قلبٌ على الطريق


هالة عبادي | سوريا

ما أقسى أن يحتاج الإنسان إلى مأوى ... خرجنا بعد ليلةٍ من القصف المروع، لم يكن لدينا الكثير من الخيارات ، الصمت والدعاء بعيونٍ تائهة وقلوبٍ معلقةٍ بالسماء ، هذا كل ما كنا نستطيع .
انتظارٌ متزايدٌ وطريقٌ بدت بلا نهاية ... السعادةُ حلمٌ بعيدٌ محفوفٌ بالرهبة ومن الأفضل تجنبه في الوقت الحالي ، مشهدٌ يسيطر عليه الخوفُ وشعورٌ عميقٌ بالقهر ... حتى إحساسُ الخوف بدا كجانبٍ من جوانب الترف.
لا أحد بإمكانه أن يعرف كيف ولا في أي وقت سيقع التالي، كل شيءٍ أصبح في المرتبة الثانية بعد بقائنا على قيد الحياة ، حاولت الاتحاد معهم ، كانوا صامتين ، القهر جعلهم مهزومين ، وكنت كمن يرى النور بعد طول ظلام أتذكر أشياءنا المبعثرة ، ألوان الوجوه ، والرماد الذي غطى كل شيء .
واصلت التأمل بصمتٍ أنا الأخرى، تغمرني ذكرياتي الحزينة.
بعض الأزمات تمحو روحك وتزيل أفكارك لدرجة الانغلاق على نفسك وهذا ما حدث لي ، أدركت بعدها أن خروجي منها سيكون بمثابةِ معجزة .
لم أعتد النظر إلى الفقر مواجهةً ، أنا التي لم تعرف إلا الدلال والراحة ، كان الشقاء يخيفني ، ولهذا كنت أتجنبه محاولةً الاتصال بأشياء سعيدة وهذا ما كنت أسعى لأن أفعله ، تذكرت أياماً حلوة مرت علي تذكرت وجود أحبتي معي وراق لي ذلك كثيراً .
الذكريات الجميلة تنقذ الأرواح وبينها عاد لي الأمل من جديد ، حاولت إقناع نفسي أن  الرحلة مجردُ ممرٍ غمضةُ عينٍ وبعدها تختبئ الصورةُ الجميلةُ لعيشٍ كريمٍ.
كذلك حاولت جاهدةً إبقاء عيني مغمضةً على الحلم الجميل ، لكن أصواتهم القاسية كانت تجعلني أستيقظ مرتجفةً .
البطاقة الشخصية ...البطاقة العائلية ... وما أسموه مجازاً أمتعة ...كنا نضطر للتوقف كل حينٍ للتأكد منها وتفتيشنا .
كاد قلبي يقع بل لقد فعل حين نادى باسم ابني الذي لم يتجاوز عامه التاسع ...هممت بالنزول لكنه بمقبض سلاحه أعادني تاركاً قلبي الملتاع على الأرض ، لحق به أخوه الأصغر ، أفلت قبل أن أتمكن من الإمساك به ، في الحقيقة أنا التي لم يعد لدي القدرة لأن أفعل .
ظلت عيونهم بقسوةٍ تراقبني صارخةً : لا تكوني سبباً في إيذاء الجميع ، مررت بنظري على وجوههم ، سرعان ما يصبح الأشخاص أكثر شراً .
أثناء الأزمة ليس هناك وقتٌ للعواطف لا وقت للماضي ولا للمستقبل ، أنت تحيا لحظتك فقط ، وهذا ما يجعل الإنسان وحشاً ، إنها الرحلة التي ستقرر مصيرنا إلى الأبد ، هكذا صار كل منا أكثر وحدةً وأكثر وحشية حتى نهاية الرحلة.
بدأت أفكاري تجول الأماكن وتراجع الأحداث المألوفة وغير المألوفة وحده الحزن كان ينتظرني في كل مكان ، وامتلأ داخلي بأشياء كئيبة ، خشيت أمي من عواقبها .
كنت في جميع اللحظات الحاسمة في حياتي أوجه أفكاري نحو إيماني أستجديه مزيداً من الدعم بعينين دامعتين ، وهكذا فعلت فيما كان كل شيءٍ حولي يتدهور .
لقد سلبوني ابني ولم يعد هناك ما أستطيع فعله-  أو هكذا خيل إلي - ، قبله كان أخي قد غاب عني، غيابه شكل فجوةً كانت حاضرةً بقلبي دائماً وبقوةٍ ، كانت معاناتي شديدة لدرجة أني ظننت أني لن أتعرض لأسوأ منها في حياتي ، تذكره أعاد لي الشعور بأني فقدت من يحميني وأن علي جمع كل قواي لحماية نفسي ، ودفع أشباح الخوف والقلق والحزن عني إلى أبعد الحدود لكنها هي الأخرى ظلت حاضرةً معي وبقوة .
لم تكن الأحداث الأخيرة تخيفني فحسب بل كانت تضعني في حالةٍ من الاضطراب تعود قلبي بعدها أن يستقبلها وهو يخفق بشدةٍ .
جاءني صوت أخي هامساً " لا تخافي لأن ما تخافي منه يكبر حتى يهلكك " يبدو أني كنت أحتاج كلماته كي أفصح عن شيءٍ ما كان قابعاً  في سريرتي دون أن أعلم بوجوده ... بكيت بحرقة ثم تلمست الساعة التي لفها قبل رحيله حول معصمي، شعرت بالتحرر مما كان يخنقني ، لقد أثرت كلماته في قلبي .
أخيراً وصلت إلى القناعة بألا أبدو خائفة ، حتى خيل إلي أني هزمت وإلى الأبد ذلك الوحش القبيح الذي يدعى الخوف ، كانت أمي تعرف العواقب السلبية المحتملة لما حدث في قلبي ، وظلت بحرارةٍ تربت على يدي .
الخوف يزيد الوقت طولاً والساعة تخبرني أي واقع أعيش ، هربت إلى صورته ، إلى رغبتي العارمة بلقياه ، إلى الإمساك بيده والمضي معاً في كل مكان ليشهد العالم أنه من جديدٍ معي وأننا معاً دون غيابه الذي أحدث ثقباً في قلبي قبل ذاكرتي ، حتى بات من الصعب إخراج ابتساماتي التي ما كانت تفارق وجهي قبل ذاك الغياب ، هذا ما أخبرتني به المرآة القاسية في غيابه  قبل أن يأتي ذاك المساء ، كان مساءً رائعاً ، رأيت نجومه تلمع بقوةٍ ، يومها اتصل بنا ليخبرنا أنه قد وصل ... كنت أحبه وكان يحبني كما لم يحب أحداً من الجميع، كنت بحاجةٍ لهذا الحب ولهذه الذكرى تحديداً أتمسك بها منتظرةً أن يعود لي ابني  عاد غيابه ليظهر في كل تفصيلةٍ تمر بي، أحسست أني محاصرةً بالغياب وبالفقد.
كان من السهل على الناظر أن يقرأ ذلك من وجهي الذي كان يحمل تعابير إرهاقٍ واضحة ، لامبالاةٍ ناجمة عن الصدمة أو عن الحزن ، ثم الاضطراب عند تلقي أي جديد ...
في انتظار عودة ابني كدت أستحيل شخصاً آخر، لكني سمعت موسيقى خطواته تعزف في دمي، نعم  لقد عاد وعدت  ساعتها أنا ، كنت أبدو جميلةً لم أكن أعتقد أنني من الممكن أن أكون بهذا الجمال الذي تحدثت به عيونهم عني .

 

تعليق عبر الفيس بوك