السمع والبصر والفؤاد

محمد عبد العظيم العجمي - مصر


الخطاب القرآني للإنسان خطاب شامل متعدد الأغراض والأساليب، فهو خطاب عقدي تشريعي تربوي نفسي سلوكي فكري أدبي ..، يهدم ويبني، يبين ويفصل ، يعلم ويربي، يقيم وينقض.. يعيد تشكيل البنية النفسية والعقدية والفكرية للإنسان من الداخل والخارج، " كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) إبراهيم ، وذلك " لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42).الأنفال.
ومراحل التحول الخلقي قد وصلت بالإنسان إلى (سميعٍ بصيرٍ) أي مدرك عاقل مبصر، لأن السمع والبصر يقتضي الفهم والإدراك والتأثر والتأثير، وبالتالي فهذه المرحلية ، وهذا التطور في الخلق لم يكن عبثا إنما كان لحكمة متقنة ، وهذه الحكمة التي اقتضت الخلق والتسوية والتعديل في أتم مثال وأحسن صورة كما في الآيات:  
"يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) الانفطار ، "أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) يس .
فمن أعظم المنن التي يمن بها الله على الإنسان بعد الخلق والإيجاد، نعمة السمع والبصروالفؤاد، "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)" الإنسان، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)" الملك، "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)"النحل ، "ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)" السجدة.
فلولا هذه النعم التي يعدد القرآن ذكرها ليذكر بها الإنسان ، لولاها لما كان الإنسان على هذه الحالة من التكريم والتأهيل والاصطفاء، ولكان أقرب ما يكون إلى الأنعام كما ذكر القرآن" وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)الأعراف، وهي حكمة اقتضاء التكليف وبدونها يسقط عن كاهل الإنسان التكليف كله أو بعضه ، فيسقط التكليف كليا عن غير العاقل أو الذي لم يبلغ الحلم أي لم يكتمل العقل ، كما يعذر فاقد السمع أو البصر ببعض العذر في التكليف كما في قوله"ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حريج ولا على المريض حرج" الفتح .
أما السمع فهو الطاقة أو القوة الناتجة عن آلة السمع وهي (الأذن) وبها يميز الأصوات (سمع ، يسمع سماعا وسمعا فهو سميع أوسامع أو سماع )، وقد فرق القرآن بين أنواع السمع وهي: (السمع، الاستماع، الإصغاء ، الإنصات)، كما فرق بين درجات الأصوات ( الركز، الهمس ، النجوى،الجهر، الصراخ، الصياح، الصاخة) ، فجاء السمع بمعنى : كل مايرد على الأذن بقصد أو غير قصد، بفهم أو بغير فهم "يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) لقمان، "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)البقرة،  أم الاستماع فهو السماع بقصد الفهم أو التقصي لخبر المتكلم دون شرط الاستجابة للمسموع أو الانصياع للحق منه "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) الجن ،"الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)الزمر"نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)الإسراء.
أما الإنصات فيكون مصاحبا للاستماع كما في آية الجن وهو يعني ترك كل ما يشغلك عن السماع بقصد التفرغ، وأما الإصغاء بمعنى (مال واستمع ، أحسن الاستماع) "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)الأنعام .
وهكذا نجد الارتباط الوثيق بين مفهوم السمع في القرآن والعقل"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)"الفرقان، لأن السمع هو الوسيلة الأولى التي يدرك بها الإنسان بعد ولادته، كما أن حاسة السمع تبدأ عملها في الشهر الخامس (الجنيني)، كما تكتمل حاسة السمع بعد الولادة بأيام معدودة كما يقول علماء التشريح، في حين تظل حاسة البصر تكتمل حتى السنة العاشرة من عمره(أ.د صادق الهلالي ــ موقع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم)، وهو يعتبر حاسة الفهم والذوق والعلم والتدبر، فلا يكون التدبر بدون إلقاء السمع والإنصات "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)الأعراف، " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ق ، ولا يأتي العلم الأول للإنسان إلا عن طريق السمع ، ولو فقد الإنسان حاسة السمع لما استطاع التعلم إلا بعد جهد جهيد، ثم إنه لا يستطيع محاكاة اللغة وتفهمها بدون السماع وبالتالي الفهم على أهل العلم والاختصاص، وقد ذكر أن من العلماء النابغين العديد من فقد حاسة البصر، ومع ذلك لم يفقد الإقبال على العلم ولم تحل بينه وبين النبوغ والترقي ، ولم يثبت ممن فقد حاسة السمع من قد نبغ أو برع في علم من العلوم مع تمتعه بالبصر.
وفي تفسير (الفخر الرازي) ذكر في تفسير هذه الآية" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)يونس" احْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ السَّمْعَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَصَرِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَرَنَ بِذَهَابِ السَّمْعِ ذَهَابَ العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب الْبَصَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِفَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ. وَزَيَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هَذَا الدَّلِيلَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي نَفَاهُ اللَّه مَعَ السَّمْعِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّه مَعَ الْبَصَرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ إِبْصَارَ الْقُلُوبِ، وَلَمْ يُرِدْ إِبْصَارَ الْعُيُونِ وَالَّذِي يُبْصِرُهُ الْقَلْبُ هُوَ الَّذِي يَعْقِلُهُ .
لكن يتضح أيضا من هذه الآية : "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)، "وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) "الأنفال، أن ارتباط السمع بالعقل متعدد في القرآن مما يدل على تأكيد المعني الذي يريد القرآن الوصول أليه وهوأن السمع أداة العقل الأولى التي منها تصل الدعوة إلى القلب بعد إدراك العقل وفهمه لها ، وبالتالي تحدث التأثير المطلوب في القلب ، ونفي الخيرية فيهم هنا لأن الأذن لا تقوم بالوظيفة المعدة لها كما ينبغي فهي تكتفي بالسمع دون التوصيل للعقل والقلب ، وقد ذكر بشار في مدح سمعه بعد فقد بصره فقال :
عميت جنينا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا
لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض وازنت بينه
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وقد ورد السمع مفردا في القرآن دائما، ولم يأت بصيغة الجمع ، وذلك لأن الناس معظمهم (غير أصحاب الفقد) يشتركون في مكان واحد في سماع واحد، مع تتعدد رؤيتهم ومشاهدهم فتقع عين كل منهم على منظر غير صاحبه، أما السمع فيرد على كل أذن كما يرد على غيرها مع تفاوت المسافة والموجات الموصلة للأصوات، فلا يتعدد وارد السمع على الجماعة في مكان كما يتعدد مجال رؤية البصر.
وقد جعل الله من عطل حاسة السمع فلم تؤد ما خلقت لأجله مثله كمثل الأنعام بل أضل من الأنعام ، أو كأهل القبور الذين قبرت أرواحهم في أبدانهم كما قبرت الأجساد في اللحود، فقال ""وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) البقرة، ، " وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)فاطر.
وللحديث بقية إن شاء الله ،،

تعليق عبر الفيس بوك