التمدد الجغرافي لبعوضة الزاعجة المصرية

 

د. عبدالله باحجاج

من بين أهم الحقائق التي خرجنا بها من خلال متابعتنا لتاريخية بعوضة الزاعجة المصرية في العالم، هو قدرتها على التمدد الجغرافي ليس داخل الدولة الواحدة فقط، ولا بين الدول المتجاورة أو المتلاصقة فحسب، وإنما بين القارات، وهذه المعلومة قد أصبحت راسخة الآن في القناعات داخل بلادنا، وتمّ الكشف عنها بجلاء في حفل تدشين حملة استئصال هذه البعوضة في محافظة مسقط، والتساؤل الأهم، هل كانت مسألة التمدد الجغرافي في قناعة المؤسسات المختصة بعدما اكتشفت أول بؤرة لهذا النوع من البعوض في قرية "ديم" بولاية ضلكوت بمحافظة ظفار عام 2008؟

فتاريخيا، فقد اكتشفت هذه البعوضة في شرق آسيا عام 1952، ثم تمددت إلى إفريقيا عام 2005 حتى وصلت إلى أمريكا عامي 2013 و2014، وتداعياتها في تجربة البرازيل لابد من استدعائها حتى نحصن تجربة محاربة هذه البعوضة، ليس من واقع تمددها الراهن في بلادنا وإنما من منظور تمدده ونتائجه من خلال تجارب تلكم الدول. وهنا تكمن أهميّة تساؤلنا الأخير، فهو يمثل قضية آنية ذات تحدٍ مستقبلي، وحتى لو رجعنا به إلى ما يطرحه التساؤل من بعد تاريخي، فسيكون من منظور الإيجابية على اعتبار أنّ عام 2008، يشكل بداية تجربتنا مع البعوضة الزاعجة، وتقييمها من المسائل الضرورية لرسم استراتيجية جاهزة لمواجهة مثل هذا التحدي في أي وقت. لكن، وقبل ذلك لابد من الإشادة بشفافية حملة الاستئصال في محافظة مسقط وبالجهود الكبيرة والمتكاملة والمشاركات المنصهرة في فريق العمل الواحد لهذه الحملة التي انطلقت يوم الثامن من يناير الجاري في ولاية السيب الأكثر تضررا حتى الآن، ومن المقرر أن تنتقل إلى ولاية بوشر غدا الثلاثاء على أن تستهدف وفق خطة برمجة كذلك ولايتي مطرح ومسقط على التوالي. وهناك 1200 فرد قد جيشوا لمحاربة هذه البعوضة من وزارة الصحة وبلدية مسقط وفرق التطوع من مختلف محافظات البلاد وبمشاركة أعضاء من المجلسين الشورى والبلدي، وهذه المشاركة التضامنية والمتعددة المؤسسات والمحافظات الحكومية والرسمية والشعبية، تعكس مجددا حالة التضامن والالتحام بين كل مؤسسات الدولة والمجتمع العماني الواحد من مسندم لظفار، ولله الحمد والمنة، فإنّ الإصابات البشرية مطمئنة، فوفق ما كشف رسميا، فإنّ عدد حالات الإصابة  حتى يوم السبت الماضي، قد بلغت 48 إصابة بحمى الضنك، وجميعها من ولاية السيب التي استهدفت الحملة (830) منشاة من منازل  ومزارع وحظائر ومحلات تجارية، بعضهم قد غادروا المستشفى - لله الحمد والشكر - والبقية لا يزالون يتلقون العلاج  وحالتهم مستقرة.

وقضية تمدد البعوضة، قد أصبح مسلم بها منذ اكتشاف أول بؤرة في قرية ديم عام 2008، وانتقالها الى قرية خضرافي ومدينة ضلكوت بولاية ضلكوت ومن ثم إلى طاقة التي لا تبعد عن صلالة حاضرة محافظة ظفار سوى قرابة 35 كلم، وقد أوضحت ذلك وزارة الصحة في بيان لها ردا على استفسارات الرأي العام. لكن، تقريرها توقف عند عام 2016، ولم يتطرق للحالة في الأعوام 2017 و2018 بالإيجاب أو السلب حتى اكتشف تمددها الى محافظة مسقط عام 2019، كما أنّ التقرير لم يبدد المخاوف الاجتماعية من وجود علاقة من عدمها بين البعوضة الزاعجة وظاهرة تصاعد وانتشار البعوض في الكثير من ولايات ظفار حتى إنّ بعض مناطق ولاية صلالة لم تسلم منه منذ أن برزت كظاهرة لافتة في ولايات الشرق كمرباط وسدح وحاسك وحدبين والشويمية.. ليظل هذا البعوض هاجسا اجتماعيا حتى الآن، مما يعلي هنا من تساؤلنا حول جهود التعامل مع هذه البعوضة منذ أول اكتشاف بؤرة في ولاية ضلكوت الحدودية.

