طُرُق الحَزِيز!!

د.  سعيد الحارثي

 

"رواندا" كحالة اقتصادية حديثة برزت على الساحة في السنوات القليلة الماضية، تشير وبشكل قاطع إلى أن الإقتصاد لا يبنى على الثروات وإنّما على التخطيط السليم والجريء. نهض هذا البلد من أتون التناحر والموت إلى جمال المائدة المشتركة وإلى المفهوم الحقيقي لدواعي النجاح خلال عقدين ونيّف من الزمن. والحقيقة التي لا نجهلها جميعاً والضاربة في عمق المنطق تؤكد بأن السير على الطرقات الحجرية الحازّة والقاسية أبطأ بكثير عن السير على الطرقات السريعة الممهدة. هكذا تبدو الصورة عندما نرغب أن نقارن الحالة العُمانية بغيرها عند الحديث عن الطبيعة التنظيمية الذي تقوم عليها عمليات إنعاش الاقتصاد في بلدنا. كنت قد كتبت في مقال سابق عن جماليات المشروع الوطني "تنفيذ" وكيف أنّ المجلس الأعلى للتخطيط والأمانة العامة له، قد قدما أنموذجاً تخطيطياً وتنظيمياً وعملياً رائعاً للكثير من الخطوات الرائدة التي أحدثت علامة فارقة وفتحت الآفاق لمرحلة فكرية في الإدارة والتخطيط أكثر تجدداً وانطلاقاً.

إنّ المطلع عن كثب، يرى بأنّ المسألة كانت ولا تزال أوسع وأكبر من أن تٌلقى برمّتها على وزراة التجارة والصناعة، وهي التي قدمت فعلياً من التسهيلات أكثر مما يمكن للمؤسسات الأخرى أن تتواكب معه، وبرنامج "تنفيذ" خير من يُحتكم عليه في هذه المسالة. إنّ تصريح أحد المسؤولين من تحت قبة مجلس الشورى بأنّ البرنامج الوطني "تنفيذ" ومنذ 2016م لم تُباشَر مبادراته بحسب ما هو مخطط لها، يأتي متفقاً مع تسارع دقات قلب الوطن التي يتسببها القلق على مصير تلك المبادرات الهائلة والتي وضعت النقاط على الحروف في الكثير والكثير من الإخفاقات التي عزلت ولسنوات عديدة الخطط الاقتصادية عن بُعدها الاستراتيجي المحض، لتظل تلك الخطط قصيرة الأمد ومعتمدة فقط على النفط ونضائره، ومقيدة بأفكار من لا ناقة لهم ولا جمل في تطوير الرؤى المستقبلية للاقتصاد العُماني. قد نتفق جميعاً بأن نتائج مبادرات البرنامج الوطني "تنفيذ" وانعكاس جدواها على الاقتصاد يتطلب مدد زمنية طويلة نوعاً ما، فلا يمكن، بطبيعة الحال، أن تظهر نتائجها خلال ثلاث سنوات، هذا إن سلّمنا بوجود خطوات حقيقية لمباشرة العمل في تلك المبادرات. ولكن قد نتفق أيضاً على أهمية عدم عزل تلك المبادرات في قطاعاتها الثلاثة الرئيسية على أقل تقدير عن أجندة الموارد التي تبنى عليها الموازنة العامة للدولة، وإن كان العزل الإعلامي قد تم فعلياً طوال عام 2018، والذي قارب على الانتهاء، مقارنة بما كانت عليه الهالة الإعلامية لـ"تنفيذ" أثناء عملية تحليل الواقع والتخطيط الاستراتيجي لمجابهة التحديات التي كانت ولا تزال الشعرة التي تثقل ظهر البعير.

