روايــــــــة:

الأثرُ البعيدُ منك (1)



فاتن باكير | سوريا
كل امرأة في هذا البلد تموت مرتين  . مرة لأنها امرأة ... ومرة لأنها تحتضن هذا الوطن بأصابع من صبر .

الفصل الأول:
     تفتح عينيها وتتفقد سقف الغرفة بتأمل طويل , أول شيء يخطر ببالها في تلك اللحظة أنها بحاجة لتتنفس بعمق ... كلما رفعت وجهها أمام مرآة ترى وجها" شاحبا"لا يشبه وجهها .. وعينين غائرتين تنشدان الهروب  وشفتين مزموتين تضجان بالرغبة .
هذا الوجه المستدير قبل عشرون عاما لم يكن يتيما " كان يضج بالحياة .. لكن الآن بعد خمسة عشرة عاما " من الزواج وعامين من الحرب   لم تعد تعرف هذا الوجه .. لقد نسيته تماما " .
يقينها أنها لم تمت بعد .. على الأقل حين تستيقظ  كل صباح على منبه هاتفها كعادة كل صباح وكل مساء وكل لحظة , وكأنها دائرة تدور حول نفسها مرارا" وتكرارا" , تظل تحدق في سقف الغرفة متمنية ألا تغادر فراشها , تغمض عينيها ثم تفتحهما ثم تنهض بعد عناء مرير .
     الصباح في تموز يشبه نارا" موقدة على مهل , لاشيء يطفئها سوى ينبوع ماء بارد ... تشرب قهوتها وهي تدخن , وتنصت إلى حركة الحياة خارج نافذتها وهي تتمنى أن يطول الأمر .. فهذا هو الوقت الوحيد الذي تقضيه مع نفسها .
سيجاراتها التي تنطفئ ثم تعود للاشتعال من جديد تشي دائما بما تفكر فيه , فهي ليست قادرة على عمل أي شيء سوى مراقبة حياتها كيف تمضي ببطء ومشقة وان كان بالإمكان تغيير شيء فهو للأسوأ .
امرأة في منتصف الأربعين , بقليل أو ربما أكثر , ليست قادرة على تحديد خياراتها , فقد علمتها الحرب ألا تفكر كثيرا", تعلمت فقط أن تكون بلا ذاكرة , فالذكريات موجعة حين تكون لأناس حقيقيين , فالطمأنينة لاتدوم , وقوانين الحياة لاتخلد ّ .
تنفث دخان سيجارتها في فضاء مطبخها بضجر وما ستفعله الآن ستفعله كل لحظة :
تفتح بريدها الالكتروني علّها تجد رسالة من غريب تبعث لأمها زهور اصطناعية على الواتس آب , لتقول لها بين قوسين ( أحبك ) .
تحاول كتابة نص على الفيس بوك .
تتغاضى سؤال أصدقائها ( ماذا حدث اليوم في حمص)
ثم تغلق هاتفها حين لا تجد ما تكتب عنه , وتفكر :
(يا الهي .. كل هذا يحصل لي دفعة واحدة ؟؟؟) .
يستيقظ حسان  في تلك اللحظة , يتخطاها دون أن يلقي عليها تحية الصباح , إنها الحالة نفسها منذ خمسة عشر عاما" من الزواج .
المزاج المعكر ذاته .
الانفعال الزائد عن حده .
النظرة الفوقية التي يرمقها بها كلما رآها .
( أين قهوتي ؟ ) .
يقول لها دون أن ينظر إلى وجهها كعادته , تصب له فنجان وتتركه يرتشفه بمفرده , وكأنه كائن فريد يعيش ببوهيمية بعيدا" عن الحضارة المفترضة .  
ترتدي ملابسها على عجل كي لا تلتقي به مرة أخرى وتحذره عند الباب قائلة :
( لا تنسى أن تعطي لين الدواء ) .
( سأتأخر اليوم بالعمل لا تنتظروني على العشاء )
يضايقها غيابه المتكرر عن العشاء دون مبرر مقبول وكلما حاولت استدراجه عن السبب يتراءى أمامها أجوبة قد حضّرت مسبقا".
تغلق الباب وراءها وشعورا" بعدم الراحة يراودها , وشعرت بالغضب من نفسها لأنها لم تستوضح منه سبب غيابه المتكرر عن البيت , وربما بدا لها من غير اللائق أن تبدو مثل امرأة شرقية تحاسبه في كل مرة يخرج من البيت فيما هي تعبث مع صائب كلما سنحت لها الفرصة ..

 انه العمل المكتبي نفسه منذ عشرين عاما" , السأم ذاته , الكرسي المقيت نفسه , الحاسوب اللعين ذاته , النظارة الطبية التي غيرتها تسعين مرة بسبب الإشعاعات , العذاب الذي مايزال يتكرر كل لحظة ولا تحاول تغييره .
 قبل الحرب .. وقبل الكوارث الكبرى للحياة , لم يكن ثمة أوجاع حقيقة .. حتى مشكلة الوزن الزائد التي كانت تجبرها على الاختباء من الناس كانت تبدو أبسط بكثير .. أما الآن فالبرغم أن وزنها  لايتعدى الخمسة والخمسين , كانت تشعر أنها في السبعين من العمر ,  وأن الحياة نفسها لا تستحق أن تعاش بالرغم من وجود لين ولجين فيها .
في الشارع عندما تكون وحيدة تتحرر من خوفها كليا" رغم أن الأرصفة مثقلة بالتأهب ,  في أية لحظة قد تنفجر عبوة ناسفة , أو يقتحم إرهابي ما سلسلة الحافلات والسيارات المتوقفة عند الحواجز فيفجّر نفسه بطريقة استعراضية .  
كانت تمشي في الشارع ذاته الذي اعتادت أن تسلكه  كل يوم إلى عملها , لم يعد دّوي الإنفجارات يخيفها كالسابق .. ربما لأنها اعتادت سماعه ,  أو لأنها آمنت أخيرا أنها ستموت على هذا الرصيف يوما"ما أو ربما في مكان آخر .. من بين الضحايا الذي ساقهم قدرهم إلى لحظتهم السوداء .
 لكن يحدث أن تترصد سيارة مركونة بجانب ما , تراقب سائقها من بعيد , وكيف يدخن بصمت وترقب وكأنه ينتظر أحد ما .. تدّون رقم اللوحة ..وتفتعل أية حركة كي لا ُتظهر له أنها تراقبه ..لكنه يخرج من السيارة ويصرخ بها :
( يا خانم,كفي عن مراقبتي ,من تكونين على أية حال )
كانت تُخرج هاتفها النّقال وتتصل بصائب , لشعورها أن ثمة سيئ سوف يحدث , لطالما كان صائب الرجل الوحيد الذي تتصل به في أوقاتها الصعبة , وأنه الشاهد الوحيد على موتها .
كانت تقول له حالما تسمع صوته من الطرف الآخر :
( صائب أعرف أنك نائم , ولكني أحبك ) .
( ياالهي .. أنت تفعلينها مرة أخرى أليس كذلك ؟ تترصدين سيارة مركونة !!!! ) .
( أعتقد أنه سّيفجر نفسه , لكنه ينتظر اللحظة المناسبة
( أين أنت الآن ؟ ) .
( في الطريق إلى العمل ) .
( أنت تعرفين أن هذا الطريق ليس مزدحما" في الصباح و لو كان إرهابيا" هل سّيفجر نفسه في مكان مهجور ؟ ) .
( أنت دائما" تستخف بالأمور الكبيرة ) .
( ليال , أغلقي هذا الهاتف اللعين ودعيني أرجع لوسادتي , تبا" لوساوسك ) .
كان دوما" على حق بالنسبة إليها حتى لو كان مخطئا" في الواقع ,  هو الذي أعاد ترتيب حياتها منذ عامين , وجعلها تتريث في إنهاء حياتها .
وفيما هي تغلق هاتفها وتضعه في حقيبتها كانت فتاة ما تظهر من العدم تستقل السيارة بجانب السائق الغاضب وينطلقان بلا هوادة .
في الفترة القريبة التي شهدت سلسلة انفجارات متلاحقة كانت تخشى التنقل بالحافلات , وكان ذلك يبدو جنونيا" لزوجها الذي ما فتئ يشككها بإيمانها الضعيف , فكيف لها أن تخاف من الموت وهو قدر نهائي ليس فيه خيار للرجعة ,  لكن ليال لم تكن تخافه .. كانت تريد أن تموت وجسدها قطعة واحدة وليس أجزاء مبعثرة في كل مكان , لم تكن تريد أن يخمنّ طاقم الطوارئ الطبي أيهما الساق وأيهما الذراع ! وهل هاتين العينين الواسعين عيناها ! وهل هذا القلب المحترق الذي كل ماتملكه هو قلبها ؟ وهل هذه صورتها الشخصية مع ابنتيها ؟ .
لم تكن قادرة على تفريغ شحنتها العاطفية إلا بالبكاء فكانت تنزوي في المطبخ وتبكي على كل اللحظات التعيسة التي اختبرتها سابقا" , وحين لايجدي ذلك نفعا" كانت تصب جام غضبها على حسان الذي لم يكن ليفهم أنها في ضيق , فكان يعزو ذلك إلى هيجان هرموناتها قبل الدّورة الشّهرية .
كانت تصل إلى مكتبها قبل الجميع , تفتح النوافذ كي يتجّدد الهواء المضغوط  من اليوم السابق , وتشعل سيجارة بانتظار زملائها , لم يكن لديها المزاج المثالي لصنع قهوتها المعتادة فكانت تنتظر خليل كي يأتي ويصنعها لهما .
قبل عشرون عاما" كان أقسى ما تتمناه أن تنهي دراستها الجامعية في بيروت , وتلتحق بسلك القضاء لكن وفاة والدها فجأة بأزمة قلبية جعلها ترجع إلى المدينة بأقصى سرعة ممكنة والالتحاق بأول وظيفة حكومية مملة لتفادي الأزمة المادية التي اجتاحت العائلة ولم تكن هي تعلم بها .
كان أقسى قرار ..وكأنه الموت وهي شابة .
كانت تجلس في غرفتها وحيدة كقطة مستكينة  تهاجمها ذكرياتها هناك , يتلاعب بها أطياف أصدقائها اللبنانيين
ضحكاتهم ومشاغباتهم .. آرائهم السياسية المتقلبة , تفاعلهم معا" أثناء الامتحان الذي ينتهي غالبا" بخروج أحدهم مضبوطا" بالغش .
كان جورج يقول لها في نهاية حديثه عبر الهاتف وبصوت مبتل بالحنين في كل مرة يتصل بها ( كوني بخير ) فكان ذلك الأثر البعيد جزءا" من صمودها باكرا" في وجه نكباتها القادمة , لكنها في الحقيقة لم تكن بخير وإن بدت للجميع أنها كذلك ...فنحن نلجأ إلى ذكرياتنا حين تباغتنا الوحدة .  
كانت تسمع دائما" من أمها - والتي ثبتت فيما بعد أنها نظرية خاطئة- أن المرأة التي تنال قسطا"كبيرا" من السعادة في حياتها لن يكسرها الحزن أبدا" , فحتى بعد مرور أعوام على وفاة والدها لم تشعر أنها استعادت فعلا" حياتها السابقة .
هنا في مكتبها الضيق كانت تجد بعض العزاء , لم يكن ذلك كافيا" جدا" لكنه أفضل من مشاحنة حسان والبنتين كانت تفتح هاتفها النقال وتبدأ بإرسال ( صباح الخير) لأمها البعيدة عبر الواتساب فترد عليها بقبلة أو زهرة ثم تفتحان بابا" للحوار عن البنتين , وما إذا كانت لين قد استردت عافيتها بعد الوعكة الصحية التي ألمت بها لاتحاول المرأتان التطرق إلى حسان , و لا إلى المشاحنات اليومية المعتادة , وسّتتهرب ليال من إرسال صورتها الشخصية لأمها هذه المرة أيضا" كي لاتلاحظ كم هو الاختلاف واضحا" في السنوات الأخيرة من حياة ابنتها .
ستقول لها أنها هزيلة وشاحبة جدا" .. وأن عينيها غائرتين كعيّني فتاة بوذية , وكما هي العادة في كل مرة ستطلب منها القدوم حين تسوء الأمور .
يدخل خليل المكتب قاطعا" سلسلة أفكارها , يقول لها صباح الخير فلا ترد ..
( هل تشربين قهوة ؟ ) .
( عذرا" خليل ..لم أسمعك .. أفكاري مشوشة ).
كان يعرف أنها ليست أفكارها المشوشة فحسب , وإنما تقلبات حياتها التي تزداد سوءا" مع الوقت , والتي لم تنجح إلى الآن من ضبطها .
لم يستطع خليل الدخول إلى قلبها يوما" , وكانت تعرف انه يحبها أكثر من نفسه , كان يتركها تغامر مع رجال غيره لم يحبوها يوما" بقدره على أمل أن تدرك في يوم ما أن لا ملاذ سواه , كان جاهزا" دوما" للإنصات عندما تحزن , وللمرح حين تسأم , ولم يكن يطمع أكثر من أن تبتسم له من قلبها .
( الحياة أضحوكة ) .
كانت تقول له .. وكيف لرجل أن يحبها كل هذا الحب ولا يرتعش لملامسة جسدها رجل آخر سواه ؟ لم يكن يسألها عن حسان .. ولا عن صائب .. كان يأمل أن تتخلى عنهما يوما" لتعترف بوجوده .
كان يعرف أنها حين تخلو إلى نفسها في آخر ساعات العمل تفتح الواتساب لتتكلم مع صائب , ويحترق من الغيظ حين يراها تبتسم , كان قادرا" على تخمين حديثهما حين تحّمر وجنتاها , ويقفز قلبه هلعا" حين تقرر فجأة أن تحمل حقيبتها وتغادر دون أن تقول له كلمة على الأقل .
كانت أقسى لحظاته حين يتخيلها معه في غرفة واحدة
 ويغمّض عينّيه قهرا" كي لا يتخيل  قبلاتهما المحمومة وتلاصق جسديهما في السرير , وتنهيداتهما , يعّض على شفتيه  حين يشعر بثقل الغيرة تنهش بصدره , كان يودّ أن يكرهها , أو على الأقل أن يترك المكتب  أن يغادر إلى الأبد هذا الفراغ الموحش , أن يحاول إقناع نفسه أنه مهما فعل من أجلها لن تكون له أن يعاقبها بعدم الحديث معها مرة أخرى , أن يخاصمها إلى الأبد .. لكنه لم يستطع حتى أن يعاتبها على استهتارها به كصديق على الأقل .  
     كان يرجع إلى بيته وهو يفكر ( هل لا تزال معه إلى الآن ..؟ ) ولم يكن قادرا" على الاستيعاب أن ما يحصل الآن سيحصل كثيرا" ,وأن ما من جدوى من انتظارها إلى الأبد حتى تلين .
كان يأوي إلى فراشه مغتما" , يلاحقه وجه صائب , يحاول أن يستدرك نقاط القوة فيه , نقاط الاختلاف بينهما , علاماته الفارقة التي جعلت ليال تركض إليه دون تفكير ... كيف أمكنها أن تختاره دونه وهو الذي كان معها في كل تفاصيل حياتها !!!! أين كان هو حين فارقت أهلها وظلت أيام تبكي بحرقة !!!! , لماذا لم يكن معها حين أجرت العمل الجراحي لابنتها ؟ لماذا كلما ضاق صدرها من الأوجاع تتصل به وليس بصائب ! لماذا عليه أن يتحّمل كل ذلك الألم لأجلها ؟ لماذا لا يخبرها أنه ضاق برؤيتها معه وان عليها التوقف عند هذا الحد .
كان يتقلب في فراشه  كالجمر دون أن يغمض له حفن يحاول أن يستجمع شجاعته من أجل الغد ..لكنه ما أن يراها في الصباح سعيدة ومشرقة حتى يتقوقع في كرسيه ويثبت نظره على شاشة الحاسوب دون أن يتكلم
كانت تصنع قهوة الصباح وهي تبتسم .. وكأنها تستعيد ما حصل معها البارحة , كان يراقب وجهها الوردي وعيناها اللتان تزغردان , وشفتيها المتناغمتين كقوسين صغيرين .. وأصابعها الطويلة اللتان تشبهان أصابع عازفة بيانو وود لو سألها :
( كيف قضيت وقتك معه ؟ هل أنت سعيدة ؟ كم عدد القبلات التي تبادلتموها ؟ كم مرة مارستما الحب ؟ متى ستذهبين إليه مرة أخرى ؟ ) .  
كانت تنهي القهوة وتجلس بجانبه , يأخذه عطرها الذي يفوح بالأرجاء , كانت تعرف ما يجول في رأسه من تساؤلات ولا تحاول طمأنته .
تشعل سيجارتها بتلذذ وتبدأ بسؤاله عن ليلته كيف قضاها !! وهل مايزال يتواصل مع ابنه المقيم بألمانيا ! فيما هو يكتفي بإجابات مقتضبة ويتظاهر بالانشغال بالعمل .
كلما ذهبت بخيالها إلى البعيد كان يعتقد أنها تفكر بالآخر , وأنهما لابد تواعدا على اللقاء مرة أخرى في وقت لاحق من هذا الأسبوع ...وقد بدا له جليا" أنها بدأت تهتم بنفسها أكثر ...وتكثر من وضع العطور على ثيابها حتى بات يختنق من تأثيره ..وتغيب فترات طويلة عن العمل حتى ضاق ذرعا" بإهمالها , ولطالما فكر أن يشكيها لمديره ويعدل في اللحظة الأخيرة .
كان ينام على فكرة ..ويصحو على فكرة جديدة ..وكل تلك الهواجس كانت تفتك به , وتعصف بروحه المعذبة ولم يكن قادرا" من الإنعتاق منها .. كانت كالمرض تفتك به ولا يشفى .
ليال التي وجدت نفسها  تنساق بلا إرادة إلى صائب , تنسى وعودها في الليل حين تأوي إلى فراشها ألا تنساق بحبه أكثر ... يعذبها أنهما في مكانين مختلفين وكل منهما في أحضان شخص آخر ...كانت تشعل سيجارتها في العتمة وتدخنها في صمت وهي تفكر: (ماذا يفعل صائب الآن ؟ ) .
( كم أشتاق لسماع صوته في هذه اللحظة ) .
كانت يد حسان تمتد إليها في تلك اللحظة , تتمدد أصابعه على كل جسدها , ويثيره رائحة عطرها الليلي ورائحة سجائرها , لم تكن تمنعه , كان شعورا" بالشفقة يحررها من إثمها ..لم تكن تريد أن تؤذيه , وكانت تتمنى لو كان إنسانا" منذ البداية ولم يجبرها جفاؤه على كرهه .
لطالما تمنت أن تكون حياتها لا تشبه الجحيم الذي تعيشه الآن .. أرادت أن تتحدث عن عائلتها كما تفعل صديقاتها في العمل , أرادت زوجا" محبا" يشعر بتعبها  ويخاف عليها إذا تأخرت , ويذعر حين يفاجئها الرصاص في منتصف الطريق , ويتصل بها مئات المرات حين يحصل تفجير .
لكن كل ذلك لا يحصل ..بالكاد يلقي عليها التحية حين يعود من عمله , وأحيانا" كثيرة لا يلقيها , يرمي بثقله على الأريكة , ويطلب غداؤه ..ثم ينام كما لو أن ثقل الحياة كله يزيحه باستراحة , وحين يستفيق بعد ساعتين يشعل سيجارة بانتظار قهوته وهو يستمع إلى نشرات الأخبار .
كانت تتأمله بشرود .. وتتساءل ما الضير أن يحادثها عن نهاره , أو أن يخترع أي حديث كي يتواصلا , لكنه يكتفي بصمته , وبثقل اللحظة ويتركها تغرق بتعاستها وحيدة .
كانت تتساءل حين يستبد بها الغضب كيف وصل بها الأمر إلى إغماض حواسها جميعها دفعة واحدة والزواج به !! كيف سمحت لعذاباتها أن تسوقها كيفما تشاء إلى طرق مسدودة مع الحياة !!! .
كيف لها أن تعيد ما انكسر بين يديها ؟ .
كيف السبيل إلى إعادة صياغة أسلوب حياة جديدة معه دون اللجوء إلى العنف والصراخ ؟ .
حين تجلس بعيدة عنه .. تراقبه كيف يرشف قهوته ونسيانها , تتذكر أول ليلة تقضيها بدون رائحة غرفتها بدون آثار الطلاء المتراخي على الجدران , بدون صورها الشخصية المتكئة على المناضد , بدون حاسوبها الشخصي الذي نسيت استعماله مع مرور الزمن , وتركته بين يديّ صغيرتيها حتى كسرتاه , حسان الذي كان يجهل سر ارتجافها ودموعها المرة ّ وهي بين ذراعيه ظنا" منه أنها اختلاجات الليلة الأولى وذعر التجربة الجنسية والحنين المفاجئ لأمها , قبلّها بشغف ..وتمنت أن تفتح باب الغرفة لتهرب .
مثل سكير قضى الليل بطوله يرشف أقداح حزنه ثم استفاق في الصباح سائلا"نفسه ( ماذا جرى ! ) وجدت نفسها عارية بجانب رجل غريب تحوم حوله شبهات سخطها , وآثار عراكهما الليلي موشوم على جسدها , وثمة سؤال كان يحيرها ( لماذا أنا لست سعيدة ؟) .
كانت تبقى جالسة في سريرها في الظلمة بعد ممارسة الجنس , تدخن بشراهة , يعتريها شعور بالاضطهاد لأنها لم تستمتع بالجنس كما ينبغي , وكلما تلاقت نظراتهما في لحظة غرائبية كان يقول لها :
(عيناك عصيتان عن الفهم ) .  
كان يتأملها في الليل حين تنام , يراقب ارتجاف جفنيها وتمتمة شفتيها , وارتخاء أصابع يديها على الوسادة , وتبعثر شعرها المجّعد على ساعديه , يتأملها طويلا" وكأنه يعرف مقدما" أنها في يوم ما سوف تتركه من أجل رجل آخر .
حين رآها أول مرة توقف قلبه عن الخفقان , ليس لأنها جميلة فحسب , بل لأنها ذكية , كانت تجلس قبالته في المقهى الذي يرتاده هو أيضا" , تضع ساقا" فوق ساق بثقة , تنصت أكثر مما تتكلم , وحين تجادل صديقاتها في موضوع ما .. كانت تتكلم بصوت هادئ , دون أن تثيرها النقاشات الحاّدة .  
كان يدخن نرجيلته وهو يتأملها طوال الوقت ..وحين تغادر يودعها بعينين شبقتين , لم يتذكر أنها لاحظت اهتمامه , أو حاولت استمالته , كان يغتاظ أحيانا" من قلة اكتراثها .
فيما بعد .. حين بدأ الجميع يلاحظ اهتمامه بها , ويراقب توهج عينيه حين تأتي , بدأت تجلس بطريقة مختلفة , كأن تجلس بطريقة مستفزة , أو تتعمد رفع صوتها حين تتكلم , كي تصله رسائلها المتقطعة التي تشي بالغضب .
لم يكن يفهم تصرفاتها الغريبة , لكنه كان قادرا" على شم رائحة استياءها , وبدأت سلسلة من التساؤلات تؤرق تفكيره :
( لماذا لا تنظر إلي ؟ ) .
( لماذا هي صامتة أكثر من المعتاد ؟) .
( هل أنا قبيح ؟ هل تشمئز مني ؟ ) .
كان صراعه الداخلي يكبر لدرجة أنه توقف عن القدوم إلى المقهى , وبدأ صراعه مع العشق يتفاقم , إلى أن نصحوه أصدقائه أن يحارب من أجلها , وأن يتوقف عن العيش كالبوذيين .
كانت حياته مرتبة قبل أن يلتقيها , لا يعكر صفوها إلا مرض والديه , فكان راضيا" عن تقدمه بالعمر دون عائلة , وبدا له أن فنجان قهوته الصباحي وهو يدخن يعادل ألف امرأة جميلة .  
لكن أوجاع قلبه لم تتوقف عند هذا الحد , فكان يراها حين ينام وحين يذهب إلى عمله , وحين يمرض , وحين يرافق أباه إلى المشفى لغسل كلاه , وحين يجلس وحيدا" , يغيظه أن تأخذ كل هذا الحيز من تفكيره , وهو الذي كان محصنا" من الحب .
كان قد تجاوز السابعة والثلاثين , وكان أكبر العازبين في محيط عمله , ورغم كل الانتقادات التي كان يسمعها من أصدقائه وصديقاته ..فقد بقي مّصرا" على عزوبيته , حتى وصل الأمر إلى اتهامه بالعجز .
لكن الآن .. وبعد أن عرفها , لم يعد بإمكانه الصمود أكثر , كان تأثير عينيها رهيبا" , استجمع قواه دفعة واحدة ..وذهب بكل ثقل أوجاع قلبه إلى المقهى .
كانت تجلس مع صديقاتها , تدخن النرجيلة , حين فاجئها بوجه متعب وذقن مدببة , ودون أن يلقي التحية طلب منها أن يتحادثا بانفراد .
نظرت إليه بدهشة .. وبدا لها انه تصرف فظ , وقبل أن ترفض دعوته بادرت صديقاتها إلى تشجيعها , كانت لحظة قصيرة مشحونة بالتناقضات , والنظرات المتبادلة , وركل الأرجل من تحت الطاولة , وتبادل الغمزات والإشارات الغامضة  فيما بينهن , حتى بدا لها أنها أخذت زمنا" طويلا" لتقرر أن تنهض من كرسيها وتجلس معه على طاولة واحدة .
كان لقاء " قصيرا" لم يعد يتذكر منه شيئا " بعد خمسة عشرة عاما" من الزواج , لكنه أدى في نهاية المطاف إلى إنجاب ابنتين جميلتين وحياة متمردة قلقة .

الفصل الثاني .
كانت تتأفف منذ الصباح لعدم قدرتها على النوم جيدا" في الليل بسبب موجة الحر المفاجئة التي اجتاحت البلد منذ أسبوع , كانت تتقلب في فراشها مثل جمرة متقدة وكان ثوبها الشفاف يرفل وراءها كيفما تحركت مثيرا" حفيفا" رقيقا" في الفراش .
رفعت عينيها إلى السقف كما تفعل في كل صباح , وفكرت أنه صباح مقيت , حار ومزعج , والأسوأ أنها ستذهب إلى عملها البائس .
نهضت من فراشها واتجهت إلى المطبخ .. تذكرت وهي في منتصف الطريق إلى المطبخ أنها لم تقبّل الفتاتين حين نامتا في الليل , شعرت بتأنيب الضمير لأنها ماعادت تلتصق بهما وتروي لهما ماحدث لها خلال النهار , وما عادت تضحك معهما , واختفت النزهات القصيرة في الحي .   
 كانتا ماتزالان نائمتين حين فتحت باب غرفتهما , جلست على طرف السرير , وتأملتهما بحزن , إنها السنة الثالثة التي تمر دون أن تحتفل بميلاد لجُين , في كل عام تشتري لها الهدية دون أن يكون هناك قالب الحلوى , ودون أصدقاء المدرسة , ودون موسيقى , فيما تبقى قائمة المشتريات التي تخص العيد ملتصقة بإهمال على الثلاجة .
كانت تود أن تقول لها أشياء كثيرة , أشياء لم تعتاد على قولها لطفلة صغيرة , لكنها ستنتظر طويلا" جدا" حتى تصبح شابة وقادرة على الإنصات والتفهم .
كان حسان يراقبها من عتبة الباب , يتأمل نحول جسدها الذي يتضاءل مع الوقت , وبدأ يتساءل من منهما على خطأ ومن منهما على صواب !!!! لماذا حياتهما انحدرت إلى هذه الدرجة من اللامبالاة ! لماذا كل منهما لم يعد يحب الآخر ؟ .
كان يعرف أنه لم تحبه يوما" , ولم تتزوجه إلا هروبا" من واقع مؤلم , لكنه على الأقل كان يحبها حبا" كبيرا" جعله أضحوكة بين زملاءه , ولأول مرة منذ خصامهما قال لها بلطف :
( أريد فنجان قهوة من فضلك ) .
كانت الأريكة المفضلة لديه في المطبخ تمتد على طول الحائط , وكان يفضلّ الإنفراد بنفسه في الليل عليها دون أن يعيقه صخب البنتين , أو مشاجراته مع ليال , وفي أوقات الحر الشديد كان ينام عليها , كانت ملاذه حين تتحول لحظاته إلى جحيم , ولطالما اجتاحته رغبة في كسر كل قواعد الصمت بينهما والتحدث بشفافية , لكنه كان يلمح رفضا" مبطنا"من قبلها يجعله يتراجع .
جلسا يحتسيا القهوة بصمت , وبدا له أن أي حديث سيكون سخيفا" , لأنها ما فتئت تدخن بفتور , وتحاول إنهاء قهوتها بسرعة .
كانت تفكر في تلك اللحظة بصائب , وتشعر أنها اشتاقت إليه كثيرا" , وأنه مضى وقت طويل لم يلتقيا , وبدا لها أن الفكرة بحد ذاتها تجعلها سعيدة .
فيما مضى كانت تذهب إلى عيادته بدون سابق موعد , تفتح الباب الخشبي , وقلبها يقفز أمامها , وحين تصطدم برتل المرضى تزّم شفتيها بتململ , لكن الممرضة تبتسم لها بخبث وتومئ لها أن تجلس .
كان هناك تواطئا" واضحا" بين المرأتين , جعلتهما قريبتين من بعضهما , ولم يكن على ليال الدخول في تفاصيل علاقتها بصائب , وكانت الهدايا الصغيرة التي تشتريها ليال لها قادرة على جذبها بطريقة حضارية غير مزعجة .
كانت تنتظر بضع دقائق قبل أن تشير لها الممرضة بالدخول , متغاضية امتعاض المرضى , كانت تعرف أنها بضع دقائق وستخرج وثمة بريق يتوهج من عينيها ولسبب ما كانت تحسدها ...
ليال التي ما أن يغلق عليهما باب الغرفة حتى تعانقه بقوة , وتتنفس رائحة ثيابه , وتبقى متشبثة برقبته  حتى يكاد يختنق , وثمة سؤال واحد يبقى يطاردها كلما رأته ( لماذا أحبك إلى هذه الدرجة ؟؟؟؟ ) .
  كان يحيط خصرها بذراعيه ويقبلّها بشفتين متعطشتين للحب , ويئن أنينا" خافتا" يجعلها تضحك :
( أنت تصدر نفس الصوت ثانية ) .
كانت تقول له .
( أنت بارعة بالتقبيل ... تجعلينني أذوب ) .
( يجب أن تخصص لي يوما" بطوله لي ...) .
( لكنك تقترفين خطأ بالقدوم بلا موعد ..قد يكون أحد المرضى يعرفني و ...... ) .
( هل للاشتياق عقوبة ؟ ) .
( لا يعجبني التواطؤ بينك وبين نسيم , قد تخذلك في يوم ما ... ) .
كانت تخنقه بقبلة طويلة تجعله يكره بعادها , لكنه يتذكر أن وراءه قائمة طويلة من المرضى , فيبعدها عن صدره قائلا" :
( ليال .. أرجوك ... يجب أن تذهبي الآن ..أنت تشتتينني ) .
كانت تمتثل له رغما" عنها , تحبس أشواقها في صندوق قلبها , وتغادر عيادته وهي مكتئبة .
لكنها في هذا الصباح قررت أن تستحوذ عليه كليا" , دون أن يتعلل بأعذاره , كانت الفكرة بحد ذاتها كافية لجعل نهارها ممتعا" .
( بماذا تفكرين ؟ ) .
سألها حسان قاطعا" أفكارها , كان من الواضح له أنها لا تعيره أي اهتمام , وبدا له أنها في عالم آخر بعيد جدا" .
( لا شي ....... سأرتدي ملابسي ... ) .
أطفأت سيجارتها في المنفضة وتركته يلاحقها بنظرات منكسرة .
كان يحلو أن تكتب يوميات نهارها على قصاصات صغيرة تدسها في حقيبتها , وبدا لها إن جمعت هذه القصاصات ستكون بداية رائعة لرواية ما ..فكانت حين تختلي بنفسها في الليل تلصق هذه القصاصات في دفتر وتتأمل تواريخها .
