علي المعشني
في العام 2005م، بلغ عدد الطلاب الصينيين المبتعثين للدراسة بالجامعات البريطانية 25 ألف طالب، بخلاف الأقطار الأوروبية الأخرى وأمريكا وبقية أقطار العالم، والسبب الرئيس -وفق الإستراتيجية الصينية للنهوض وتحسين جودة التعليم ووتيرة التنمية- يعود إلى رغبة القيادة الصينية في معرفة الصينيين بطرق تفكير وأنماط الحياة وتجارب الحياة والتنمية لدى أقطار العالم وشعوبها فقط لاغير؛ ففي الصين 2400 جامعة في مختلف مناطقها ومدنها، وتُدرس بها جميع العلوم بتخصصاتها الدقيقة والعامة، وبجميع اللغات الحية والحيوية في العالم.
بينما نحن في سلطنتنا الحبيبة أغلقنا باب الابتعاث إلى الخارج، ولم تعُد هناك سوى أرقام متواضعة جدًّا هنا أو هناك من العالم، بخلاف البعثات الخاصة التي يتحملها أولياء الأمور، والتي تتفوق في مجموعها على البعثات الحكومية بكثير. وهذا يعود في تقديري إلى غياب فلسفة التعليم بعمومه، وغياب فلسفة الابتعاث إلى الخارج على وجه الخصوص، ومنافعها التي لا تُحصى.
ففي الوقت الذي يمُوج فيه العالم من حولنا تداخلًا وتلاقحًا في الأفكار والعلوم والتجارب، انكفأنا على أنفسنا عبر بسط الجامعات والكليات الحكومية والجامعات والكليات الخاصة، وبدلًا من أن نُحقق التنافسية والجودة أعدنا إنتاج ذات التخصصات وذات المخرجات، والتي لا تخدم في النهاية تعليمًا ولا تنمية. وزاد الطين بلة أنَّ تلك المؤسسات الجامعية -والخاصة منها على وجه الخصوص- بدلًا من أن تُشكل رافدًا علميًّا وتنمويًّا واقتصاديًّا للبلد، وتخلق مناخًا علميًّا تنافسيًّا، تحولت إلى مُعضلات حقيقية وعبء على الدولة في التسيير والإنفاق والدعم؛ حيث عجزت عن النهوض بذاتها وتحقيق التشغيل الذاتي لنفسها، رغم كل الدلال والعناية المفرطة من قبل الحكومة؛ في الوقت الذي يتهافت فيه العالم من حولنا على رفد اقتصاداته وتنويعها بإستراتيجات السياحات العلاجية والعلمية والتدريبية، وتسويق التعليم الجامعي والتخصصي لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب في العالم، عبر تحسين الجودة والسعي لتحقيق التنافسية العالية.
أتذكر جيدًا، كما يتذكر الكثير غيري، فداحة وجسامة الدعم الحكومي غير المدروس للتدريب في المعاهد الخاصة قبل عقدين من الزمن، والذي أنتج لنا جحافل من الباحثين عن العمل، بمهن متناسخة (سكرتارية، طباعة، محاسبة... إلخ)، وأهدرت مبالغ لا يُستهان بها من مقدرات الوطن وبلا طائل للأسف، واليوم نكرر ذات الخطأ وبمسميات وأدوات جديدة تسمى مؤسسات التعليم الخاصة.
وحين العودة إلى فضائل وأهمية الابتعاث إلى الخارج، أقول إنَّ إكساب الطالب التعليم التلقيني أو التخصصي ليس هو الهدف الرئيس للتعليم، بقدر السعي لإنضاج هذا الطالب وإكسابه الحياة أولًا، عبر التلاقح مع شعوب وثقافات وتجارب وأنماط تفكير ومعيشة أخرى، والتي تُعينه على تعميق وعيه واتساع مداركه، والعودة للوطن بجُملة علوم وتجارب ومهارات نافعة ومفيدة؛ فالتعليم يحقق المعرفة ولا يحقق الوعي؛ فالوعي تحققه التجربة، ونحن أحوج ما يكون للوعي قبل العلم والمعرفة، وهذا لن يتحقَّق عبر الانغلاق على أنفسنا والتقوقع في جغرافيتنا بمزاعم لا حصر لها، ثم التواصل مع العالم من حولنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكل قشورها ومثالبها وغثائها. فإذا كان كل سعينا وهدفنا لطلابنا هو ورقة الشهادة فقط دون أي مهارات مكتسبة أخرى -شخصية أو ذهنية- فالتعليم عن بُعد يغزو العالم اليوم، ولم تعد هناك حاجة لهدر الأموال على إنشاء مؤسسات تعليمية وصروح علمية تستنزف الكثير من مقدرات الوطن في التشييد والتشغيل والصيانة دون عائد ملموس؛ فالطالب لا يتعلَّم في أروقة الصفوف فحسب، بل استفادته الأكبر من المحيط الثقافي والمعرفي المحيط به من بُنى معرفية متعددة كالمكتبات والمسارح والدور الثقافية والفنية والعراقة المعرفية للشعوب وبوفرة وكثرة النُخب المتخصصة علميًّا من حوله.
