ما الذي يميِّز النظم المدرسية عالية الأداء؟


أ. د. / أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر

يحتل التعليم أولوية كبيرة في جميع الدول المتقدمة، وتلك الطامحة لتحقيق طفرة في مجال التنمية، فبدون تعليم جيد سوف يظل المجتمع يقبع على هامش الحراك العالمي، ولن يكون بإمكانه اللحاق بالتقدم التكنولوجي الهائل الذي أحدثته الثورة الصناعية الرابعة، وما سيترتب عليها من مهارات متغيرة ومتطورة في سوق العمل.
في عام 2018، أصدر البنك الدولي تقريرًا بعنوان "أزمة التعليم"، تناول فيه حقائق مزعجة بشأن واقع التعليم في الدول النامية، يشير إلى التحديات الرهيبة التي ستخلقها الثورة الصناعية الرابعة وما سيترتب عليها من اتساع الفجوة الاقتصادية بين العالم المتقدم والدول النامية. هذه التحديات لن تكون تحديات تقليدية بل ربما هي أشبه بتحديات الوجود.
حديثا، أثارت التقارير والمؤشرات الدولية، مثل مؤشر التنافسية العالمي (GCI)، وكذلك نتائج الاختبارات الدولية، مثل اختبار بيزا PISA واختبار تيمس TIMMS، التي جعلت من الممكن مقارنة نظم التعليم في الدول المختلفة ببعضها البعض، أثارت صدمة لدى الكثيرين. كان من الصعب الإقرار بحقيقة المستوى المتدني الذي وصل إليه جودة التعليم لدينا، لكن نتائج هذه التقارير والاختبارات الدولية اجتذبت مزيدًا من الاهتمام، وألهمت النقاشات حول جهود الإصلاح، وساعدت هذه المقارنات الدولية النظم التعليمية على تأسيس اتجاه جديد قائم على الأدلة والبيانات وليس على الرؤى الشخصية.
أحد أهم الأفكار التي نشأت عن هذه المقارنات أنه لا يوجد شيء محتوم حول كيفية أداء المدارس، فإذا كان بوسع بلدان ذات مستويات اقتصادية متواضعة تنفيذ سياسات لرفع مخرجات التعليم لديها، فلماذا لا نستطيع نحن فعل الشيء نفسه؟!
في ستينات القرن الماضي، كان لدى كوريا الجنوبية مستوى معيشي مماثل لمستوى أفغانستان في الوقت الحالي، وكانت من بين أدنى مستويات الأداء في التعليم. الآن كوريا الجنوبية لديها أكبر نسبة في العالم من المراهقين الذين أكملوا بنجاح المرحلة الثانوية. واستطاعت كوريا الجنوبية أن تحول نفسها إلى اقتصاد عالي التقنية، مبني على أساس من التعليم.  
وفي نهايات التسعينات، كانت البرازيل تعاني من مخرجات ضعيفة جدًا في التعليم وتقبع في قاع جدول الترتيب العالمي. في الحقيقة لم يكن أكبر عائق أمام تحسين نظام التعليم هناك يتمثل في نقص الموارد، لكن في الاعتقاد بأنه لا حاجة إلى التحسين؛ فالطلاب يحصلون على درجات عالية على الاختبارات التقليدية (تمامًا كما يحدث عندنا اليوم، حيث تحقق أعداد كبيرة جدًا من الطلاب الدرجات النهائية في امتحانات الشهادة الثانوية العامة!). لذا كانت صدمة المدارس وأولياء الأمور وصناع السياسة حينما نشرت نتائج طلاب البرازيل في اختبار PISA. ودفع هذا صناع القرار منذ ذلك الحين إلى اتخاذ حزمة من الإصلاحات دفعت البرازيل إلى التقدم بشكل رائع، فبعد تسع سنوات فقط من مشاركتها في PISA للمرة الأولى، برزت البرازيل كبلد صاحب أكبر تحسن في القراءة منذ إجراء تقييم PISA الأول في عام 2000.
اتبعت العديد من البلدان نفس النهج حيث لم تعد تقيس فاعلية نظمها التعليمية بمقارنة نتائج التعلم التي يحققها طلابها مقابل الإنجازات السابقة، بل يقيسون مدى تقدمهم نحو تلك الأهداف مقارنة بما يتم تحقيقه في أفضل النظم التعليمية في العالم.
لقد حان الوقت لأن نسأل أنفسنا: ما الذي يمكن أن نتعلمه من أنظمة التعليم الأكثر تقدمًا في العالم؟ كيف يمكن لتجاربهم أن تساعد الطلاب والمعلمين وقادة المدارس لدينا؟ كيف يمكن لصانعي السياسات التعليمية أن يستفيدوا من دروس الدول التي واجهت تحديات مماثلة واتخاذ قرارات مستنيرة؟ إذا كانت هذه الدول نجحت، فلماذا من الصعب علينا أن نفعل الشيء نفسه والتوقف عن تكرار نفس الأخطاء؟ في الحقيقة، لم تكن الإجابة عن هذه الأسئلة أكثر إلحاحًا منها اليوم.
قد يعتقد البعض أن التعليم لا يمكن تحسينه إلا عبر فترة زمنية طويلة جدًا، إلا أن الدروس المستفادة من تجارب دول عديدة تظهر أن ذلك غير صحيح، وأن إحداث تغييرات جوهرية في مدى زمني معقول هو أمر ممكن.
يمكن لصانعي سياسة التعليم الاستفادة من المقارنات الدولية بنفس الطريقة التي يتعلم بها قادة الأعمال توجيه شركاتهم نحو النجاح، وذلك من خلال استلهام تجارب الآخرين، ومن ثم تكييف الدروس المستفادة مع أوضاعهم الخاصة.
تظهر التجارب الناجحة التي أعادت تشكيل النظام المدرسي بها، أن الجودة في التعليم كانت نتيجة لسياسات وممارسات ومنهجية مصممة بعناية. وتتشارك المدارس وأنظمة التعليم ذات الأداء العالي في بعض السمات التي تتجاوز الحدود الثقافية والوطنية واللغوية. هذا هو السبب في أنه من المفيد دراسة تجارب الدول في إعادة تشكيل نظامها المدرسي.
كشفت دراسات مارك تاكر، رئيس المركز الوطني للتعليم والاقتصاد بأمريكا، للعلامات المرجعية عن مجموعة من الخصائص المشتركة لجميع أنظمة التعليم عالية الأداء، منها:
•    إن القادة في أنظمة التعليم ذات الأداء العالي استطاعوا أن يقنعوا مواطنيهم بأن الاستثمار في المستقبل من خلال التعليم أمر يستحق العناء، بدلاً من الأمور ذات العوائد الفورية، وأنه من الأفضل التنافس على جودة الثمرة لا على ثمنها.
•    إن إعطاء التعليم قيمة عالية هو مجرد جزء من المعادلة. يتمثل الجزء الآخر في الإيمان بأن كل الطلاب من مختلف المستويات الاجتماعية يمكنهم تحقيق معايير عالية المستوى. في بلدان مختلفة مثل إستونيا وكندا وفنلندا واليابان، يؤمن الآباء والمعلمون بأن جميع الطلاب يمكنهم الوفاء بالمعايير العالية. وغالبا ما تتجلى ذلك في سلوك الطلاب والمعلمين.
•    تميل أفضل الأنظمة المدرسية إلى تلبية التنوع في احتياجات الطلاب من خلال ممارسات تربوية متمايزة، ودون أن يكون ذلك على حساب جودة المعايير. فهم يدركون أن الطلاب العاديين يمكن أن يكون لديهم إمكانات ومواهب غير عادية.
•    لا تتجاوز جودة نظام المدرسة جودة المعلم. تقوم الأنظمة المدرسة ذات الأداء العالي باختيار وتعليم المعلمين بعناية. كما تعمل على تحسين أداء المعلمين المتعثرين، وتوفر بيئة يعمل فيها المعلمون معا لوضع إطر للممارسات الجيدة، ويشجعون المعلمين على التطور في حياتهم المهنية.
•    تضع الأنظمة المدرسية ذات الأداء المتميز أهدافًا طموحة، هذه الأنظمة واضحة بشأن ما ينبغي أن يصبح الطلاب قادرين على فعله، وتمكين المعلمين من معرفة ما ينبغي أن يعلموه لطلابهم. وانتقلوا من الرقابة الإدارية والمساءلة إلى الأشكال المهنية لتنظيم العمل. وهم يشجعون معلميهم على أن يكونوا مبدعين، وأن يحسنوا أدائهم وأداء زملائهم، وأن يسعوا إلى التطوير المهني والتعاون الذي يؤدي إلى ممارسة أفضل.
•    توفر النظم المدرسية الأفضل أداء تعليماً عالي الجودة عبر النظام بأكمله، بحيث يمكن لكل طالب تلقي خدمات تدريسية ممتازة. ولتحقيق ذلك، تجتذب هذه البلدان أفضل القيادات المدرسية إلى أصعب المدارس، وأفضل المعلمين إلى أكثر الفصول تحديًا.
•    وأخيرًا، تميل الأنظمة عالية الأداء إلى جمع وتنسيق السياسات والممارسات عبر النظام بأكمله، وتتأكد من أن السياسات متماسكة ومتسقة ويتم تنفيذها عبر فترات زمنية مطردة.
ماذا نحتاج اليوم من مدارسنا؟
إن الهدف الرئيس للتعليم هو إعداد الطلاب لمستقبلهم، وليس ماضينا. واليوم، بعدما أصبح من السهل الوصول إلى المعرفة عبر محركات البحث، ورقمنة المحتوى، وبنوك الأسئلة، والمهارات المعرفية التقليدية، يجب أن يتحول التركيز إلى تمكين المتعلمين من أن يصبحوا متعلمين مدى الحياة.
يدور "التعلم مدى الحياة" حول التعلم المستمر وإعادة فحص الأفكار عندما تتغير السياقات. وهذا يستلزم عمليات مستمرة من التفكير والتفكير التحليلي والناقد والممارسات التأملية. لذلك تحتاج المدارس اليوم إلى مساعدة الطلاب على التطور والنمو باستمرار، وإيجاد مكانهم المناسب في عالم متغير.
نحن بحاحة إلى إعداد الطلاب للتغيير السريع أكثر من أي وقت مضى، وإعدادهم للوظائف التي لم يتم إنشاؤها بعد، وإلى عالم مترابط يفهمون فيه وجهات نظر الآخرين ويقدِّرونها، والتفاعل بنجاح واحترام مع الآخرين، والقدرة على اتخاذ قرارات مسؤولة وحكيمة توازن بين مصالحهم الشخصية وصالح المجتمع.
في نظامنا التعليمي، لا يزال تشكيل الشخصية مسألة حظ، لأن هذا الهدف لا يمثل أولوية لدى المدارس أو المعلمين، ونظرًا لعدم وجود فرص تعليمية تجعل من هذا الهدف جزءًا أساسيا مما يتوقع من الطلاب. إن تطوير هذه المهارات المعرفية والاجتماعية والعاطفية يتطلب نهجا مختلفا تماما للتعلم والتدريس ونوع مختلف من المعلمين.

 

تعليق عبر الفيس بوك