علي بن سالم كفيتان بيت سعيد
كانت الأيام تمضي والأشهر تتعاقب والرجل يعمل بكل طاقته لحفر آبار مياه جديدة في بادية قطر مع فريق عمل متفانٍ والأموال تتدفق على أسرته في ريف ظفار بانتظام فحياتهم باتت تتحسن تدريجياً حسب ما تُفيد المكاتيب والمواشي لم ينفق منها سوى بقرتين بينما الإنجازات مستمرة هنا والبدو راضون عن أداء كتيبة الظفاريين الذين يتشاطرون الأعراف والتقاليد معهم فيحبون اللحم وشرب الحليب والنوم في العراء والسمر على بقايا الجمر مع النشامى في صحراء قطر. وفي ليلة نهاية الأسبوع كان على الجميع أن يتجهز منذ ليلة الخميس لأداء صلاة الجمعة في مدينة الغرافة العتيقة، في ذلك المساء البارد قدم شاب متوسط القامة من ظفار إلى المخيم للتسامر والترويح عن النفس مع فريق الحفر هذا وبعد منتصف الليل ذكر لهم أنَّه أكمل ثلاث سنوات في قطر وسيُغادر إلى الوطن بعد عدة أيام وهنا غبطه الجميع لأنه سيعود إلى الأرض التي يحبها الجميع وقال إنِّه يعمل مع الشيخ أحمد بن علي آل ثاني ولم ير منه ومن أسرته الكريمة إلى كل الخير طوال تلك الفترة ومن يرغب منكم بأخذ مكاني فإنَّ الراتب هو 150 روبية هندية مع غرفة وإعاشة وغير ذلك من الميزات الطيبة مقابل الإشراف على رعاية الحلال (الإبل – الغنم – والبقر) والاهتمام بصحتها وتغذيتها وهو أمر ليس فيه الكثير من المشقة لكن الشيوخ هنا يحبون الحلال ويحرصون على التَّفاخر باقتنائه ورعايته وطبعاً هناك رعيان ومن يقوم على إطعام وتنظيف الزرائب وما على المشرف سوى الاطمئنان على الوضع العام للمواشي ونظافة الحليب والمساعدة في حال قدوم الضيفان وبإمكان الشخص القيام بأعمال أخرى والحصول على دخل إضافي في وقت الفراغ فالشيخ أحمد رجل نشمي وطيب الخصال.
لم يُعِر الجميع أي اهتمام لطرح الرجل فالفرق لا يتعدى ثلاثين ربية مقابل التخلي عن السمر مع الرجال وحياة البر وهبات الريح تحت الإدارة الحكيمة للشيخ سعيد بن مستهيل وفي هذه اللحظات راجع الرجل حساباته وقال فرق الثلاثين ربية جيد فأنا أتيت هنا لأفرج كربة أسرتي ولا مانع من التضحية بالراحة والصحبة الطيبة مُقابل هدف أسمى وبعد صلاة الجمعة في جامع الغرافة العتيقة أخذ الريفي الرجل الذي كان يعمل مع الشيخ على جنب وقال له أنا سأحل مكانك في هذه الوظيفة ومن لحظتها توجه لابن عمه الشيخ بن مستهيل فشكره وأثنى عليه وقال له ابن العم، كما تعلم بأنني بحاجة لمزيد من المال وأنت ما قصرت معي ويعلم الله أنني سأفتقدكم ولكنني قررت أن التحق بوظيفة بن جعبوب فربما أجد فيها متسعاً لكسب مبالغ إضافية أوسع بها على أهلي فصمت قليلاً ثم قال أنت الآن أصبحت الرجل الثاني في هذه المهنة وأنا أخطط للعودة العام القادم مما يعني قيادتك لكتيبة الحفر كما أنك شددت عضدي واعتمدت عليك طوال الفترة الماضية إلا أنني أمام إلحاحك هذا لا أجد بدا من الموافقة وسأدعو لك بالتوفيق ومتى ما أردت العودة اعتبر مكانك موجود ووظيفتك محجوزة.
لملم أغراضه مساء الجمعة وودع الرجال والبادية وترك مسلة الحفر شامخة ومن خلفها الغروب الحالم على كثبان الصحراء فهو من أشرف على تركيبها قبل يومين وغادر ماشيًا على قدميه إلى الطريق العام وهناك وقف مؤشراً فأقلته سيارة بيك أب لشيخ بدوي وأسرته في الكبينة بينما ركب هو على الأغراض في الصندوق الخلفي الشارع كان ترابياً والسرعة عالية والهواء يضرب جدائل الشعر المتدلية على أكتاف تلك القامة الفارعة لقد قرر البحث عن فرصة أفضل رغم نسبة المغامرة العالية فالتفريط بوظيفة قائمة وراتب منتظم والعمل مع صحبة أهل ظفار والذهاب إلى تجربة جديدة قد يكتنفها الكثير من الغموض والمحاذير والالتزامات في كنف بلاط الشيوخ قد لا يطيقها مقابل ثلاثين ربية بالفعل كانت مجازفة من العيار الثقيل في تلك المرحلة.
وفي خضم هذا التفكير العميق صاح البدوي الذي يقود السيارة بتهور .. وين تبي يا رجل... انتبه وقال له الغرافة الجديدة فأوقفه على ناصية مدخل المدينة وهناك أخذ يسأل عن بيت الشيخ أحمد بن علي آل ثاني فأرشدوه إليه وعند الباب قال للحارس نادي لي المهري فأتاه ورحب به وأدخله معه إلى البيت الذي كان بحق جميلا رغم تواضعه وهنا قال له لابد من موافقة الشيخ أحمد والشيخة نور على توظيفك كبديل لي فهما ملاك الحلال فقدما على مجلس بن ثاني رجل فارع الطول جميل المحيا باش الوجه وقدم بن جعبوب الرجل للشيخ فرحب به ومازحه قائلاً هل تحب شرب القهوة ولا الشاي كصاحبك المهري فأجابه بأن شرب قهوة بن ثاني فرض واجب وهنا غنم المجهوي الحضور بعد أن وضع أمامهم صحون التمر فوافق الشيخ أحمد وبارك للرجل ووعده بالخير بينما توجست الشيخة نور التي نظرت له من خلف حجاب وقالت مستنكرةً (هذا عود واجد) تعني كبيرا وضخما فهمس صاحبه في أذنه بألا يُعلق وانصرفا إلى الحجرة وهناك قال له من غدا باشر عملك وأنا سأغادر ونصحه بأن يختار السكن في الغرفة الخارجية فأنا قد تورطت بالغرفة الداخلية حيث لا يدخل على أحد إلا عبر الحراسة أمضيا ليلتهما الأخيرة يشرح له اختصاصات عمله ويعلمه عن عدد المواشي ووضعها وما عليه القيام به وغادر في الصباح الباكر بينما باشر هو مهام وظيفته الثانية في بلاط بن ثاني. ... وللحديث بقية بإذن الله.