هوامش عراقية على متن دنماركي (2 – 5)

حوراء النّدّواي "تحتَ سماء كوبنهاغن"



أ.د. يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

في الجانب الفني تتكئ حوراء النداوي على ثنائية الأصوات المتناوبة في تقديم روايتها، فهناك صوت رافد الذي يحدثنا عن هدى التي طلبت منه ترجمة روايتها إلى العربية، والذي ستؤثر عليه الرواية، وتطوّر علاقته مع الروائية، إذ يلتقي بها، في زمن واقعي لاحق لزمن سردها، وهناك صوت هدى الساردة التي تروي فصول حياتها منذ طفولتها، مروراً برؤيتها (رافد) ذلك الشخص الذي غير حياتها، وصولاً إلى اللقاء الذي تعرفه فيه على نفسها قائلة له: "أنا هدى"
وإلى جانب ثنائية الأصوات المتناوبة تلجأ الكاتبة إل المونولوج، فالفصول التي تسردها هدى تتضمّن كثيراً من الأحداث التي تجري داخل الشخصية، وتقدّمها من خلال نجواها مع ذاتها، لتتخذ شكل اعترافات أمام مترجم هو جزء لا يتجزّأ من الحدث. وينضاف إلى ذلك الرسائل المتبادلة بين الروائية والمترجم عبر البريد الإلكتروني؛ إذ يحاول المترجم الفرار من قدره قبل أن يستسلم لغواية الفضول وغواية الحكاية. وهذان مثالان على ذلك:
•    "عزيزتي هدى.
أولاً أنت لم تعرّفيني بنفسك.
ثانياً رسالتك قصيرة جداً، لم أفهم منها مطلبك تماماً.
ثالثاً أنا لم أعد أمتهن الترجمة من زمن (...)
على العموم إن كان ما تطلبين في نطاق قدرتي، فإني أعدك بأني سأفعل ما بوسعي لمساعدتك"، ص12.
•    "لا لداعي لمساعدتي على إيجاد مترجم، فأنا أعرف أين أجده.
إني اخترتك أنت لترجمتها"، ص18.
ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ الرسائل النصية القصيرة (عبر ماسنجر وغيره) قامت بدور فعّال في شرح وجهات نظر الشخصيات، وفي تطوير المواقف والأحداث، وهذا طبيعي في ظلّ انتماء هذه الوسائط الألكترونية إلى تفاصيل حياتنا المعاصرة.
* * *
تجري أحداث الرواية الحقيقية في فضاء جغرافي محدود، هو فضاء الدنمارك، وبشكل أخصّ فضاء كوبنهاغن، غير أن مكان الذاكرة يخرج عن هذا الفضاء. ويستطيع القارئ من خلال سطور الرواية أن يلمس تنوعاً وغنى في هذا الحضور المكاني، وكيف لا يكون الأمر كذلك ما دامت كوبنهاغن قد شهدت ولادة الشخصية ذاتها:
"في كوبنهاغن كان مولدي. هل تعرفون كوبنهاغن؟
مدينة الشباب والجنون كما يسمونها"، ص23.
تلك المدينة الصغيرة، الكئيبة غالباً،  تتجمع كل مزاياها في مكان واحد، وهي تناسب هدى تماماً: "فلست بحاجة إلى القفز من مكان إلى آخر إذا ما اشتقت إليها.. حين أريدها أجرعها مرة واحدة"، ص384، وما من شك فإن جزءاً من الكآبة الملازمة لهذه المدينة مرتبط بغياب الشمس عنها، والكآبة ها هنا ليست حقيقية بالضرورة، بل تجسيد لرؤية الناظر الذي خبر شمس وطنه الأوّل، أو سمع عنها على أقلّ تقدير: "صيفها الحقيقي يُخرج كلّ مخلوق عن طوره وعادته، فتلقي الشمس حقيقتها على كل شيء، ليستحيل زيف كآبته الشتائية صدقاً"، ص69. ولا غرابة، والحالة هذه، أن تعود كل الآثام إلى احتجاب الشمس معظم أيام السنة عن سماء الدانمارك، لدرجة أن يقال: "إن ندرة أشعة الشمس هي سبب العبوس الدائم وقلة الذوق المعهودة لدى الكثير من الدنماركيين"، ص201، ولا غرابة أيضاً أن يعدّ إشراقها مناسبة سعيدة: "شمس مدينتنا حين تكون فوقنا كم نحسّ أنها لنا.. ملك يميننا، وبأنه لأمر كبير على الكون أن نمارس حياتنا تحتها"، ص201.
أما ليل كوبنهاغن فلم تره البطلة (بوصفها أنثى محافظة) إلا مرة واحدة مع رضا، وربما كان من الأفضل للسرد أن تعتمد الروائية على رافد في تقديم بعض ملامحه، ولا سيما أنها وصفت هذا الليل من بعيد، حتى دون أن تنزل من سيارة رضا: "لم أكن قد أتيت إلى هنا في مثل هذا الوقت، وبالتأكيد ليس في ليلة السبت. كانت الفتيات والفتيان منتشرين في كل مكان، من بولفار أندرسن حتى بداية شارع نوربرو، يتجمعون أمام المطاعم، البارات، وصالات اللعب، وأغلبهم سكارى"، ص317.
ويلاحظ المرء غنى وتنوّعاً في الفضاء الدنماركي المعاش، (على حساب الفضاء العربي المتخيّل كما سنفصّل لاحقاً)، إذ تحضر المساكن والشوارع والمقاهي، بسماتها المميزة فالمساكن تشير إلى سكانها لأنها "مبصومة على الأثاث والأنوار. أنوار خافتة، إذن بيوت يسكنها دنماركيون. أنوار ساطعة وأضواء نيون بيضاء وقوية، إذن تلك بيوت مهاجرين من الشرق"، ص248.
وتشغل الشوارع الدنماركية حيزاً لا بأس به بوصفها أماكن انتقال للحافلات والقطارات والأشخاص، أو أماكن تجمّع لهم في المناسبات، بوصفها محطات عبور المراكز التجارية والمقاهي، ويمكن أن نشير إلى السياق التالي الذي يصف فيه رافد تجمع الناس في مركز فيست تورفيت التجاري في العاصمة،  حيث يجلس مع زوجته في مقهى ماماميا شاعراً بأنّ هدى تراقبه من مكان ما: "كان يوم في فيست تورفيت، يخيّل للمرء فيه أنّ سكان كوبنهاغن كلهم أخلوا المدينة ليجتمعوا في هذا المركز التجاري. حين جلست وزوجتي في مقهى ماماميا بمحاذاة الحاجز الذي نشرف منه على بقية المجتمع، فيما القادمون من الكراج العلوي يطلون علينا من السلّم الكهربائي، كنت شبه واثق بأنها تتبعني بعينها، وأني قاب قوسين أو أدنى منها"، ص145. وثمة مقهى آخر تصفه هدى إذ تجلس مع صديقتها زينة، إذ تقول: "بدا لي المقهى وثيراً دافئاً بأضوائه الخافتة، ورائحة المعجنات الدنماركية الشهية، والقهوة تفوح في المكان"، ص260.
أماّ على الضفة الأخرى من العالم، فإنّ الفضاء يبدو غير ذي ملامح تقريباً، سواء تعلق الأمر بالعراق أو غيره، حتى إن الساردة حين تذكر عطلتها الصيفية تشير إلى أنها قضتها " في واحدة من الدول الأوروبية"، ص229، هكذا دون أدنى وصف أو إشارة مكانية، كما أنها حين تشير إلى بغداد أو دمشق، فإن الإشارات لا تبدو خاصة بأشخاص عايشوا تجربة حياتية، بل بأشخاص لا يعرفون عن دمشق وبغداد إلا معلومات عامة، فالساردة هدى تشير إلى أنها زارت دمشق في طفولتها، مشيرة إلى عمق ارتباطها الروحي بها، عبر سياقات لفظية متعددة، من مثل:
•    "لم يكن إحساسي إحساس سائحة، ولم يكن لديّ فضول المشاهدة، إذ لم أكن أشعر بغربة"، ص33.
•    "حين عدت إلى كوبنهاغن أحسست أني تركت نفسي في سوريا. نسيتها في أحد شوارع دمشق العتيقة"، ص34.
•    "أذهلني اختلاف كلّ شيء عما أعهده. وأذهلني أني أنا نفسي اختلفت عني هناك"، ص31.
غير أن المدقق في ملامح دمشق لن يجد إلا ما اشتهر منها، من مثل محل بائع البوظة الشهير في سوق الحميدية، والحمام الذي يفرش بلاط الجامع الأموي: "تنفلت من بين يديّ لتجري إلى محلّ البوظة في سوق الحميدية.. أو أراها وهي تركض خلف الطيور التي تحطّ في فناء الجامع الأموي فتطير تلك الطيور هرباً من وقع قدميها"، ص35.
وعلى الرغم من أنّ الساردة تقول "وما زلت حين أستذكر بعض الصور التي تقبع في زاوية صغيرة مهملة من ذاكرتي عن دمشق أشعر أن مخيلتي ليست أنا، وإنما هي طفلة أخرى لم تكن في يوم من الأيام أنا"، ص32، فإننا لا نطالع أياً من هذه الصور العالقة في الذاكرة. وهذا يشابه تماماً ما يتكرّر في السياق التالي، حيث والد هدى "كانت له مقدرة عجيبة على تذكّر كل شبر من كلية الهندسة"، ص63، والقارئ طبعاً لا يطلع على شيءٍ مما في ذاكرته العجيبة، أما بغداد فتتكرر ملامحها العامة من عراقة وجمال، وما في أنهارها من رقة وقسوة، فهي "لا يمكنها لضخامتها، وعراقتها وجمالها وندى نهرها وسحر تاريخها... بغداد هذه بكلّ عظمتها تعجز عن جمع امرأة مثل هدى برجل هو ابنها"، ص144، أماّ أبناء الفرات ودجلة فلا فهم "رقيقون بمثل رقة الفرات في انسيابه.. وأبناء دجلة عنيفون بمثل عنف دجلة في تدفقه"، ص281، بينما لا يمتاز مطبخ الأم في كوبنهاغن عن مطبخها في بغداد سوى أنه أكبر بكثير:
"الأم تعتمد في مطبخها الدنماركي تدرجات اللون الأزرق، ليذكرها باللون "الذي تقول إنها دهنت به حيطان مطبخها في بغداد، وتتلمظ وهي تردد بأسى:
ـ على أن مطبخي ذاك يفوق هذا سعة.
ثم تسكت قليلاً، وتجول بعينيها في المكان، وتكرّر:
ـ يفوق هذا بكثير"، ص64.
ويكمن الفرق الأساسي الواضح بين كوبنهاغن وبغداد في السرد في طبيعة الشمس التي تشرق عليهما وتصبغ السكان بملامحها، فهدى تصف أخاها عماد كما يلي: "هو يشبهني ونخيل إلى حد كبير، وإن كانت سمرته أغمق من سمرتنا أنا وهي.. كأنه جلس عمره كلّه تحت شمس العراق، فاستمرّت تلفحه، حتى وإن هرب منها إلى صقيع كوبنهاغن"، ص39. فكأنّ شمس بغداد هي التي رسمته، وأسبغت عليه من أشعتها، مثلما فعلت مع رافد الذي اختزن وهجها ونورها في قلبه: "كأنها قد أشبعتني نوراً حين عهدتني بغدادياً، نوراً يكفي سنوات كوبنهاغن كلّها"، ص143.
ولعلّ رافد أعاد بعض التوازن المكاني إلى النص وأسهم في إضاءة صورة الوطن الباهتة من خلال إشارات محدودة جداً، منها إشارتان تصف الأولى إشارات جده المكانية، وتصف الثانية ملامح الطعام العراقي:
•    "ولإشاراته ما يشبه النقش على الحجر، وهو يشير إلى منارة عالية من بعيد: تلك ساعة القشلة، ذلك شارع المتنبي.. ذلك هو المدخل إليه، ثمّ نواصل فأرى رجالاً يجلسون مطلين من شرفة تبدو قديمة، فيشير جدي بيده: هذا هو المقهى البيروتي"، ص283.
•    "لم تفهم شذى أن طبختها، وإن كانت عراقية الملامح في ظاهرها، فهي تفتقر إلى النكهة التي تختلط في طعامنا حين يُصنع بإياد عراقية بضّة، اختلطت فوق راحاتها رائحة حوايج الكليجة بالسمك المسقوف"، ص86.
أما فيما يتعلّق بالفضاء الطباعي، فقد جاء الغلاف معبّراً عن فتاة تحلم بالطيران في سماء لا حدود لها، وهو ما يعبّر عن رغبة بالانفتاح على الآخر والاندماج فيه، بغض النظر عن المعوّقات التي تتقف في طريقها. وأما في عتبتي النص اللتين تسبقان السّرد، فثمة ميل لما يناقض الغلاف، ويحدّ من نزوعه نحو الطيران في سماء بلا حدود، إذ تدعو الكاتبة عبرهما إلى التمسك بالهوية الوطنية العراقية والهوية الثقافية العربية؛ ففي العتبة الأولى تهدي الكاتبة روايتها إلى أبيها وإلى أمها التي "حين التحقت في الصف الأول الابتدائي في بغداد، لم تكن قد نطقت بالعربية بعد" ص5، ولكنها جاهدت كي تعلمها لابنتها الكاتبة؛ لتنتقل بعد ذلك في العتبة الثانية التي تقدّم فيها بيتين للمتنبي في الحنين، هما:
"نحنُ أدرى وقد سألنا بنجدٍ
أطويلٌ طريقُنا أم يطولُ
وكثيرٌ من السّؤال اشتياقٌ
وكثيرٌ من ردّهِ تعليلُ"، ص7.
واصفة إياه بالشاعر "العراقي" العظيم، وهذا ما يشي بانتماء إلى حالة ثقافية وطنية وقومية في آن، يعززها انتماء المؤلفة ووالدتها إلى جذور هذه الأمة عبر اللغة.
أمّا صفحات الرواية ذاتها، فقد جاءت أليفة لعين القارئ العربي، باستثناءات قليلة، تعتمد فيها الروائية على العربية الفصيحة، وقليلٍ من العامية، ونادراً من تستخدم الدنماركية، حسب ضرورة الحدث، ومواقف الشخصيات وملامحها. وقد استمرّ الفضاء الطباعي مألوفاً أفقياً لا يلجأ إلى الشكل العمودي في الطباعة، باستثناء الحوارات، وبعض الأغنيات العربية التي تعيد التوازن للبيئة الشعبية وتمنح اللغة بعداً اجتماعياً يحيل على الذاكرة (يا حريمة ـ يا زلف يتغاوى ـ لو ما رجعتش ليَّ بقلبك ـ سمّه الحبّ، سمّه ما تشاء)، وقد اخترنا هنا إثبات جزء من أغنية "يا حريمة" لحسن نعمة، وهي الأغنية التي استمع إليها رافد في طريق عودته بعد لقائه مع هدى:
"وكنت أندفع بسرعة غير قانونية في طريق انسابت خالية أمامي حين باغتتني الكلمات:
يا حريمة.. يا حريمة
انباكَت الكلمات من بين الشفايف
يا حريمة يا حريمة
سنينك العشرين ما مرها العشق.. والعشق خايف"، ص ص190ـ 191
ولم يشذّ عن ذلك الترتيب في اللغة والأغنيات إلا أغنية غاري بارلو التي استمعت إليها الساردة هدى في طريقها إلى المدرسة، حيث تورد مقطعين من الأغنية باللغة الإنكليزية ص199، وهذا ما يحدث حركة في الفضاء الطباعي:
Now I'm deep inside love and still breathing
She is holding my heart in her hand
I'm the closest I've been to believing
This could be love forever
All throughout my life
The reasons I've demanded
But how can I reason
With the reason I'm a man

 

تعليق عبر الفيس بوك