كان يبدو لحسان أنه عملا" جنونيا" , كيف يمكن  لشخص أن يؤرخ عذاباته بصورة متكررة ؟ لكنها كانت تستمتع بالأمر وكأنه عزاء لها .
كانت تفتح خزانتها وتختار أقل الأثواب تضررا" واستعمالا" , لكنها تخلعه في اللحظة الأخيرة , إذ لم يعد له ذلك البريق الأخاذ الذي سيجعل من صائب مراهق صغير  وتكتفي بتي شيرت وبنطال جينز .
كانت تمشي في الشارع وهي تفكر:
( ماذا لو أمطرت في هذه اللحظة بالتحديد قذائف من كل حدب وصوب !!!! ) لكن ذلك لم يكن يمنعها في الماضي فلماذا سيمنعها الآن ؟ .
كان الباب الخشبي للعيادة مقفلا" , ونظرا" لأنها جاءت في وقت مبكر , أخرجت قصاصة ورق وكتبت عليها :
( جئت ولم أجدك ....) .
ألصقتها على الباب وهمت أن تعود لولا أنها اصطدمت بنسيم , تبادلت المرأتان ابتسامة الخبث ذاتها وراحتا تتبادلان مجاملات الصباح .
صنعت نسيم القهوة وجلستا تتحدثان بأمور الحياة , كانت نسيم تتأملها طويلا" وهي تتحدث , وتفكر بحسد كيف لطبيب مشهور مثل صائب أن يفكر بامرأة مثل ليال , من ثقافة مختلفة وطائفة مختلفة وأفكار شاسعة في التمدد ,  لماذا لا تكون هي صاحبة هذا الحظ الكبير ؟ .

  لم تكن نسيم قادرة في يوم ما على فهم العلاقة التي تجمعهما , كانت تبدو لها علاقة عابرة , مليئة بالتناقضات , فيها الكثير من المشاحنات , ونزوات الغضب الفجائية , وأيام الزعل الطويلة والتي تمتد أحيانا" إلى أسابيع , واستكانة صائب لنزواتها بصبر , ودخوله في سبات عاطفي حين تغيب .
كانت تعرف أن ليال ليست المرأة الأولى في حياته , وأن هناك نساء كثيرات قبلها شاركنها جسده وقلبه وفراشه , وهي بذاتها كانت تشاركه جرائمه بالتغطية عليه حين تسأل زوجته عنه لكن ما من امرأة غير ليال استطاعت أن تحوله من ولد متمرد إلى رجل راشد , وأنها لسبب ما أحبتها بصدق .. حتى أنها بدأت ترفض الهدايا السخية التي تقدمها ليال من أجل إسكاتها وغض بصرها .
كانت غارقة بأفكارها حين اقتحم صائب العيادة , تفوح منه رائحة عطره التي أهدته إياه ليال في عيد ميلاده الثاني والخمسين العام الفائت , ألقى عليهما تحية الصباح وحاول أن يمنع ابتسامة طويلة حين اصطدمت عيناه بليال .. لكن ارتباكه فضحه , بدا له أن من سبب يجعله يخفي شوقه أمام نسيم .
تبعته ليال على عجل .. وحين أغلقت عليهما الباب عانقته بقوة , وحين آلمته قال لها :
( ليال ..دعيني أتخلص من نسيم ) .
لكن نسيم كانت قد غادرت من لحظة دخولهما إلى الغرفة , كانت تعرف أن لقاءا" حارا" لن ينتهي بدقائق
( أعرف أنك مشغول ..ولكني اشتقت إليك ) .
كانت تقول له وهي تطبع على وجهه قبلات متلاحقة , كان يعرف أنها تراوغ , وأن ازدحام العيادة بالمرضى لن يمنعها من المجيء .
( أنت ماكرة .. هل تعرفين ذلك ؟) .
( أعرف .... ) .
( ومتهورة ... كيف تخاطرين بالمجيء وثمة إرهابي سيفجر نفسه في أية لحظة في حينا ! ألم تسمعي نشرات الأخبار ؟) .
( لم اعد أسمع نشرات الأخبار .. ) .
كان يغيظها أن يبدأ موشحه نفسه في كل مرة يلتقيان فيها دون اعتبار لمشاعرها المتأججة وأشواقها المتعثرة تسحب ذراعيها من عنقه و تخرج علبة سجائرها وتبدأ بالتدخين بتوتر .
كان يعرف أنها ستغضب , لكنه كان عليه دوما" تذكيرها بالمخاطر , لكن بالنسبة إليها لم يكن حتى الموت قادرا" على منعها من رؤيته .
( أنت طفلتي ... وأخاف عليك ) .
كان يقول لها وهو يمسك يدها المتراخية عل مقبض الكرسي ، كان يؤلمها أنه لم يدرك بعد حجم حبها له , وكانت تدرك ضمنيا" أنه على حق لكن اشتياقها الدائم له طوال الوقت منعها من الاعتراف بالحقيقة .
( لاتغضبي .... ) .
كان يقول لها راجيا" , مفسحا" الطريق لشفتيه كي تطوفان في وجهها , فكانت تبتسم , وتتمنع في البداية وتحاول إنهاء سيجارتها بدلال , لكن أصابعه التي بدأت تمتد إلى عنقها , وكتفيها , وصدرها النابض تحت القميص , جعلها تغمض عينيها وتستسلم .
