د. عبدالله باحجاج
وصلت قضيّة الباحثين عن عمل الآن إلى إعادة إنتاج نفسها بالأدوات والوسائل التي أنتجتها سابقا، وبدأت معها كل التوجهات والسياسات السابقة وكأنّها تقذف بفرص العمل في البحار والمحيطات، لا يرى لها أثر بعد عين رغم ما ذكرته إحصائية رسمية مؤخرا عن توظيف 64386 مواطنًا ومواطنة في القطاع الخاص و4125 مواطنا ومواطنة بالقطاع الحكومي، وهو ما يعني أنّ البلاد في حتمية الحاجة الوطنية العاجلة للتفكير النقدي في المسارات التي تنتج هذا الواقع، وفي السياسات الحاكمة للمسارات، وفي الأفكار التي يكون مصانعها عقول رسمت لنفسها خط سير، لم تخرج عنه، ولن تخرج إلا إذا تدخلت السياسة في صلب عملها، وأدرنا قضية الباحثين من المنظور السياسي الخالص.
وما عدا ذلك، فإنّ قضية الباحثين عن عمل ستظهر لنا بين كل فينة وأخرى، ومع كل فينة ستسقط الكثير من المصداقيات.. مما قد يُولد أزمة ثقة، نعلم مآلاتها واحتمالاتها، ويحتم في مقابلها الإسراع في تقديم الحلول من خارج الصندوق، وعندما يخرج فكرنا عنه - أي الصندوق- سنرى أن الضرورة تقتضي إعادة الاعتبار السياسي لقضية الباحثين عن عمل دون أن يكون لها تأثير على التضخم، ومفردة "إعادة الاعتبار السياسي" مقصود بذاتها على اعتبار أنّ لنا تجربة سُيّست فيها الوظائف في مرحلة السبعينيات لدواع أمنية واجتماعية دون أن تثار في حينها أية أزمة مع التضخم، فقد أقيمت مراكز بمسميات غير مدنية في كل منطقة جهوية - لا تزال قائمة- لدواعي شغل أبنائها، وكان يتلقى بعض المواطنين أكثر من مرتب- آنذاك- رغم علم السلطات لنفس الدواعي.
نعلم أنّ الظرفية الاقتصادية واعتبارات أخرى لن تسمح بتكرار نفس التجربة، لأنها حصرية على تلك المرحلة فقط، إلا أن إعادة الاعتبار للعامل السياسي الآن يظل هو القاسم المشترك الثابت رغم اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين المرحلتين، لكن من منظور إيجاد الحلول من رحم الاقتصاد وليس قفزا فوقه، فالمطلوب منها- أي السياسة- إصدار مدونة إلزامية بمسارات اقتصادية تخدم قضية الباحثين عن عمل، من منظورين أساسيين؛ الأول، إصدار توجيه سياسي بتخفيض نسبة الأجانب في الشركات خاصة الوظائف المتوسطة والعليا، فهناك 150 ألف وظيفة كبيرة ومتوسطة يشغلها الوافدون، علينا سريعا أن نُعمِّن منها على الأقل 50 ألفا كمرحلة أولى وعاجلة على أن توضع برامج أخرى للتعمين والإحلال للمراحل التالية لتقليص العدد إلى المستويات الوطنية المقبولة. أمّا المنظور الثاني فيتمثل في إقامة مشاريع اقتصادية منتجة لفرص عمل كبيرة، تكون ضمن الاستهدافات الأساسيّة المباشرة من إقامة المشاريع في بلادنا، ولو رأى المركز الوطني للشغل النور- وفق التصورات التي اقترحناها في مقال سابق "من أنت؟ أنا باحث عن عمل!" لعلقنا عليه الآن الآمال في بلورة الغايات السياسية في قضية الباحثين عن عمل.
