الهويّة المفقودة لهرم الدافعيّة!!

 

 

د. سعيد الحارثي

باحث وكاتب عُماني

 

في دردشة عابرة مع شاب عُماني يعمل على سيارة نقل بضائع بالأجرة، علمت، فوق ما علمت عن مُعاناته وأمثاله من الشباب، بأن شاباً عمانياً يعمل طبيباً في الصباح ويلتحق في المساء بسيارته (البيك أب) ليعمل على نقل البضائع بالأجرة.

وبطبيعة الحال لم يكن الأمر مستغرباً، بالنسبة إليّ على الأقل، لاطلاعي على حالات مُشابهة لكثير من الموظفين الحكوميين الذين يشتغلون في أعمال غير منظمة بحسب التعبير المستخدم لدى بعض المؤسسات المعنية بمسألة الحصر والتدوين وهي معروفة. ولا يختلف اثنان في أن الانشغال بالبحث عن مصادر الرزق من الضرورات البشرية الطبيعية، وأنَّ وطأة الحاجة تقود إلى ذلك الفضاء من الانشغال المستمر بلقمة العيش وبتوفير الأولويات بل وحتى الثانويات التي ارتقت إلى مرتبة الأولويات رضوخاً لإملاءات المدنيّة الفتيّة على الدوام.

واستشهاداً بالمثال السابق، نجد أنَّ الطبيب غالباً ما يضعهُ أصحاب النظريات الاجتماعية في قمة الهرم الوظيفي من منطلقات نوعية وكمية، بينما يحتلّ العدد الكبير من أصحاب المهن والحرف قاعدة الهرم. في هرم الحاجات الإنسانية الذي نظّر له "ماسلو" من بحر علومه النفسية، نجد أنَّ الحاجات الإنسانية تأتي في شكل هرم تمثل قاعدته الحاجات الفسيولوجية الأساسية والمتمثلة في المأكل والمشرب والنوم والتنفس وغيرها والتي هي أولويات طبيعية للبقاء، ثم تتدرج تلك الحاجات ارتفاعاً حتى تصل إلى قمة الهرم حيث حاجات تحقيق الذات وحيث عمليات الابتكار ووضع الحلول ودراسة الحقائق وتقديم الإنجازات والارتقاء بالصناعات وبناء الحضارات، وبحسب هرم "ماسلو" لا يُمكن الانتقال إلى حاجة أعلى قبل إشباع الحاجة الأقل. وهذا ما يُمثّل الهوية الحقيقية الطبيعية لهرم الحاجات الإنسانية.

وعلى ذلك يأتي السؤال الذي لابد وأن يُقدَّم بصيغة الاستفهام التقريري التعجبي أكثر عن كونه استفهاماً حقيقياً. أنحن المتسببون في فقدان هرم الدافعية لهويتهِ في مُجتمع كمجتمعنا الجميل هذا؟!. شباب في الوظائف الحكومية يحتلون مواقع مهمة في الإدارة العليا والمتوسطة ويحملون من المؤهلات ما يرفع من قيمتهم المهنية، وفي مواقع كثيرة ومهمة نجد من الأطباء والمهندسين وغيرهم، من يحملون أفكاراً إنتاجية لا تحدها حدود. هؤلاء وهؤلاء، عملياً هم أقرب إلى قمة الهرم في تكوين حاجات تحقيق الذات وخلق الإبداع الذي يرجى منه أن يحرك عجلة التنمية في هذا الوطن الغالي. ولكن ما يُؤسف له أننا لا نكترث لموقعهم على الهرم ولا لمكانتهم العلمية، ونؤزهم أزاً إلى التخلي عن ذلك الفضل الذي يُرجى منهم، وندفع بهم إلى بذل الوقت والجهد لإشباع الحاجات الفسيولوجية التي هي في قاعدة الهرم. ذلك أننا، ونحن في فترة لا نحسد فيها على حالنا، لا نزال نعطل اللوائح والقوانين التي تُقرر حقوق أولئك المتفانين، فمن رواتب متدنية، إلى درجات مالية معطّلة، إلى فساد إدراي يعصفُ بالحقوق عصفاً، إلى غياب الموضوعية في تقرير مستقبل هذه الفئة الكادحة. نحن في العقد الخامس من عمر نهضتنا التي أراد لها صاحب الجلالة -حفظه الله - أن تبقى مباركة كما بدأت، ولا نزال نقيم مؤسساتنا ونقعدها على صوت الإعلام الصاخب لتلك المؤتمرات والندوات والمشاريع الوطنية التي لا يصلنا منها إلا بيانات وتقارير وتوصيات هي أقرب إلى "لغة الخشب" الدارجة في مجمل أوطان بني العُرْب.

ليس ثوباً فلسفياً هذا الذي وددت أن أحيكه للصورة الذهنية لبلوغ المعنى الحقيقي لذلك الهرم، فالفوضى التي يعيشها شباب هذا الوطن والمتمثلة في ضياع الأبجديات الداعية إلى تكريس جهودهم وتوجيهها في مساراتها الصحيحة والالتفات بها إلى دواعي التجويد والتجديد، هي نتيجة طبيعية لضياع هوية هرم الحاجات أو هرم الدافعية، كما جاء في العنوان. فعملية هدر الوقت والفكر في البحث عن الاستحقاقات التي ينبغي أن تكون مكفولة!!، لا شك ينزل بهم إلى قاعدة الهرم لتزيد بهم اتساعاً، ولا شك أنّ ذلك يُضعِفُ وبشكل صارخ أي أمل في السمو بالعطاء وإشغال الفكر والمدارك لتجويد وتحسين أولويات الأعمال التي كثيراً ما أنفقنا عليها الغالي والنفيس في عُماننا الرائعة، من أجل تحقيق المزيد من الرفاه والإبداع والتنافس على الدفع بعجلة الإنتاج. ولست أُبالغ إن قلت مجازاً بأنَّ رحى التأخر ستبقى تطحن فينا ما لم تنقش قوانيننا وتشريعاتنا على الحجر كما نقشت شريعة حمُورابي. والله المستعان.

sokoon05@hotmail.com

 

تعليق عبر الفيس بوك