اقتصاد الخطاب الديني !!

 

د. سعيد الحارثي

تُجمع البشرية السويّة على أنَّ الخطاب الديني يحتل مكانة خاصة في نفوس الأفراد من حيث أنه يركز على الجانب الروحي والذي بدوره ينقّي شخصية الفرد من الكثير من الشوائب التي تتشكل بفعل العوارض الدخيلة، ويُحدد طبيعة تلك الشخصية ويرقى بمستوى القيم الأصيلة المكتسبة من الفطرة، مما يعكس جمال المبادئ السوية التي تعظّم خيرية الأفراد، والمجتمع الإنساني.

تُعدّ الأخلاق من القيم التي تمثل صمّام الأمان الذي يعين على الاطمئنان على سلامة ممارساتنا للشأن اليومي في خصوص وعموم الحياة. ولا شك أنّ مستودع الأخلاق الفاضلة يجب أن يبقى مليئاً بما يعين على نبذ سموم النفس وفساد السلوك. وتأتي حاجة الدولة وبالذات في مؤسساتها الحكومية والخاصة إلى الاستثمار في الخطاب الديني الذي يركز على القيم الإنسانية وعلى رأسها الأخلاق، الأمر الذي سيساعد على المدى المتوسط والبعيد في إحداث الكثير من الإصلاحات داخل مؤسساتنا، الأمر الذي بطبيعته سيحقق تعظيماً هائلاً للأمن الاقتصادي للدولة، ناهيك عن انعكاس ذلك على الحالة الاجتماعية للأسرة العُمانية.

وتبقى الأخلاق الفاضلة تمثل الأساس غير المادي الأول المعين على قيام الدولة المدنية المعتدلة، وهي عامل مهم لتماسكها وديمومة النهج الذي تتبعه في تسيير حياة الناس والارتقاء بأساليب تعزيز المكاسب ونبذ الصراعات، ولسلطنتنا الحبيبة تجربة متفرّدة في هذا الشأن، انطلقت من عمق التاريخ ولا زالت ترفل بذلك الثوب في ظل النهج المدني الذي تبناه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس – حفظه الله-. وفي الحديث: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ"، وما كان ذلك إلا مضربا لحسن الخلق وللين الجانب ولسلامة السرائر.

جميع مؤسسات الدولة بدون استثناء، تتأثر مسيرتها في البناء والنجاح بقدر المستوى الذي تحققه في إجراء الإصلاحات الداخلية المرتبطة بالعنصر البشري بالدرجة الأولى، بدءا بتعزيز الثراء المعرفي لديه، والمتمثل في تدريبه وتأهيله وانتهاءً برفع مستوى الوعي لديه بمفهوم الشراكة وتحقيق القدر الكافي من المسؤولية تجاه معطيات تغليب المصلحة العامة. ولابد من الاعتراف بأنَّ قوانين وتشريعات المؤسسة تبقى عاجزة في التصدي للسلوكيات المرفوضة لبعض ضعاف النفوس من الموظفين العاملين فيها، سواء في الإدارات العليا أو المتوسطة أو الدنيا. ولا يختلف اثنان على أن الفساد الإداري بطبيعته يتمثل في ممارسة إدارية تحدث في الخفاء ولا يمكن للنظم الرقابية أن ترصد إلا نزراً يسيراً منها وهي تلك التي قد تعلق في بعض الهفوات غير المخطط لها. وعلى ذلك فإنَّ المسألة تبقى نسبية حتى في أكبر المؤسسات تشديداً ورقابة. وهنا تأتي الضرورة إلى الاستفادة من الخطاب الديني كغذاء للروح وكصمام أمان لضمان أن تأتي سلوكيات موظفي المؤسسة متوافقة مع تشريعاتها وأنظمتها وضامنة لنجاح خطط عملها. وتعظيماً لدور الخطاب الديني في تقويم السلوك ومحاربة الفساد، والذي يزداد تفشياً في مؤسساتنا، فإنَّ الأمر سيتطلب تبني خطة حكومية موسعة تشارك فيها مؤسسات الدولة بشكلٍ متوازٍ لنشر رزنامة لمجموعة من الدروس الفقهية والعلمية والخطب الموجهة والمنتقاة، بحيث تعمل على تبني نماذج من الممارسات السلوكية الهدامة والمنطلقة من طبيعة عمل كل مؤسسة واختصاصاتها، وتستند على تقارير رقابية إدارية ومالية. ويجب أن يتم تناولها من خلال تشخيص جوانب الضعف والتهديدات والمخاطر المترتبة عنها على مستوى المؤسسة والأفراد والمجتمع. وتبني نماذج واقعية من التجارب المحلية والدولية والسعي نحو تقويم السلوك وتعظيم دور الأخلاق ومواثيق العمل. كل ذلك من شأنه أن يساعد بشكل ناجح في تهذيب النفوس ورفع مستوى القيمة الروحية للسلوك السوّي.

كما يجب أن تطال تلك الخطة كل أركان التعليم والثقافة في البلد، ويتم الالتزام بتعليم الأفراد في إطار سلوكي قائم على تعاليم الدين، وبالذات تلك التي من شأنها أن تتحكم في سلوكهم ورفع مستوى الحس الإنساني لديهم تجاه الوطن والمجتمع. ولابد من الاجتهاد في ترجمة تلك التعاليم إلى سلوك اجتماعي سليم يحمل القدر الكافي من المسؤولية والوعي. ولا ضير في أن تشارك المؤسسات الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني في حمل هذه الرسالة. والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك