الفشل ومبرراته

 

أحمد الرحبي

يُمكننا القول بأنَّ السمة الغالبة في ثقافتنا العربية هو الجانب التبريري لأخطائنا وتجاربنا الفاشلة، الذي تتميز به الثقافة العربية دون غيرها من ثقافات الشعوب والأمم الأخرى في العالم.

فعلى مدى ستة عقود من عمر التجربة العربية الحديثة، نقرأ على ضوء ما كتبه الكثير من القادة والساسة وصناع القرار في الوطن العربي في مذكراتهم، نبرة غالبة تعتمد خلق المبررات لما يمثل أخطاء قاتلة مازالت تُعاني من جرائها أمتنا العربية حتى اللحظة الراهنة وتجارب فاشلة حرفت مسار الأمة عن طريقها وجعلتها تتردى في ظل انعطافات متوالية للوراء بدلاً من السير قدماً للأمام، فليس هناك من هؤلاء الساسة وصناع القرار من تحلى بالجرأة واعترف بواقعية بخطئه وإخفاقه، حيث مثلت هذه المُذكرات والسير في جانب كبير منها تجميلا للمسؤول وصانع القرار، بدلا من الاعتراف بالأخطاء ومراجعتها، فلا نجد هناك شجاعة للاعتراف وجرأة مراجعة الذات ومساءلتها، فلا  شك أننا نختزن الكثير والكثير من المبررات في حياتنا فأخطائنا وفشلنا مبرر دائما بلا كثير عناء في الإقناع، فلا حاجة لنا لمنطق قوي لايمكن رده لتبرير أخطائنا والتجارب الفاشلة في حياتنا.

وقد غدت المبررات كثيرة في حياتنا بكثرة الأخطاء التي نرتكبها، أو يمكن القول إن هذه الحياة هي عبارة عن مجموعة مبررات جاهزة تجعل لكل خطأ ارتكبناه أو أي محاولة فاشلة قمنا بها، تبرر هذا الخطأ وهذه المحاولة الفاشلة، فالتبريرات في حياتنا هي أشبه بوسائد مخملية ناعمة تتلقفنا بكل عطف وحنو عند ارتطامنا بالواقع وظهور أخطائنا وانكشاف محاولاتنا الفاشلة في التعامل مع هذا الواقع وتدعونا إلى نوع من الاستكانة والرضا عن النفس لتدخل النفس في نوم قرير هانئ على هذه الوسائد/ المبررات، بدلا من التعنيف والزجر لها لشحذها على مجابهة التحديات والتغلب عليها من الجولة الأولى أو من الجولة الثانية على أقل تقدير، فالمبررات أوجدناها في حياتنا بشكل وظيفي دائم لعدم الإقرار بالواقع وعدم الاعتراف بنتائجه فهي دائما تخدم مهمة عدم الإقرار بالواقع بشكله العاري الذي من المفترض أن يدفع بنا إلى مساءلة أنفسنا والدخول في عملية مراجعة لأفعالنا وتقييم لأدوارنا في الحياة.

ليس هناك حياة مكتملة، فالاكتمال هو نقص دائما لا تعترف به الطبيعة في ناموسها، وإذا ما اعتبرنا أن الواقع هو دائما محصلة طبيعية لأفعالنا حيث لا يمكن التهرب من استحقاقاته، فإن المبررات هي شكل من أشكال خداع النفس نسوقها دائما من أجل رفض الواقع وعدم الاعتراف به، وعندما نتحلى بشكل متدني من الواقعية في حياتنا يكون الطلب بكثرة على التبريرات لكل شاردة وواردة من أخطائنا.

وبرغم أن الطريق إلى النجاح معبد بالأخطاء ومع الإقرار بأنه من الأخطاء دائما تظفر تجاربنا الناجحة في بداياتها، إلا أن عدم الاعتراف بهذه الأخطاء وعدم الإقرار بها والتحصن أمام هذا الاعتراف والإقرار بقناع سميك من المبررات يحولها حالئذ في حياتنا من مجرد أخطاء عابرة إلى عقبات حقيقية كأداء تتراكم مع أخطاء وتجارب فاشلة قادمة لا يجري الاعتراف والإقرار بها بصدق، لتشكل لنا عائقا حقيقيا في طريق تقدمنا في الحياة.

فميزة النجاح الحقيقي ونكهته الحقيقية الأصيلة هو كونه يأتي كطعم سكري محلي لمرارة الفشل فمن لا يتجرع مرارة الفشل لا يصل إلى تذوق طعم النجاح ونكهته، كما أن الفشل وما ينتج عن تجاربنا في الحياة عموما من أخطاء وحالات فاشلة وخيبات أمل كثيرة، يؤكد لنا أن النجاح هو ليس دائما قفزة من الخطوة الأولى وإنه إذا لم نتوقع الفشل ولم نعترف به في مشوار حياتنا وفي خطواته المتساوقة إلى الأمام، لن ننجز تلك الخطوة المكتملة إلى النجاح ولن نحقق تلك القفزة المنتظرة لنظفر بهدفنا الأسمى الذي هو النجاح وهو الهدف الذي يشكل دافعا قويا لحياتنا ويعطي لها معنى وقيمة حقيقية.

فمن الانكسار يولد التصميم على النجاح فليس هناك نجاح مضمون يمكن كسبه من الجولة الأولى،حيث إن أخطاءنا دائما تعلمنا سبل النجاح، تقودنا في الطريق إليه هذا لو توفرت لدينا الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء التي نعمل في كل مرة واجهنا الإخفاق في مسيرتنا على دراسة هذه الأخطاء والاستفادة من خلالها في معرفة مواطن الخلل لدينا وتجاوزها، فالتجارب الحقيقية في الحياة دائما ما تصقلها الأخطاء والهنات التي نقع فيها خلال هذه التجارب والنجاح على ذلك يغدو هو محصلة أو تراكم لأخطائنا وإخفاقاتنا التي استطعنا الاستفادة منها وتجاوزها لذلك مهما تعددت الأخطاء والإخفاقات في حياتنا لا يعتبر ذلك حكما نهائيا بفشل هذه الحياة إلا إذا لم يكن عندنا القدرة على التحلي بالواقعية في مراحل حياتنا والاعتراف بهذه الأخطاء والإخفاقات ضمن شروط الواقع وقوانينه التي لا يمكن الإفلات من إسارها، فحتى الحركات الثورية على سبيل المثال رغم انطلاقها في البداية بدافع الحماسة الثورية والعاطفة المتأججة للتغيير سرعان ما تعيد حساباتها عندما تصطدم بأرض الواقع، لتتحلى بمقدار معين بما يعرف بالواقعية الثورية،لتتكيف في أهدافها وأحلامها مع شروط الواقع على الأرض، وهو الأمر الذي لا مهرب لهذه الثورات من أن تأخذه في الحسبان وإلا واجهت الفشل والإخفاق بعد وهلة من الحماسة والرومانسية الثورية وهو الوضع الذي واجهته الكثير من الثورات في التاريخ بعد أن صمت آذانها عن نداء الواقع وحساباته التي تختلف في المحصلة عن النظرة الحالمة البعيدة عن أرض الواقع.