وأقول لكل من يعنيه الأمر، لماذا نعمد إلى تشويه جمال اللوحة بعد رسمها؟ وإلى متى سنمتطي أسلوب الإنهزام واليأس لمجرد أن هناك جهات لم تتعاون لفك إشكاليات محركات الإقتصاد؟ ثم ما كل هذا القلق الذي يطبق على القرار ليبقيه في الزاوية الحرجة غير المنفرجة؟ والسؤال الأهم، أين الدور المرتقب لخبراء الاقتصاد المحليين والدوليين في إحداث التغيير؟ أم أنهم بدورهم وقعوا تحت طائلة البيروقراطية، عافانا الله منها. فمن غير المنصف بأي حال من الأحوال أن تبقى مخرجات العمل التي أقرها "تنفيذ" قيد التأجيل والتسويف. فالكثير من التسهيلات الإجرائية الحكومية كانت قيد التحرك والتجديد والتطوير، ولم نتوقع أنها ستصير كجعجعة لم تأتِ بطحين!

إنّ التركيز على تدوير عجلة المشاريع الكبيرة بغرض إنعاش الاقتصاد، وهذا ما يتم تسويقياً على أقصى تقدير حتى الآن، لا يعني الاستهانة بالأثر البعيد للمشاريع الصغيرة والمتوسطة- ولا أقصد بها هنا المؤسسات- إذ إن المشاريع الصغيرة والمتوسطة على تنوعها التجاري والصناعي هي التي ستدعم الاقتصاد على المستوى الاستراتيجي وسيحافظ على استدامته. ويبدو للمراقب للسوق العمانية حالياً، أن واقع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مقابل الشركات العظمى، يشي بتزايد الفجوة بين الطبقتين الاقتصاديتين. ويا لها من فجوة. حيث يبدو أن السيناريو الأسوأ يسير بصورة مضطردة تجاه تزايد عدد المشاريع الكبيرة بمقابل إغلاق للكثير من الأنشطة التجارية التي تديرها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي تعتمد في نجاحها بالدرجة الأولى على حاجة المستهلك العادي سواء كان مواطناً أو مقيماً والذي أصبح يكتفي بالمولات التجارية التي تعرض له كل السلع الاستهلاكية في محطة واحدة وبأسعار منافسة.

ولعل المؤشرات الرقمية غير واضحة مقارنة بالنسق العام والمشاهَد للأنشطة في الأسواق المحلية وبالأخص في أسواق محافظة مسقط، حيث أصبحت الكثير من المحلات التجارية والشقق كعقارات خاوية على عروشها، وقد تزينت بلوحات "للإيجار" و"للبيع" بحثاً عمّن يقيم عليها أنشطة تجارية بعد أن كانت نشطة قبل سنوات قليلة. وهذا يؤشر بدرجة كبيرة إلى أن الحالة تنذر بتزايد عدد المعروض من المحلات مقابل ضعف الرغبة في إقامة أنشطة تجارية غير ذات جدوى. ووفقاً للمفهوم الاقتصادي للعرض والطلب فإن تلك العقارات التي يمتلكها المواطنون هي أيضاً بدورها ستسير إلى بوار، والأطمّ من ذلك هو أن معظم تلك العقارات قامت على تسهيلات بنكية مخيفة، والخوف كل الخوف أن تكون تلك التسهيلات بدورها قائمة على دراسات جدوى ملفّقة!! والمنطقة التجارية بالمعبيلة الجنوبية هي من الخاويات على عروشها، الشهادات للعيان. وما نتطلع إليه حقيقة، هو تكريس الجهود من جديد لرتق الثغرات التي أوصى بها "تنفيذ" والتي طالت القوانين ولوائحها التنفيذية، ولعل المرسوم السلطاني الأخير الصادر في 29 نوفمبر 2018م والذي يخول معالي وزير البلاط السلطاني بإصدار اللوائح والقرارات المتعلقة بوحدة التنفيذ والمتابعة، خير ما سيعيد إلى لوحة "تنفيذ" زخرفها لتؤتي أُكلها.. والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك