أَين الطَّريق إلى حمام منْجَاب؟!

 

د. سعيد الحارثي

باحث وكاتب

 

 

تمهيداً، يروى أنَّ رجلاً كان واقفاً على باب داره، وكان الباب يشبه بَاب حمام للنساء مُجاور لدار ذلك الرجل، فمرَّت به جارية فيها مسحة من جمال، وكانت قد قصدت حمّام النساء المعروف في تلك البلدة، والمسمى بحمّام منْجَاب.

ولجهلها بمكان الحمّام سألت ذلك الرجل، قائلة: أَيْن الطَّريقُ إِلى حمَّام منْجَاب؟، فقال لها وقد فتنه جمالها: هذا حمَّام منْجَاب، وأشار إِلى دَاره. دخلت الدار فدخل وراءها وأحكم إغلاق الباب، فلمَّا رأَتْ نفسها معه في داره وليست بالحمَّام علمت أَنَّه خدعها. فَطِنَتْ حينها إلى أنه لا نجاة لها منه إلا بالحيلة والخداع، فأظهرت له البِشر والفرح باجتماعها معه في داره، وقالت له: ينبغي أَن يكون عندنا ما يطيب به عيشنا وتقّر به عيوننا من طعام وشراب. فصدّق قولها، وقال: السَّاعة آتيك بكل ما تُريدين وبكل ما تشتهين، ومضى عنها وهي في الدار، ولم يُغلق الباب. رجع صاحبنا بما رغب فيه لها فما وجدها بالدار، وما وجد لها أثراً، فهامَ بها وأكثر من ذكرها والتأسف والجزع عليها، وجعل يمشي في الأزقة يبحث عنها، ويُردد بأعلى صوته: "يَا رب قائلة يَوْمًا وقد تعبت * أَيْن الطَّرِيق إِلَى حمَّام منْجَابِ" ، وما تعب وما ملّ. ويروى فيما يروى، أنَّه بعد أشهر من هيامهِ، مرَّ في أحد الأزقَّة وهو يُردد ذلك البيت من الشعر، وإذا بصوت جارية من خلف أحد الأبواب، وهي تترنم بانتصارها وتعلن له عن أسباب فقده لمراميه، قائلة: "هلا جعلت لَهَا إِذْ ظَفِرتَ بهَا *  حرْزاً على الدَّار أَو قُفلاً على البَابِ؟، وهنا يأتي الشاهد في تلك القصة.

 

انتهى زمان ذلك الرجل، وما انتهت مرادفات قصته. فكل يوم نرى ما يشبهها. ولم يكن جمال تلك الجارية إلا القيمة الحقيقية لما أراد أن يبلغه ذلك الرجل. وللحفاظ على تلك القيمة جاءت النصيحة من تلك الجارية لتؤكد أنَّ كل شيء ذي قيمة يجب أن يُجعلَ له قفلاً لضمان الفائدة وبلوغ المُرام. إنّ تفلُّت كل جميل من حولنا سيكون أشد تفلتاً من الإبل في عُقُلها، وستبقى الغفلة ديدن من لم يوجِد الضمانات المناسبة لتحقيق المكاسب، وسيرحل كل شيء كما رحلت تلك المرأة بجمالها.

أربعة مليارات ريال عُماني هي تحويلات مالية سنوياً إلى الخارج، ونحن لا نزال نعجز عن وضع الحلول الناجعة لأصحابها من أجل ضمان تشغيل جزء من تلك الأموال في الداخل. ولا نزال في قطاعات مُتعددة ومعروفة نلجأ إلى توظيف العمالة الأجنبية في وظائف يتوفر من العُمانيين من هو مؤهل لشغلها، والإشارة هنا إلى القطاع الحكومي، وتستند الحجة وراء ذلك على قلة الرواتب التي يتم التعاقد عليها مع العمالة الوافدة مُقارنة بعقود توظيف العمانيين. وما يؤسف له أن ملف تقليل النفقات يتبنى هذا المبدأ وبقوة!!

مشاريع استثمارية عُمانية تُضَخّ أموالها في الخارج بما يُقارب سبعة مليارات ريال عماني، وما وجدت سبيلها إلى تلك الدول إلا ليسر التسهيلات والإجراءات والضمانات. ولا يقاس عائدها السنوي على السلطنة بما يُمكن أن يتحقق لو أنها أقيمت على أرض الوطن. يبحث أصحاب تلك الشركات عن البنى التحتية التي تسهم في نجاح مشاريعهم، ورغم توفرها في السلطنة إلا أنهم يواجهون ما يواجهونه من تعقيدات في الإجراءات الحكومية، وهي معوقات متاحة أمام المطّلع على تقارير المشروع الوطني "تنفيذ"، والذي قدّم بها قائمة، واقترح الحلول كاعتراف صريح بوجود تلك المعوقات في أطرها الوثائقية والإجرائية.

ويبقى الحبل على الجرار في ظاهرة تأخر، بل واختفاء، بعض المشاريع الرائدة في مضمونها وأهدافها، كاختفاء تلك الحسناء بجمالها، خاصة تلك المتعلقة بالاستثمارات في القطاع السياحي والتي لا نزال نستبشر بها ونبحث عن بصيص من نورها منذ أكثر من عقد من الزمن، فكم سمعنا عن مشروع المدينة الزرقاء في السوادي الذي تعطَّل في ظروف غامضة، وسمعنا وقرأنا وتابعنا الاستعدادات الفعلية لمشروع سلام يتي، وإذا به يختفي هو الآخر، ومنذ سنتين ويزيد بدأ الحديث أكثر عمقاً حول تدشين المرحلة الأولى من المشروع السياحي الأضخم وهو تطوير الواجهة البحرية لمطرح وميناء السلطان قابوس، والتي تمثلت في توقيع عدد من الاتفاقيات وتعيين الشركات الاستشارية، ولم ير شيءٌ من تلك المرحلة النور على أرض الواقع، سوى تلك التصاميم الجميلة والتي نعترف صراحة بأنها أبهرتنا. ولم تزل تطالعنا الصحف المحلية بالكثير من المنتجعات في محافظات متفرقة إلا أن معظمها لم يتعد مرحلة تخصيص الأراضي الشاسعة في نوع من عملية الاستحواذ المبطن.

 

وفي زاوية أخرى، تقودنا الذاكرة إلى أنَّ صاحب الجلالة، حفظه الله، قدّم في أكثر من مُناسبة مكرماته الضخمة في مجالات متعددة لدعم القطاع الخاص وتحريك عجلة التنمية فيه، فقد منح عددا من الجامعات الخاصة، ما يزيد عن 17 مليون ريال في شكل دعم مع هبات أخرى ومنح دراسية مكفولة من الدولة للمواطنين، لتساهم في تحريك عجلة العمل في تلك الجامعات والكليات الخاصة، وبالمقابل نجد أن أصحاب الشهادات العليا من حملة الدكتوراه من الشباب العماني ليس لهم نصيب من الوظائف الأكاديمية في تلكم المؤسسات، وأن المحاضرين من الجاليات الأجنبية هم من يُجلبون لشغل تلك الوظائف. يضاف إلى ذلك، تأخر مشاريع إنشاء مباني عدد من تلك الجامعات، والذي لا يزال مدار تساؤل.

 

يوجد في السلطنة ما يزيد عن عشرة صناديق تقاعدية، تعمل بشكل مستقل، ترزح جميعها تحت وطأة التبعية الإدارية وعدم الاستقلالية، ناهيك عن عدم وجود رؤية للاستثمار المستقل الموسع أو للإندماج، مما يضيع فرص إمكانية إقامة أعمال استثمارية كبيرة تُساهم في تحسين أدائها والدفع بعجلة التنمية. ورغم وجود تجارب ناجحة لدى بعض تلك الصناديق كما هو الحال لدى صندوق تقاعد وزارة الدفاع، إلا أنَّ الإحجام عن إيجاد رؤية لدمج عدد من تلك الصناديق سيظل يُنظر إليه على أنه أحد أنواع الهدر في الفرص في ظل مساعي وجهود السلطنة الداعمة لجذب الاستثمارات الخارجية.

ما سبق ليس سوى أمثلة سريعة تذكّر بمواطن الجمال التي ينبغي المُحافظة عليها، وينبغي إسقاط نصيحة تلك الحسناء عليها، كما في القصة الواردة في مستهلّ هذا المقال. وعلى أية حال، ومع عدم إنكارنا لقصص النجاح الكبيرة في الساحة العمانية، إلا أنه علينا أن نستدعي الكثير من الجماليات الاجتماعية والاقتصادية التي يزخر بها هذا الوطن وكان مصيرها أن تفلتت دون عزاء. وعلينا أن نتعلم كيف نحكم أنظمتنا وقوانيننا وممارساتنا الإدارية وخططنا الطموحة لبلوغ المرام، ونؤمن عن قناعة بأنَّ الوطن كله جميل، ويبقى أن ننظر إليه من جميع الزوايا حتى نقلل من الهدر وتضييع الفرص ونحقق المكاسب، ونعتمد مبدأ "هلا جعلت لَهَا إِذْ ظَفِرتَ بهَا *  حرْزاً على الدَّار أَو قُفلاً على الْبَابِ".. والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك