فن التعامل مع الناس

 

محمد بن حمد البادي

وقف شيخ كبير للصلاة في المسجد، وكان بجواره شاب على وجهه علامة التدين.. أعجب هذا الشيخ الكبير بالشاب، وأعجب بخشوعه في صلاته، وبعدما انتهى الإمام مدّ الشيخ يده مصافحاً الشاب داعياً له أن يرزقه الله حجة أو عمرة ليصلي في بيت الله الحرام، فقال له مختصراً هذا الدعاء: ( حراماً )... فنظر إليه ذلك الشاب المتدين بوجه متجهم، ورد عليه بغلظةٍ وفظاظةٍ:

 (لم يرد في السنة حراماً !)، فقال الرجل الكبير: (وهل قلة الذوق هي التي وردت في السنة؟!!).

 أيها الشاب تلطف مع الناس وأحسن معاملتك لهم.. فإنّ الناس يجفون من كان فظاً غليظ القلب، ويصدُّون عنه مهما كان متمكناً من علمه، متبحراً في ثقافته.

 

 

 

وقد قال الله تعالى في سورة آل عمران ((..وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ..))

 

فمعنى الآية واضح جداً، يعني: أنت أيها النبي، أنت على ما أنت عليه من علم، من عصمةٍ، من تأييدٍ بالمعجزات، من إكرامٍ بالوحي، أنت بكل هذه الميزات !! (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).

 

 

تروي كتب التاريخ، أن رجلاً دخل على أحد الخلفاء، فقال له: إنني سأعظك وأغُلظ عليك، وكان هذا الخليفة فقيهاً، فقال للرجل: ولِمَ الغلظة يا أخي، لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو أشرُّ مني ؛ أرسل موسى وهارون إلى فرعون، فقال الله تعالى لهما: ((.. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ..)) ( سورة طه:44)

 

 

 وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد درس نبوي بليغ في فن التعامل مع الناس بالرفق واللين وتجنب معاملتهم بغلظة وفظاظة.. وهو من أعظم أحاديث الرفق في المعاملة، فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه (أي أترك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرفوه دعوه (أي: لا تقطعوا بوله)، فيترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي.. فلما جلس إليه واستأنس له.. قال له عليه الصلاة والسلام : إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذارة إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.. لم يُعنّف الأعرابي ولم يزجره ولم يغلظ له القول، بل عامله - صلى الله عليه وسلم - برفق ووجهه بلطف ولين جانب.

 

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاً أصحابه: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين،، صبوا عليه دلواً من الماء).

 

 

 

إنّ التعامل مع الناس برفق ولين عنوان رقي الإنسان فكريا وثقافيا وحضاريا.. كما أنه دليل على حكمة الرجل وبعد نظره.. وهو أمر معنيٌّ به الجميع،، ليس مع الأهل والأبناء فحسب، بل مع جميع الناس بمختلف مسمياتهم وأجناسهم وألوانهم ودرجة قرابتهم،، فعلى الإنسان أن يكون رفيقاً في معاملة والديه وأهل بيته وإخوانه وأصدقائه، ويجب على الجار أن يكون رفيقاً بجيرانه، والمعلم رفيقاً بطلابه،، والطبيب رفيقاً بمرضاه، والمسؤول رفيقاً بموظفيه،، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.

 

 

 

إنّ فن التعامل مع الناس موضوع فضفاض، والحديث فيه واسع جداً،،ولأهميته البالغة اهتم به الكتّاب والباحثون والمصلحون الاجتماعيون، فصدرت فيه العديد من الدراسات والبحوث والكتب المتخصصة، من أجل وضع أسس وقواعد ومناهج واضحة يستعينون بها في نشر الوعي بين كافة أفراد المجتمع ونشر ثقافة هذا الفن الإنساني على أوسع نطاق.

 

ما أحوجنا اليوم لتطبيق مبادئ وأسس التعامل مع الناس.. تلك المبادئ التي تزخر بها شريعتنا الإسلامية السمحاء. لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يستفيدوا منها بشكل سليم.. بل ولم يتجاوزوا حتى الآن عتبة التنظير "مرحلة الفكر"، واكتفوا بالتغني بشعارات براقة من أمثال: من آداب الصحبة كذا، ومن آداب العشرة كذا، ومن آداب الحديث كذا، ومن آداب الطريق كذا..، وقلما نجد منهم من يطبق هذه المبادئ في علاقته مع أقرب الناس له، اوعلى أبسط تقدير يتدرب ويُدرِّب بني قومه على هذه المبادئ. فلا نلمس تطبيقاً لها في واقع حياتنا اليومية ولا نجد تدريباً عملياً على ذلك إلا نادراً.

تعليق عبر الفيس بوك