الاتزان العُماني وأفكار السلام

حاتم الطائي

"قاعدة الاتزان العماني" منصة انطلاق للأفكار والحلول الرامية لنشر السلام في المنطقة والعالم

التحرك العُماني يُشكل دعمًا لتهيئة الظروف اللازمة لاستئناف مفاوضات السلام

الأمانة التاريخية تقتضي أن تقوم عُمان بدورها الفاعل في القضية الفلسطينية

نُؤكد دائمًا في مُختلف المواقف أنَّ السياسة الخارجية العُمانية ترتكز في صلبها وجوهرها على ثوابت وطنية لا تتزحزح، ديدنها السلام وعمودها الفقري الاتزان في الرؤى والأفكار المطروحة، وهذه الثوابت أرسى دعائمها حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظم- حفظه الله ورعاه-، فشكَّلت ما يُمكن أن نسميه "قاعدة الاتزان العماني"، وهذه القاعدة هي منصة انطلاق الأفكار والحلول الرامية لنشر مظلة السلام في إقليمنا المُلتهب والعالم المُتغير من حولنا.

ومنبع هذا الاتزان في المقام الأوَّل أنَّ السلطنة لا تتدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، ولا تسعى لفرض وجهة نظر أو الانخراط في مسارات إقليمية قائمة على المصالح المؤقتة الضيقة أو الصفقات، كما ترفض التَّحزب لأطراف على حساب أطراف أخرى، فقط تُؤمن بنصرة الحق المؤيَّد من المجتمع الدولي أو التوافق الإقليمي، وتعتقد أنَّ السعي لإحلال السلام ينبغي أن يحتل صدارة الأولويات، فلا تنمية في ظل الحروب والصراعات، ولا تقدما إنسانيا ما دامت شرارات الحرب مُشتعلة، وأسنة اللهب السياسي تحرق أي إنجازات على الأرض.

الاتزان الذي نتحدث عنه يستند كذلك إلى الوضوح التام والشفافية المُطلقة في إعلان المواقف والتحركات، ويبتعد عن المواقف الضبابية أو التردد في حسم القضايا؛ فدعم السلطنة لمُختلف القضايا شرقاً أو غربًا، معلنٌ وشفاف، ومنحاز إلى مصلحة الإنسان، ورافض دائما لأعمال الهدم والتخريب، فالمواقف العمانية من جميع القضايا يعلمها القاصي والداني، ويدرك أنَّ اختيارات عُمان تقف على قيم راسخة وثوابت لا تحيد عنها قيد أنملة.

ومن هنا كان الموقف العُماني إزاء القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام، فمنذ البداية أعلنت السلطنة موقفها الداعم للحق العربي، وأيدت معركة أكتوبر 1973، وقدمت شتى سُبل الدعم للموقف العربي والمصري على وجه الخصوص، ولما وضعت الحرب أوزارها وجلست الأطراف على مائدة التفاوض، وقفت السلطنة بجانب الرؤية الداعمة لمسار السلام؛ بل إنَّ عُمان كانت الدولة العربية الوحيدة التي أقرت بالحق في السلام عند توقيع معاهدة 1979 بين مصر وإسرائيل، من منطلق رؤيتها- التي كما ذكرنا أنَّها لا تتغير ولا تتبدل- بأنَّ السلام هو الخيار الاستراتيجي والحتمي للجميع، فلا الحرب ستُحقق التنمية ولا العداء المطلق سيجلب الخير لمنطقتنا. ولو كان الموقف العربي في السبعينات متحداً خلف الرئيس أنور السادات صفاً واحدًا، لما اضطر السادات إلى تقديم العديد من التنازلات حينها بسبب غياب الدعم العربي، ولما تدهورت القضية الفلسطينية كما حدث في العقود الأخيرة.

وإذا كنَّا نُريد أن نصف المواقف العُمانية لن نجد وصفاً أكثر مصداقية وإنصافاً سوى أنها مواقف حكيمة، تنبع من رؤية سامية حكيمة ودبلوماسية حذقة، تتلمس موطأ قدميها بكل عناية وحرص، دون تهور أو مواقف انفعالية عاطفية، لن تحقق أي تقدم، وفي الوقت ذاته دون التنازل عن الثوابت أو الإضرار بمصالح الشعوب وحقها في تحديد مصيرها من أجل أن تحيا في سلام واستقرار. فحكمة جلالة السلطان المعظم- أيده الله- اقتضت أن تُسهم عُمان بدور فاعل في دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، وكان ترجمة ذلك لقاء جلالته مع الرئيس الفلسطيني أولًا ورئيس الوزراء الإسرائيلي ثانيًا، وهما لقاءان لا ينبغي أن نفصلهما عن بعضهما البعض، بل يُمكن القول إنهما اجتماع ثنائي، تارة مع الرئيس الفلسطيني، وتارة أخرى مع رئيس وزراء إسرائيل، بهدف طرح الأفكار العُمانية التي يُمكن أن تحرز تقدمًا في جهود تحريك عملية السلام وإنهاء حالة الجمود في المواقف التفاوضية، وبخاصة بعد القرارات الأمريكية السلبية الأخيرة في هذا المسار، وما نتج عنها من ردود أفعال عبَّرت عن رفضها لتراجع الدور الأمريكي في عملية السلام؛ إذ إنَّ السلطنة ترى أنَّه لا بديل عن الدور الأمريكي كوسيط يجب أن يتحلى بالنزاهة والموضوعية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إننا نعتقد أنَّ التحرك العُماني واللقاءات مع الفلسطينيين والإسرائيليين، يمكن أن تشكل دعمًا لتهيئة الظروف اللازمة لاستئناف مفاوضات السلام بين الطرفين، فالجمود الذي أصاب مسار التفاوض منذ سنوات، وما مرَّت به المنطقة العربية من مُتغيرات قلبت الموازين، وأطاحت بأنظمة وغيرت في هويات دول بأكملها؛ كلها عوامل توفر الدافعية المطلوبة لعودة فرق التفاوض إلى مائدة الحوار مرة أخرى.

إنَّ الأمانة التاريخية تقتضي أن تقوم عُمان بدورها الفاعل في هذه القضية، فبلادنا تتمتع بثقة جميع الأطراف، إدراكًا منهم بأنَّ السلطنة لم تكن أبداً طرفاً في أيِّ صراع، ولا تستهدف تحقيق مكاسب أو عقد صفقات من دورها الدبلوماسي، بل هي تنطلق في ذلك من الحرص على إحلال السلام ودعم الاستقرار في المنطقة. ولقد حملت الكلمة التي ألقاها معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سبتمبر الماضي في الأمم المُتحدة، الكثير من الدلالات، منها التأكيد على أنَّ عُمان مُستعدة "لبذل كل جهد ممكن لإعادة بيئة التفاؤل للتوصل لاتفاق شامل يضع في الاعتبار مستقبل التعايش السلمي في منطقة الشرق الأوسط لاسيما بين الأجيال الفلسطينية والإسرائيلية"، وهو ما سيفضي في النهاية إلى التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة على أساس حل الدولتين. وهذا كان التصريح الأقوى الذي حمل العديد من الدلالات بالغة الأهمية، وعندما تُعلن عُمان عن رغبتها في تهيئة الظروف فإنِّها على يقين بضرورة عقد مُباحثات مع جميع الأطراف؛ الفلسطينية والإسرائيلية، مدركة تبعات ذلك على الرأي العام وانعكاساتها المحلية والإقليمية. ومن هنا لزم التأكيد على سُّمو الحكمة السلطانية في التعامل مع مثل هذه الملفات، وأن النظر إليها يجب أن يكون من خلال منظور واسع يرى الصورة بأكملها وليس النظر فقط إلى جزء وترك الأجزاء الأخرى.

والأفكار العُمانية للسلام تقوم في أساسها على مبدأ حل الدولتين وفق مُقررات الشرعية الدولية، وإقامة دولة فلسطين على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع إتاحة المجال للمفاوض الفلسطيني والإسرائيلي لحسم قضية القدس وعودة اللاجئين والمستوطنات، وهي الملفات الثلاثة البالغة الأهمية في مسار التفاوض. ولذلك عندما نقلت الولايات المتحدة سفارتها من تل أبيب إلى القدس، كان الرفض العُماني لهذه الخطوة معلنًا بقوة، باعتبار أنَّه يمثل تقويضًا لأية مفاوضات مستقبلية، وأنه يجب أن تُترك قضية القدس للتفاوض بين الأطراف، لا عن طريق خطوات أحادية لا تخدم قضية السلام والاستقرار.

ويبقى القول إنِّ طرح الأفكار العُمانية بشأن عملية السلام في الشرق الأوسط، ينطلق من سياسة عُمان المتزنة تجاه العالم بأسره، وليس القيام بدور الوسيط ضمن اتفاقات هنا أو هناك، أو ما يسمى بـ"صفقة القرن"، بل هي أفكار من أجل السلام ومن أجل الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يجب أن ينال حقه في إنشاء دولته المُستقلة، وفي التنمية والرخاء وأن ينعم بالاستقرار دون تهديدات بالحرب أو ترويع بالصواريخ، هي أفكار تدعم الدور الأمريكي الذي ينبغي أن يعود بقوة، فلا بديل عن الولايات المتحدة للقيام بمثل هذا الدور، كما إنه لا بديل عن السلام الشامل والعادل الذي يضمن الاستقرار ويدعم مسيرة التنمية واستعادة الحقوق المسلوبة.