس أمامنا إلا أن نتحلى إزاءها بـ"تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، فأنت لست وحدك في هذا العالم، وأن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة في عالم متحرك متغير ومنافس ليس أمراً سهلاً، فالآخرون يتحركون أيضاً وليسوا ثابتين، ولن ينتظرك أحد بينما أنت تتهيأ للانطلاق، وحين تنطلق أنت بسرعة 30 كم في الساعة، وغيرك ينطلق بسرعة 100 كم في الساعة، فذلك يعني تلقائيًّا أنك ثابت في مكانك، وغيرك يتحرك بسرعة 70 كم في الساعة.
ويُمكن القول هنا إنَّ تحقيق بعض هذه المؤشرات يتطلب وثباتٍ متلاحقة وحرقاً لكثير من المراحل، وحرق المراحل أصبح أمراً وارداً وممكناً في ظل الثورات التقنية المتسارعة التي غيرت العالم، والنقلة التحديثية الضخمة التي عرفتها عُمان منذ العام 1970م تؤكد قدرة عُمان على إحداث الفارق في مدد وجيزة ومفاجئة عندما يكون وراء التغيير إرادة حديدية مصممة ومثابرة. ومن هنا، فإنَّ تحقق هذه المؤشرات أو قريب منها مُمكن، لكنه مشروطٌ بشحن جميع المؤسسات بهذه الإرادة الحديدية، ومشروط بقيادات مؤسسية جسورة وحكيمة قادرة على صناعة التغيير ورفع أداء المؤسسات إلى أعلى معدلاته، وقادرة على فهم طبيعة المرحلة وما يرافقها من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتملك ذلك الحس السياسي التي يدرك مستلزمات كل موقف وكل مرحلة من سياسيات وخطاب، ومن وراء ذلك والأهم منه المحاسبة المرتبطة بتحقيق المؤشرات أو الإخفاق في تحقيقها أو الاقتراب منها.
* الثابت الوحيد هو عدم الثبات:
لا بديل عن التفكير في المستقبل والتخطيط له، لكن وضع الرؤى المستقبلية البعيدة المدى هو أمر محفوف بالمخاطر في عصر اللايقين الذي تعيشه الإنسانية الآن؛ فحجم التغييرات التي تطال كل شيء وفي سنوات وجيزة يجعل التنبؤ بالمستقبل ووضع الحسابات تجاهه على أساس ما لديك من موارد بشرية واقتصادية أمراً عسيراً، وغير مضمون العواقب؛ فالثابت الوحيد الآن هو عدم الثبات، والمستقر الآن هو عدم الاستقرار، ولعلَّ أكثر هواجس المستقبل غير الواضحة هو مستقبل الطاقة وبدائلها، وهو أمر مصيري لكل اقتصادات الإقليم الذي نحن فيه، ويقترح بعض الخبراء تجاه موجات التغييرات المتلاحقة وعدم الثبات وانكسار اليقينيات أن تكون الرؤى المستقبلية مرنة للغاية ومحتملة بسهولة لخيارات التغيير، مع ثبات أهدافها العامة، وأن تبنى على أساس التخطيط لسيناريوهات متعددة متوقعة، وليس مساراً واحداً قد يفاجئنا بأنه في اتجاه مختلف تماماً، ومن الواجب علينا أن نسأن أنفسنا اليوم ما هي السيناريوهات الواردة وليس المتوقعة فحسب التي سنواجهها؟ وأن نفكر على هذا الأساس المتعدد التوقعات والحسابات سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، مصحوبة باستشعارنا حالة التنافس والتزاحم المتزايدة التي تملأ ساحات الاقتصاد والسياسة في الإقليم والعالم؛ ففي أجواء التنافس تحشد الأمم كل طاقاتها البشرية والمادية وتعبئ كل قواها الناعمة والصلبة، ولذلك فإن الشعوب الحية تكون في أقصى طاقاتها عندما تواجه التحديات وليس في أوقات الاسترخاء والدعة، ونحن لدينا من الطاقات والإمكانات ما لو عبَّأناها كما ينبغي لأمسكنا بكل فرصنا ووصلنا إلى أغلب أهدافنا، والتعليم ثم التعليم ثم التعليم هو أداة التعبئة والاستعداد الأولى، وهو الذي يجعلنا في مستوى الجاهزية الضروري لكل التحديات القادمة؛ إذ "إنَّ التعليم هو جواز سفرنا للمستقبل؛ لأن الغد ملك لأولئك الذين يعدون له اليوم".