سنرحل ويبقى الأثر


مروان المخلافي | اليمن

لست أدري هل  مقولة "من كان للصلاة مضيعاً فهو لما سواها أضيع" تنسحب على جميع قطاع الصلاة، أم أن لكل قاعدة استثناءآت وشواذ، وهل من الإنسانية أن نأخذ إنساناً بجريرة قد لا تعبر عن مستوى سلوكه وأخلاقه، أو تَبِين عن جوانب مبادئه وقيمه، وهل من العدل والإنصاف عند من يمتلكون قدراً كافياً من الوعي والإدراك بأن يتعاملون مع هؤلاء بأسلوب كله احتقار لهم، ويقلل من شأنهم نكاية مستحبة لأنهم قطاع للصلاة مهما كانت جواهرهم.
وحقيقة ما استرعاني في أن أطرق مثل هذا الموضوع موقفاً كثيراً ما يتلقفني في الحياة لأناس قد يكون البعض منهم متساهلاً في الحفاظ على صلاته، والبعض الآخر قد يكون قاطعاً لها، وقد يصوم بدونها، وبالوقت نفسه فيهم من مروءة الفعل، وشهامة النفس، وطيبة القلب، صفات فيها من النبل والأخلاق ما يفوق بعضاً ممن يتشدقون بتدينهم والتزامهم، وربما يرون هؤلاء تحت أقدامهم كالذر أو أياً من الحشرات بحجة أنهم قطاع للصلاة، والبعض قد لا يتورع من وصفهم بأقذع الصفات، وإذا سمعوا عنهم موقفاً عن شهامة النفس ومروئتها استقلوا فيهم هذا الفعل الذي لن يقبله الله منهم للأساس الفاسد الذي قاموا عليه بحسب رأيهم،ويرون أنفسهم - ربما - بأنه قد رفع عنهم ممارسة مثل هذه السلوكيات لأنه مكفي بصلاته وصيامه ،ويرفضوها بنفس الوقت من هؤلاء فقط لأنها تجسدت بإنسان لا يصلي.
لقد رأيت بأم عيني إنساناً لا يصلي  - إن صح التعبير - لكن حب الناس له من زملاء عمله  وسكان حارته، ومن أبناء عمومته وأقربائه لا يضاهيه حب وقبول لدى أحد من أفراد أسرته  لما يكتنف روحه ونفسه من طيبة قلب، ورحابة صدر ، وجمال أخلاق، وروعة سلوك، في يده من العطاء ما به يشهد الناس، وفي وجدانه من السلوان والعزاء ما يريح أفئدة الآخرين منه، تعرفه الفزعات ليلاً ونهاراً دون أن يتوانى في خدمة إنسان اضطر لنجدته بسيارته القديمة، وفيه من العطاء والسخاء ما وصل نوره لكل عريس من زملائه وأبناء حارته وأقربائه.
ابتلاه الله بمرض زوجته التي أصيبت بفيروس أفقدها نصف وزنها ماتت على إثره بعد سنوات من المعاناة، وجد الناس ملتفون حوله وقتها، وتداعوا عليه من كل بيت حين علموا بموتها، قاموا بواجبهم على أكمل وجه على عزة نفسه التي عرف بها، ورغم نزوحه في مكان بعيد عن الشارع الرئيس، إلا أنه في تلك الفترة التي ظل يعالج فيها زوجته التي لم تنجب له ولداً، وجد من الجيران الذين أسرهم بأخلاقه وسلوكه من يقوم برعاية زوجته في غيابه وقت العمل.
لم يشترطوا صلاته، بل قاموا - وبإنكار ذات - برعايتها ورعايته، لم يبخل عليهم، ومع وجود أمه العجوز كان يشتري لهم كل ما يحتاجونه من " راشان" وبدورهم أشركوه مع زوجته وأمه بطعامهم صبحاً وظهراً وعشاءً، حملوا معه زوجته في أحلك الظروف، ولم ينبسوا ببنة شفه تأففاً أو تضجراً، بل قاموا بواجبهم كجيران رأوا من جارهم ما يبهجهم، ويسر نفوسهم بأخلاقه الرفيعة التي اطمأنوا إليها متجسدة بإنسان عدت عليه الدنيا بغوائلها ، فلم يكونوا في صفها ضده، بل شكلوا له جداراً ساندا يتكئ بظهره ليحتمي بهم.