قبل الختام.. أقول للمتقزمين أمام إنجازات الكبار، إنَّ هناك تجارب يمكن استنساخها وتطبيقها على الفور في أي دولة ومجتمع إذا توافرت الإرادة والوعي والإدراك بأهميتها ونجاعتها دون أي أعراض جانبية؛ كونها تجارب بشرية عامة لا خُصوصية لها، يُمكن تقليدها ومحاكاتها بيُسر؛ لأنها لا تُعنى بثقافة بعينها، ولا تتطلب شروطًا أو أدوات خاصة أو حتى بُنى خاصة -فكرية أو ثقافية- بينما هُناك تجارب مُثقلة بمكونات وشروط ومناخات لا يُمكن استنساخها وتطبيقها دفعة واحدة، أو حتى جزئيًّا أحيانًا؛ لأنها لابد أن تنبت من حاجات الشعوب أو قياس منسوب الوعي ومعرفة الطور المناسب للدولة ومقدراتها البشرية والمادية لتطبيقها، وحين قال النبي الأكرم -عليه الصلاة والسلام وآله- "أطلبوا العلم ولو في الصين"، فإنَّ المنطق والعقل يهدينا إلى استنتاج أن الصين لا علوم شرعية تُدرس بها، بل كناية وتحفيز على ضرورة نَصَب المسلم في طلب فريضة العلم بمُجمله الديني منه والدنيوي، حتى وإن تطلب السفر والترحال إلى بلاد قاصية كالصين.
فالمطلوب منا إعادة النظر في البعثات الخارجية، وإعادة الاعتبار لها، مع التوجه الجاد لتنويعها في التخصصات والأقطار، وبما يواكب لغة العصر وأطوار الدولة؛ فأبناء اليوم هم نصف الحاضر وكل المستقبل، وهناك عدد لا يُستهان به من التخصصات العلمية الجامعية ستنتفي الحاجة إليها، وستصبح مخرجاتها عبئًا على الدولة والمجتمع، بفعل تسارع وتيرة الابتكارات والاختراعات العلمية والتقانة العصرية، خاصة وأننا في زخم الثورة الصناعية الرابعة؛ الأمر الذي يتطلب منا الكثير من المراجعات والجدية في التخطيط، فلو عاد لنا المبتعث فرضًا بإجادة لغة قوم لهو خير من شهادة عليا متناسخة، فاللسانيات ستكون سلاحا لنا ولغيرنا في غزو العالم دبلوماسيًّا وتجاريًّا وعلميًّا، والتواصل مع كل جديد، ناهيك عن مجمل الفوائد الأخرى للابتعاث.
لست من دعاة جلد الذات، ولا من دعاة التجريح، ولا من دعاة بث ثقافة البؤس والفجيعة بزعم الاستنهاض والتقدم، ولا من دعاة النقد العاري من البناء والبدائل، لكنني من دعاة المراجعة قبل التراجع، وتصويب الأخطاء قبل أن تصبح خطايا ثم تصبح ثقافة في عقول الأجيال تُجلها وتدافع عنها وكأنها قضاء وقدر، وهذا دَيْدَن حالنا في عدد من الأمور، والتي أصبحت كالفولكلور المقدس الذي لا يُمس، رغم ضررها الواضح وتجاوز الزمن لها.
وبالشكر تدوم النعم
---------------
قبل اللقاء: يصف العلامة ابن خلدون المدارس بأنها مقتل للعلم؛ فحصر العلم وطلابه بين جُدر يلغي قدسية التعليم وفلسفته، والتي كانت تدفع طالب العلم إلى السفر والترحال في رحاب الأرض لتلقيه وملاقاة أقطابه ورموزه، وفي الترحال يجد الطالب علوما كثيرة أخرى -غير مبتغاه وسعيه- لا حصر لها، ومنافع جمة من عادات وتقاليد وأقوام وجغرافيات ومناخات...إلخ. وهذا من باب قاعدة "علم نافع وجهل لا يضر".