الوظيفة الأولى في أرض المهجر

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

أحس الرجل بالمهانة العميقة فكيف يدخل مندساً إلى معسكر الحريجة (شرطة المطافئ في قطر) ويخفى تحت السرير؟! طلب من العاملين هناك نقله إلى أي جهة أخرى فاقترحوا عليه العمل في البر مع ابن عمه سعيد بن مستهيل فالرجل مشرف على حفر آبار المياه للبدو في براري قطر، وهنا وافق وقال: فليقلني أحدكم إليه قبل طلوع النهار استأجر بن نيشر سيارة في صبيحة اليوم التالي وأخذ معه المهاجر الريفي إلى سيوح الغرافة، وبعد مسيرة ساعتين بين الطعوس بدت خيمة وهيكل بئر عملاق في وسط واحة جميلة حولها مضارب البدو وخيم الشعر منتشرة حول المكان. 

تنفس الصعداء وتوقفت السيّارة بقرب الخيمة التي خرج منها بر حور في لباس أنيق فرحّب بالقادمين وصحبهم للداخل، وهنا بادر القادم الجديد بالحديث وقال: ابن العم أنا كما تعلم لديّ أولاد أيتام وجئت أمس للجماعة في الحريجة ووضعهم صعب، عليهم مسؤولين عدنيين ورقابة شديدة، وجيناك عسى أن نحظى بوظيفة معكم.

تهلل وجه الرجل ورحّب وقال وظيفتك جاهزة من بكرة وحي وسهلا بك، وهنا قام وسلم عليه وشكره وسمح لبن نيشر بالعودة الى الدوحة؛ فقد قضي الأمر وحصل الريفي على الوظيفة الأولى في أرض المهجر وهي عامل فك وتركيب بئر مياه في صحراء الغرافة.

أبلى الرجل بلاءً حسنا في مهنته الجديدة فقد استطاع خلال أسبوع تعلم فك وتركيب جميع قطع البئر تسانده في ذلك بنيته الجسدية القوية وحاجته الماسة للمال فالراتب كان عبارة عن 120 روبية هندية في الشهر، وهنا أصبح لدى مشرف عمليات الحفر ومسؤول تمديدات المياه ابن عمه الشيخ سعيد بن مستهيل حور مساعد يمكن الاعتماد عليه فأراحه كثيرا من المسؤولية. وفي ليلة مقمرة بين تلك الطعوس الحمراء اقترح عليه الرجل أن يتكلم مع الشيخ بن جبر ليعينه مساعدا رسميا له أو مسؤولا عن عمليات الحفر في منطقة أخرى؛ ولكن باله كان سارحا فالمشهد الذي يستحضره في تلك اللحظات كان لابنيه وأمّه والكهف والبقرات العجاف وأخيرًا انتبه وأعاد عليه العرض فاقترح التريث حتى يتمكن أكثر من فهم كل مقتضيات الوظيفة.

في تلك الأيام كان أهل ظفار في معظم دول الخليج يشكلون ثورتهم الوليدة في الجنوب عبر عدة تنظيمات ويمدون طلائع الثوار في الجبال بالمال والسلاح، ولم تكن قطر استثناء في القاعدة، فكانت هناك زيارات دورية لمعظم الذين يعملون في قطر فمن لا يستطيع المشاركة عبر الاجتماعات والتنظيم أو حتى الذهاب لجبهات القتال تكون مساهمته في دعم المجهود الحربي بجزء من الراتب في نهاية كل شهر، ولقد علم الرجل بأنّ السلطان تعرض لمحاولة اغتيال وتصادف ذلك مع تواجدهم في مسقط أثناء سفرهم، ومن هنا عرف أنّ سبب الربكة التي كانت في مطرح آنذاك كان لها ما يبررها، وأنّ قرارهم الهروب عبر البر إلى دبي كان هو الخيار الصائب فلو ظلوا لتم إيداعهم في سجن الجلالي.

كانت القومية العربية في أوجها في تلك الفترة، فقد كان مذياع الخيمة يبث لهم خطب جمال عبد الناصر، وبالرغم من النكسة إلا أنّ القوميين استعادوا بريقهم من جديد عندما خرج الشعب المصري ومن خلفه الأمة العربية رافضين استقالة عبد الناصر، فبدأت الاستعدادات للثأر. وفي خضم هذا الحماس تبرع جميع العاملين من أهل ظفار في قطر براتب كامل لدعم مصر وقائدها الذي يقود الأمة من جديد، فكان ذلك هو الراتب الأول لهذا المهاجر القادم من جبال ظفار فلم يبدِ عليه أسفاً؛ فالشحنات القومية كانت لا تقاوم.

وعند حلول موعد الراتب الثاني كان عليه الذهاب للدوحة لترتيب أمور الحوالة إلى ظفار التي كانت تمر عبر بعض تجار عدن مثل عبد الله سعيد بدية، وصالح أحمد رابظة، وأحمد عبد الله بن تمام، فنزل في ليلة الخميس الأخير من الشهر مع بقية المهاجرين بصحبة مشرف عمليات الاستكشاف والحفر، وفي الطريق اقتطع منهم مندوب الجبهة مبلغ دعم المجهود الحربي، وفتح الرجل حساب الحوالة عن طريق مكتب أحمد عبد الله بن تمام كونه يأخذ عمولة أقل ويتمتع بالمصداقية لدى جموع أهل ظفار في قطر..

وللحديث بقية بإذن الله تعالى،،

...............................................................................................................................

  • شكرا لسعادة السفير سالم بن علي بايعقوب المشيخي على تصحيحه لبعض المعلومات الواردة بهذه السلسلة وخاصة فيما يتعلق بأسماء التجار، وكتاب الحصن في صلالة، والإجراءات المتبعة في عملية الحصول على تصريح السفر.