بعد تصريحات ترامب: البَيضُ في سلالها

غسان الشهابي

كاتب بحريني

أذكر أنه في الثمانينات من القرن العشرين، بدأت دعوات تخرج بشكل خجول، وخصوصاً من المفكرين الاقتصاديين والاستراتيجيين، يشيرون فيها إلى أهمية التنويع، وتوزيع المخاطر.

ربما الدعوات أتت قبل هذا، ولكنني أذكر أطرافاً من الجدل الذي يدور مع كل دعوة تقول بأهمية التحوّل من الاعتماد على الدولار كعملة معيارية وحيدة لتحديد سعر الصرف، إلى سلّة عملات. وسلة العملات آنذاك تعني – إلى جانب الدولار الأميركي، الين الياباني، والمارك الألماني، والغيلدر الهولندي، والدراخاما اليونانية، والجنيه الاسترليني. ومع اندماج الكثير من الاقتصادات الأوروبية تحت عملة واحدة (اليورو). دخلت الصين بفضل النمو الكبير الهائل الذي تحققه، وقوتها الاقتصادية، إلى سلة العملات العالمية. وكان الجدل ينتهي – في الغالب – بفوز مناصري الدولار في الواقع وعلى الأرض، مع وجاهة ما يطرحه الداعون إلى تنويع العملات وتنويع الاستثمارات أيضاً لتوزيع المخاطر والحدّ منها، فهذا الفريق يمكنه الفوز على الورق وفي المنتديات وحسب، ولكن ما على الأرض دائماً أقوى.

الأمر نفسه ينطبق على التسلح الذي تحاول الكثير من الدول، والدول العربية منها، والخليجية على الأخص، أن تنوّع مصادر السلاح، وتعقد الصفقات هنا وهناك لكي لا تضع كل بيضها في سلة واحدة، إلا أن النهاية تشير – غالباً – إلى فوز الولايات المتحدة بالطبق الرئيسى على مائدة التسلح، تاركة المقبلات والتحلية للمنافسين البعيدين كل البعد عن المناطحة، والتباري في السباق الكبير.

الأمر يعود بنا إلى ما كرره الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أكثر من لقاء على مدى أسبوع تقريباً، وهو يحاول ابتزاز المملكة العربية السعودية بشكل واضح وصريح، بل ومقزز، بتكراره القول إن الولايات المتحدة تحمي السعودية، وعلى الأخيرة أن تدفع فاتورة هذه الحماية.

لقد مرّ التصريح الأول بقول البعض إنها ربما واحدة من شطحات الرئيس الكثيرة، والتي باتت لكثرتها لا يُلتفت إليها. والبعض قال إنها تصريحات يُقصد منها الاستعداد للانتخابات الرئاسية (مع طول المدة الباقية من الانتخابات التي تزيد عن السنتين)، ولكن عندما كرر ترامب حديثه أكثر من مرة، وبشكل أكثر جدية في كل مرة، بات من اللازم أخذ الحديث على محمل الجد، بل وأكثر من ذلك.

هنا، انتهى – مؤقتاً – كلام الرئيس، وقد ردّ عليه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حديثه مع وكالة بلومبرغ، بأن بلاده تدفع أموالاً مقابل السلاح، أي ليس في ذلك منّة من أي طرف ولا تفضل، إنما هي عملية تبادل مصالح بحتة.

بعض ما فرطت فيه الدول العربية منذ استقلالها وانقلاباتها المتوالية، من ضمن أمور كثيرة تم التفريط بها، هو العلاقات المتوازنة بين الدول الكبرى، لتغليب المصالح على العلاقات الحدّية التي كانت تتسم بها في عدد من المنعرجات في سياساتها، فمرة ترتمي دول في أحضان المعسكر الشرقي تماماً، ثم تعود لترتمي في أحضان المعسكر الغربي كلّية.. فتكون أسيرة لهذين المعسكرين في كل فترة. وهذا الارتماء سياسي،اقتصادي،عسكري،ثقافي،أمني.. الخ، حتى عندما استفاقت روسيا من فترة الدوار التي أصابتها بعد التفكك، وحتى عندما ظهرت الصين كقوة عظمى صاعدة بقوّة، ظلت السلة الوحيدة المليئة ببيض بعض الدول العربية في جهة واحدة.

إن تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة والمتكررة، تدعّنا دعّاً لئلا تكون الشراكات الدولية مجرد ترضيات، بل لتكون خياراً استراتيجياً لا غنى عنه، لعلها الفرصة الأنسب ليفوز دعاة تنويع السلال، ولو لمرة واحدة بعد أن جربنا لعقود متتالية مخرجات رأي القطب الواحد.

 

تعليق عبر الفيس بوك