ويوم توفاها الله انسحبوا من بيته بكل هدوء وأدب دون أن ينسوا رعايته بعد زوجته، وبقاءه وحيداً مع أمه التي أحبت هؤلاء القوم رغم بساطتهم وتواضعهم، دفعها واقع الحال لأن ترجو ابنها أن يتزوج ابنتهم التي كانت تساعد أمها في رعايتهم.
وفعلاً مرت سنتان ليخطبها ويعقد بها، ويومها ما زلت أتذكر كيف قام زملاؤه في العمل وبعض أقربائه من الترتيب لعرسه، لم يجعلوه محتاجاً لشيئ من ذلك ، رتبوا وجهزوا ونسقوا له كل شيئ بحب وامتنان لهذا الرجل الذي يعني لهم الكثير بأخلاقه وقيمه ومبادئه، ويوم عرسه كم مان يوماً جميلاً ، بدى وكأنه لوحة زاهية الألوان من الروعة والجمال.
ما كان يتردد أو يتلكأ أبداً في تفاعله مع ظروف من عرفوه، كان سريع النجدة ، وبعض القوم لا يحلو لهم طعم القات إلا بوجوده، إن تجلس معه تشعر باحترامك ومقامك، ويسري فيك إحساس كم أنك محضوض بإنسان كهذا في زمن عز فيه الأوفياء والأنقياء.
إن بعض الملتزمين في هذا السياق يتلذذون بتعظيم الناس لهم، بل ويشعرون بأن ذلك من حقهم على الآخرين، وخاصة من يرون فيهم التقصير، ويظنون بأنهم من يجب أن يحبهم الناس ويثقون فيهم ويعودون لهم بالمشورة والرأي ، إن انتظم الناس للصلاة وهو بين قوم لا يعرفوه وجد نفسه الأحق بإمامتهم، وإن انتهى المقام به في مجلس من الناس انبرى للحديث لأنه الأحق بذلك كما يتهيئ له ذلك، وإن جمعته مائدة طعام مع آخرين رأى بنفسه زهواً لأنه الأصلح بينهم كما هو مقتنع بنفسه غروراً ، وما علموا أن الغرور قاصمة الظهور.
ليس والله مقالي هذا تشفياً ببعض المتدينيين ، أو موقفاً مسبقاً منهم ، فقط أردت أن أشد الأنظار لهكذا حالات مفعمة بالإنسانية ، وروح الأخلاق والتعامل الجميل كما انشد نظري لمثل هذه الحالة وغيرها الكثير .
متى سنعيد تفكيرنا الجاد بأن قطاع الصلاة ليس كلهم في سلة واحدة من السوء، هم كتل من الإنسانية التي قد يفوقوننا فيها وكم هي محببة عند ربنا، علماً بأن حسابهم في الأصل لا دخل لنا فيه، وحكمنا على شيء لا يكون إلا بما نشاهده بأعيننا مما يجري على أفعال الناس فقط، وهذا الأصل حتى لا نظلم إنسان بطيش السهام التي لم تصب كبد الحقيقة في أحكامنا أبداً لعور العين التي نشاهد بها.
متى نعيد التفكير ببعض المفاهيم التي درجنا عليها ولم تكن أكثر من تجنيات في حقوق الآخرين أياً كان هذا الآخر طالما وفيه نفس تنبض بين ضلوعه، سنرحل ياهؤلاء بعيداً حيث علام الغيوب الذي تكفل بحسابنا، وأرشدنا للأخلاق والقيم مثلما أرشدنا للصلاة والصيام، وترك الميدان لنا في اغتراف ما نستطيعه من ذلك .
ولله در ياوليد الشرفي إذ يقول وأختم: سنمضي بعيداً ويبقى الأثَرْ *
فكن ليناً لا تشدُّ الوتَرْ.
فمن جفَّف الخُلق من طبعهِ*
تولَّى بذم الملا وانكسَرْ.
تواضع بحبٍ فلا تنحني*
وكن شامخاً دون طبع الكبْرْ.
تواضع كنجمٍ بعالي السما*
تجلّى على الماء دون الحفَرْ.
تبسم فإن الهوى ضاحكٌ*
بثغرك أنت سينمو الزَّهَرْ.
ولا تكُ ممن هنا أسرفوا*
بنرجسهم يزدرون البشَرْ.
ونقي الفؤاد من الشائباتِ*
ومن كل عجبٍ نما واستقَرْ.
فكلٌ بأفعالهِ راحلٌ*
سنفنى جميعاً ويبقى الأثَرْ.
فإمَّا يقال : لئيمٌ مضى *
وإمَّا كريمٌ ، مضى أو حضرْ.

 

تعليق عبر الفيس بوك