كسب الشباب.. أولوية 2019

د. عبدالله باحجاج

هل هُناك أزمةُ ثقة بين الشباب وبعض النُّخب الحكومية والبرلمانية؟ مُجرَّد طرح هذا التساؤل الآن، هو في حد ذاته رسالة آنية، لا بد أن تعبُر إلى المستويات العليا بصرف النظر عن حجمها ومآلاتها؛ فهما تعدَّدت الآراء وتنوعت، فمن المؤكد أنها ستتفق -على الأقل- على الحدود الدُّنيا، وهى أنَّ هُناك بوادر لأزمة بدأت تتصاعد وتتعقَّد، وتفتح آفاقًا للمستقبل، وقد بدأت سيكولوجياتها تُعبِّر عنها بحدية الآن عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وهنا ينبغي أنْ لا ننظر لما يظهر فوق السطح، بقدر ما يهُمنا بالدرجة الأولى الأسباب التي تنتجها من تحت السطح، وهنا ينبغي أن لا نتركها دُون حَل، حتى لا تجد لها حاملًا سياسيًّا مُستقبلا.

والهاجس الأخير: أننا ينبغي أن نُعلي من شأنها هنا؛ لدواعي وضرورة الوعي بالمتغير الجديد في الديناميات "القوى" الجديدة أو الصاعدة  في بلادنا، وهى قوة الشباب التي بدأت الآن تُظهر نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بصورة لافتة، وتشكل قوة ناعمة مؤثرة، وهذا طبيعة المتغير الجديد الذي سيفرضُ نفسه على المرحلة المقبلة، في الوقت الذي لا نرى فيه أيَّة إدارة لهذه الدينامية المتصاعدة، وكل من يتابع ردة فعل الشباب على أية تصريحات أو مواقف تشاؤمية سيدرك معنا حجم هذه القضية وآفاقها، وهذه مرحلة متقدمة لما سيأتي إذا ما استمرت الجهات الحكومية في التعاطي مع ملفات معينة بنفس الآليات والميكانزمات السابقة التي تقطر الحقوق، وتجعل أغلبها تتراكم، لكن إلى متى؟ وكذلك إذا ما استمرَّت النخب الحكومية والبرلمانية غير واعية بتصريحاتها ومواقفها الجماهيرية، والتي لا تُقذف في قاع المحيطات أو البحار المفتوحة، وإنما في محيط اجتماعي متفاعل بسيكولوجية الترقب. وكل ما نرصده حتى الآن، أنَّ الفعل الرسمي -بثنائيته الحكومية والرسمية- يغذِّي الترقب بمجموعة من السلبيات مختلفة الأشكال، وأصبحت حالة الترقب مرتفعة، وذات حساسية مرتفعة بدورها، قد ترمِي بالشباب في زاوية ضيقة، وقد يجد الشباب أنفسهم وحيدين في ظل تزايد الضغوطات عليهم نفسيًّا وماليًّا.

ومن الأهمية القصوى، معرفة هذا الوضع الآن، حتى نستدرك الفعل ونصوِّب الأقوال باتجاهات الوعي بهذه الدينامية الجديدة في مآلاتها التي هي أساسا من صناعة تطبيقات السياسات العامة  الممتدة منذ العام 2011، صحيح أنَّ شبابنا لم يكونوا سببا للأزمات، ولا منابع للمشاكل، ولديهم من الوعي بأهمية الاستقرار والأمن ما لا يُمكن المزايدة عليه أبدا؛ فذواتهم طبيعية ومتوازنة، وقد تأسَّست على مبادئ وقيم أصيلة، لن تجعل منهم مُشكلة داخل وطنهم، ولم تصنع فيهم عُنفا في جِبلَّتِهم، بل العكس، فهم مرهفو الحس، طيبو القلب، حسنو النوايا؛ مما يصنع في ذواتهم في المقابل قوة سيكولوجية، يُمكن التعبير عنها بقوة الآمل في غد مشرق، وإن طال انتظاره؛ شريطة عدم استفزاره، وشريطة وجود الأمل الحالم بالأفق الرحبة والممكنة. وبانتفاء هذين الشرطين، فإنَّ مُؤشرات تآكل الثقة الآن تُعبر عنها رِدة فعل الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لن نُدخل أنفسنا في جدليات وقائع  قديمة أو حديثة تُثِير استياءهم، وإنما الذي يهمُّنا الآن هو تآكل ثقة الشباب في فاعلين حُكوميين ومُستقلين، وما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، يُعبِّر لنا بجلاء عن حجم هذا التآكل مهما كانت خلفياته ومسبباته.