هذا يعني أنّ إقامة المركز مرتبطة برد الاعتبار السياسي لقضية الباحثين عن عمل، ودون ذلك، فسيكون المركز مثله مثل أية مؤسسة انتجت الفشل المتكرر، فلو مُكِّن المركز من كل أدوات التمكين السياسية والفنية، فمهمته ستكون إجراء المسوحات والكشوفات والدراسات والبرامج الإلزامية بالتنسيق مع الشركاء الاقتصاديين، لاستيعاب الأعداد الحالية أو التخطيط السنوي قبل أوانها، فمثلا الموانئ البحرية كميناء ريسوت للحاويات وميناء الدقم، وقد اعتبرا مؤخرا من بين الموانئ العالمية العملاقة ذات الأهمية الجيواستراتيجية، قد أصبح دورهما في خدمة الاقتصاد العالمي يطرح الكثير من التساؤلات، فما هي حصتهما الملموسة في قضية التعمين؟ وكذلك الحال يمكن أن نفتح ملف المناطق الحرة والمطارات والشركات وقطاع النفط والغاز، والمناطق الاقتصادية وكل المشاريع العملاقة في بلادنا.. أليست قادرة على احداث المتغيرات الاستراتيجية في قضية الباحثين عن عمل؟ فقد ضخت الدولة فيها المليارات سنويا ومنذ عدة عقود، وبالتالي، فإنّ وظائفها الأولى بها للمواطنين وليس للأجانب، وهنا منطقة السياسة الغائبة الآن وليس الاقتصاد الحاضر بقوة، فرجال الاقتصاد لن يتخذوا هذه الخطوة، بل لن يفكروا فيها أبدا؛ لأنّ لهم مصالح من بقاء الوضع يميل لصالح الأجانب، وهي للأسف رؤية ضيقة جدا، قياسا بمخاطر قضية الباحثين عن عمل اقتصاديا واجتماعيا.
هاجسنا هنا الوظائف العليا والمتوسطة وليست الدنيا، يكفي 132 ألف من أبنائنا يتقاضون أقل من 500 ريال وفق آخر الإحصائيات، ويكفي وجود 45711 باحثا عن عمل عن وفق الإحصائيات الرسمية، غير الآلاف من الذين أُحيلوا للتقاعد بمعاشات متدنية، وهذه الاختلالات ليست من مصلحة بلادنا، لأنّها تؤشر إلى القضاء على الطبقة الوسطى، وهذه رسالة عاجلة تخرج من رحم السياقات، وتدعم مطالبنا بعودة العامل السياسي في قضية الباحثين عن عمل. وقد كانت لبلادنا السبق في توظيف هذا العامل لصناعة الاستقرار والأمان الاجتماعي حتى قبل أن يطرح الرئيس الامريكي دونالد ترامب شعار "أمركة الوظائف" ويضعها في مقدمة أجندته السياسية، ومعها يحقق الآن المعجزات في مجال توفير الفرص، حيث انخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 3.7% بنهاية سبتمبر مع زيادة متوسط الدخل في الساعة بنسبة 3.1%، علمًا بأنّ هذا المعدل لم ينخفض إلى هذا المستوى منذ 1969، مما يكسب شعبية كبيرة عند الأمريكان رغم إخفاقات سياسته الخارجية. وقد كانت هذه قراءة مسبقة من ترامب وفريقه بخطورة قضية الباحثين عن عمل وبتردي أوضاع الطبقة المتوسطة، وهو ما تعاني منه الآن أوروبا، وفرنسا أنموذجًا.
لذلك يكون خيار "الوظائف المتوسطة والعليا للعمانيين أولا" كحل استراتيجي لقضية الباحثين عن عمل، وكذلك لمواجهة الاختلالات الطبقية في بنية المجتمع، وهذا لن يأتي من تلقاء الإدارة الاقتصادية لقضية الباحثين عن عمل، وإنّما من خلال تدخل السياسة المُلزمة في عمل هذه الإدارة.
سنحاول في مقال مقبل رسم بانوراما للعامل السياسي في قضية الباحثين عن عمل، وسنرى من خلالها بصورة واضحة، أنّ الإشكالية تكمن في هذه الإدارة وليس ناجمة عن أزمة وظائف، وما نود التأكيد عليه أخيرًا، أنّ الحل الإداري المتمثل في ضخ الآلاف من فرص العمل بين كل فينة وأخرى هو بمثابة مسكن للألم في ظل التراكم السنوي للباحثين عن عمل، ومع ذلك نحتاج إليه الآن وبصورة عاجلة بعد ما وصلت إليه القضية من تطورات، لكن لابد أن يتزامن معها العامل السياسي الموجه والحاكم للحل الاقتصادي، عندها فقط سنرى معجزة الوظائف في بلادنا تتحقق بصورة تلقائية دون أن تثار معها مشكلة التضخم على عكس الحلول الإدارية.