كان يحب لون جسدها العاجي , أنه أكثر الأشياء التي تذكره بلقائهما الأول منذ عامين , حين جاءت إليه وهي بالكاد تمشي بسبب الروماتزم , بدت له امرأة هرمة بجسدها النحيل الطويل كنخلة , وبشرتها المبيضةّ من فقر الدم , ارتمت على أول كرسي وبدأت تشرح له آلامها , لم يكن لذلك اللقاء البعيد أي أثر يذكر في ذلك النهار , لكنه حين آوى إلى فراشه في المساء تذكر وجهها الحزين , وتهدج صوتها , وتذمرها من المرض ولسبب ما بقيت صورتها عالقة في ذاكرته للموعد القادم , حتى أنه لم يسألها عن اسمها حين كتب لها أدوية جديدة .
قبلها ..كانت حياته أشبه بدوامة منتظمة , حتى أنه كره إيقاع حياته الروتينية منذ عشرون عاما" من العمل والاستيقاظ كل صباح لنفس الهدف .. ومجادلة ابنيه التوأم , والاستماع مرغما" إلى تصريحات صديقه فؤاد حول الوضع الأمني السيئ للبلاد .
لم يكن قادرا" على تنفس الحياة , وبدا أنه يختنق ويتململ من أصغر عقبة تصادفه , إلى أن نصحه فؤاد من تمضية بعض الوقت معه في اللاذقية .
كان البحر ملاذا " .. وفوجئ أن طيف ليال لم يفارقه طيلة الوقت , وبلحظة ضعف اعترف لفؤاد ما كان يخشى أن يعترف به .
مع أول قبلة تبادلاها شعر أنها لن تكون امرأة عابرة في حياته , وأنها رغم بُعدها الجغرافي , وتواطؤ الخوف والحزن , ستكون له حياة .
كان يحلو له أن يراقبها وهي تجمع ثيابها المبعثرة على الأرض , ويتأمل ثنايا جسدها , والنتوء الحاد تحت السّرة بفعل العمليتين القيصريتين غير الناجحتين واللتان خلفتا ندوبا"واضحة , واستعجالها في الارتداء قبل أن يفاجئهما مريض ما , كانت تشيح بنظرها عنه وتقول له :
( لماذا تنظر إلي بهذه الطريقة ؟ ) .
( آسف ... لكنك جميلة , في كل مرة أراك فيها وكأنها المرة الأولى ) .
( ياله من غزل بعد ممارسة الحب !!! ) .
( أنت تسخرين ؟) .
( هذا مايقوله الرجال عادة بعد الانتهاء من الجنس ) .
( هذا ما تقولينه دائما" وكأنك تعاقبينني , لماذا تسمينه جنس وليس حبا " ؟ ) .
( أليس ما نفعله جنسا" فعلا" ؟ ) .
( انه جنس .. لكنه حب أيضا" .. أنت دائما" تشعرينني بالأذى وكأني أرتكب إثما" في حقك .. لاريب أن كل الرجال يهربون منك . ) .
كانت تنظر إليه بذهول , تاركة قلبها ينكسر ببطء , وحين شعر أنه آذاها عانقها بحرقة , لكنها تملصت منه بهدوء ومضت دون أن تلتفت ورائها .
كان يعرف أنها لن تعود , ويعرف عنادها التركي المتأصل فيها كجذور شجرة عنيدة , كان دائما" يتحسب لأي كلمة سينطقها مخافة أن تجرح شعورها , ولطالما قالت له ( أحبك لأنك لا تجعلني أحزن ) ولكن ما الذي دهاه في تلك اللحظة ؟ .
كان يعرفها جيدا" .. وأنها ستبقى تفكر بكلمته الجارحة ( لاريب أن كل الرجال يهربون منك ) وكأنها وباء أوكأنها متاحة للجميع في كل وقت , وسيحدث الأسوأ أنها ستقطع علاقتها به .
لم يرغب الذهاب إلى البيت , وفضلّ البقاء في العيادة لربما غيرت رأيها ورجعت لتصّب غضبها العارم عليه  ثم يتصالحان من جديد , ويغرقها بقبلاته نادما" مستغفرا" .
لطالما بقي في عيادته ساعات إضافية بعد مغادرة ليال كان يحلو له ملاحقة طيفها في الزوايا , واسترجاع صوتها وهي تضحك , ورائحة جسدها بعد الجنس , وتأثير أصابعها على جسده , وصوت نعلها في الرواق وهي تغادر مخّلفة وراءها كل رغباته في استرجاع ماجرى منذ ساعات .
كان يأتي المساء دون أن يتحرك من مكانه , جاعلا" من سرير المعاينة وطنا" آخر له , وبسبب إلحاح هاتفه بالرنين نهض متثاقلا" ورّد على زوجته القلقة .
كانت الأسابيع الستة القادمة بالنسبة إليهما موتا" , لم يتجرأ هو على الاتصال بها , ولم تستطع هي مقاومة غضبها وكلما أمسكت هاتفها لتتصل به كان كبرياؤها يمنعها , كانت تزداد نحولا" مع الوقت .. وبدا للجميع أنها تعاني خطبا" ما , وحده خليل كان يعرف ماذا يجول في قلبها الصغير , وللحظة ما كان سعيدا" أنها تخلصت منه , وأنها ربما مع الوقت ستفتح قلبها له أخيرا " .
لكن ليال لم تتعافى بسرعة كما خيل إليه , بدا له أنها تتجه إلى موتها ببطء , ولم تستطع أية وسيلة الهاء أن تعيدها إلى صوابها .

 

تعليق عبر الفيس بوك