ولو حاولنا التعمق أكثر، فهناك تساؤل يطرح نفسه، هل كان ينبغي علينا محاربة الزاعجة داخل حزامنا الأمني الحدودي أولا منذ لحظة اكتشافه عند الجيران حتى لا يتمدد الى داخلنا؟ هذا يتوقف على مدى وجود الوعي بمسألة التمدد الجغرافي للزاعجة، لكن، وهذا هو الأهم أن هذا يعني أن ظفار كانت ضحية هذا التمدد الجغرافي، وليست منشأة للزاعجة، ولا تشكل حالة تصدير حصري لها الى بقية ولايات البلاد، وحتى التمدد من ديم الى بعض مدن داخل ولاية ضلكوت ومن ثم الى ولاية طاقة وأخيرا الى محافظة مسقط، يطرح إشكالية في فهم "التمدد" وحتمياته مما يعطينا نتيجة واحدة فقط، وهي عدم السيطرة على هذه البعوضة داخل بؤرتها الأولى، بدليل تمددها. وبالتالي، فهل كانت سرية اكتشاف الزاعجة في ظفار وحملة مكافحتها السرية مبررة؟ وهناك تساؤل آخر مهم جدا، وهو، هل كانت عملية الرش بالمبيدات الحشرية التي اعتبرها رد وزارة الصحة الوسيلة الأخيرة التي يمكن من خلالها ضمانة عدم تمدد هذه البعوضة؟ وإذا كانت كذلك، فكيف تمددت هذه البعوضة داخل ظفار أولا، ومن ثم انتقلت الآن إلى مسقط، والإعلان في ديسمبر 2019 عن أول إصابة مرضة ناجمة عن البعوضة المزعجة؟ نطرح هذه التساؤلات حتى نستفيد منها الآن من أجل تمتين جاهزية كل محافظة من محافظات البلاد، فأسوأ الاحتمالات – لا قدر الله – يرفع قلقنا من قضية التمدد وتداعياته على صحة العامة خاصة وأنّ موجة برد وأمطار يتم التبشير بها الآن، وموسم الخريف على بعد بضعة أشهر.

ولذا ينبغي أن يكون لدينا الاستعداد المؤسساتي بكامل الجهوزية المتكاملة لمواجهة أسوأ الاحتمالات، فهل هناك ضمانة بعدم إعادة انتشار هذه البعوضة في ولايات أخرى؟ فهنا تكتسب نظرية "أسوأ الاحتمالات" أهميتها بصرف النظر عن تقييم الوضع الآن، للكثير من الدواعي أبرزها احتمالات التمدد وتعرض المواطنين للإصابات، ودواعي تأهيل الكفاءة وتعزيز الكفايات لمواجهة مثل هذه التحديات في أي وقت، وهناك بعد آخر إقليمي ملح، وهو أن كل البيئات التي حددتها وزارة الصحة لانتشار وتكاثر البعوض الزاعجة ـ تتوفر الآن في عدد من ولايات محافظة ظفار، بما مدن في ولاية صلالة، وقد تحول فعلا البعوض العادي إلى عنصر زاعج للساكنة الاجتماعية، مما يحتم القيام بحملة وطنية في كل محافظة مثل محافظة ظفار ليس في مجال الرش فقط وإنما هدم هذه البيئات، ووضع خطة تثقيفية معلنة ومتاحة للكل، ولقطع الطريق على كل أنواع البعوض والحشرات سواء كانت زاعجة الساكنة الاجتماعية "المستوطنة"  كالبعوض أو زاعجة الصحة البشرية "العابرة لنا من وراء الحدود" كالزاعجة المصرية، والظرفيات الآن مواتية قبل فصل خريف 2019، فهل سنسمع قريبا تدشين هذه الحملة الوطنية؟ فرغم ما في الزاعجة المصرية من سلبيات كبيرة، إلا أنّ لها إيجابية وحيدة، وهي التأكيد على علاقة الجزء بالكل، سلبا أو إيجابا، لذلك اهتمامنا بالجزء هو في واقع الأمر اهتمامنا بالكل، بل نرى أن الجزء يشكل الخط الدفاعي الأول للكل، وهذه أهم الرسائل السياسية للزاعجة المصرية.