الأهم كذلك التأكيد على أنَّ الرأي العام للشباب قد أصبح  قوَّة تُستثار من الدخل فقط -ولها أسبابُها طبعًا- على عكس الاستفزازات الخارجية التي تستنهضُ رأيَ عام الشباب من تِلقاء نفسه ضِدِّها، كقوَّة وطنية ناعِمة لها التأثير النووي الذي يغني بلادنا عن  التلويح بقوَّتِها الصلبة، وهُنا ندعُو كلَّ فاعلٍ الحكومي ومستقل لأن يَقول خيرًا خالصًا وواضحًا أو ليصمت. لكن هل الصَّمت وحده سيحافظ على الثقة؟ ولو نظرنا لمشهدنا السياسي من خارج الصندوق، فسنجد أنَّ جوهر التآكل ينطلق من الإخفاق في ملفات أساسية؛ مثل: ملف تحميل المجتمع دائما ثَمَن أية أزمات مالية واقتصادية دون الشركاء الآخرين، وكذلك ملف الباحثين عن عمل، وفصوله الجديدة التي أخرها ما كشف أمس عن تسريح تعسُّفي لـ28 مواطنا، وقضية التسريح تهدِّد كذلك الكثير من المواطنين، وملف الباحثين عن فرص التعليم الجامعي والتدريب الفني، وملف المخدرات، وملف انتشار الأمراض الوراثية وغير الوراثية، وملف مجلس الشورى وإخفاق أداء الكثير من فاعليه من تحقيق -أو على الأقل- التعبير عن حقوقهم بلهجة التضامن الصريح معهم...إلخ، وكلها ملفات متراكمة مُنصَهِرة من حيث انعكاساتها مع بعضها البعض على الشاب وأسرته، وتتقاطع الآن في وحدة الاستهداف النفسي للشباب بصورة غير مقصودة، ومن ثم فإنَّ أية لغة تشاؤمية أو مَسَاس بالمنظومة النفسية، تَحدُث مفاعيلُها النووية داخل سيكولوجيات جيلنا الجديد بصورة عامة.

وحتى نقترب من مشهد انعكاسات تلكم الملفات على الشباب، فإنه يمكن القول إن أية رسالة سلبية "قولا أو فعلا" في المجتمع، قد أصبحت تعطِي الانطباع بتأخير استحقاق الحقوق التي تَئِن بها تلكم الملفات، وعندما نتغلغَل في العامل السِّني لشباب تجاوزت سنهم (سِن الشباب من 17-24 عالميًّا) والكثير منهم وصل لسن 30-35 وهم على قائمة الباحثين عن عمل، فإن هذه السلبية ستأجج تفاعلات الجسد، وصراعات النفس الداخلية وستصور مشهد استحقاق أساسيات الكينونة البشرية بعيدة المنال، كالحق في العمل والحق في المسكن والحق في تأسيس حياة زوجية كغيرهم من البشر، خاصة وأنَّ الزمن يسابق سنهم بصُورة تثير عليهم حواسهم وعواطفهم، وتقلب عليهم توازناتهم الطبيعية، فمن يقدر هذا البعد ضمن سياقات الوعي بموجبات فهم وتفهم سيكولوجيات الشباب الراهنة، أو تلكم المستقبلية التي يمكن استشرافها من الآن؟

لذلك؛ ينبغي أن يكون 2019، عامَ كسب ثقة الشباب عبر العمل السريع على انفراج تلكم الملفات بصورة ملموسة، ولن تكون كذلك، إلا بتغيير الأطر والكوادر الراهنة التي لم تَصنع النجاح المأمول مع إشراك الشباب الفاعل من كلِّ محافظات البلاد، مُتزامنا مع إعادة النظر في الآليات والميكانزمات، وإشراك الشباب مسألة تقتضيها دواعي استعادة الثقة في الأطر والسياسات، والمصداقية والصدقية في تطبيقاتها، وقد نُحمِّل هذه الأخيرة المسؤولية، بدليل بقاء قضية الباحثين عن عمل تراوح مكانها حتى الآن، فإحصائية رسمية تكشف عن 50 ألف باحث، وربما أكثر.. رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت، إذن.. أين الخلل؟

وفي المقابل، فإنَّ غياب التدافع من المنظور الديمقراطي، قد أسهم بدوره في تآكل الثقة في أداء الكثير من أعضاء البرلمان، وأفضل صورة للتعبير عن التدافع ديمقراطيًّا، ممارسة حق الرأي والرأي الآخر، وهو ما نجده غائبا أو شبه غائب، أو لنقل بصورة أدق، في تراجع مستمر، والأسباب نرجعها إلى الثقافة والوعي والضغوط، وعلينا البحث في هذه القضية بصورة معمقة. وحتى ذلك الحين نتساءل: هل انتخب العضو عبر صناديق الاقتراع لكي يمثل مصالح المجتمع، ويعمل على تحقيق التوازن مع الشريك الحكومي؟ أم الاعتداد بالحِجج والظروف التي يُقدمها ممثلو هذا الشريك؟ وهل صلاحيات مجلس الشورى متهمة الآن أم الاتهام الأساسي يكمن في فاعلية أداء الأعضاء أو كليهما معا؟ هذا موضوع مقالنا المقبل إذا لم تستجد قضايا آنية على اهتماماتنا بقضايا الوطن والمواطن.