تحديث أم قطع أرزاق؟!

إبراهيم الهادي

القشة التي قصمت ظهر البعير لم تكن هي المُتهم الرئيس في المثل الدارج، بل إنَّ الأحمال الثقيلة المتراكمة سلفا عليه هي أصل المشكلة، لكن القشة نفسها كانت القاضية فذهب عليها المثل أعلاه حتى يومنا هذا.

وما حدث للجمل نفسه يحدث اليوم للمؤسسات الصحفية في السلطنة؛ حيث كانت الأحمال الثقيلة تتراكم يومًا بعد يوم منذ مطلع العام 2015 ممثلة في الانخفاض الكبير للإعلانات والاشتراكات من المؤسسات الحكومية التي كانت تعد (أي الإعلانات والاشتراكات) وقودًا حيوياً مغذيا لهذه المؤسسات الصحفية، فتواصل به إيصال رسالتها الإعلامية القائمة على المبادئ وقيم الأمانة في النقل عن المصادر فضلا عن جهودها في تنوير الرأي العام وتبصيره بمختلف القضايا والأحداث، داخل وخارج البلاد، فضلا عن المهمة الخاصة المتمثلة في نشر الأخبار الموثقة لمواجهة سيل الأخبار المزيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. واليوم بعد تلك الأحمال الثقيلة التي جرتها قوافل الصحف بأقصى ما تحمل من طاقة، تأتي القشة- كما يبدو- لتقصم ظهرها إثر قرار وزارة القوى العاملة بإيقاف إعلانات هروب العمالة في الصُحف المحلية، والتي كانت تمثل مصدر دخل رئيسي لها.. القرار الذي جاء في خبر مُقتضب كان صادماً للصحف وجاء دون إشعار مُسبق لها ودون الجلوس مع إداراتها لدراسة مدى التأثير عليها وإيجاد الحلول البديلة، وكأنَّ الصحف المحلية غير مهمة ودورها غير مقدر.

إن هذا القرار يدفعنا إلى إعادة طرح قضية إنشاء محكمة دستورية ببلادنا، حتى تفصل في مثل هذه المسائل، فالنصوص القانونية تشير إلى ضرورة أن يقدم صاحب العمل المُبلغ عن هروب عامل ما يثبت أنه نشر إعلان الهروب في صحيفة أو انثنتين، وهنا يتضح أن القرار الوزاري الأخير يتعارض مع نص قانوني آخر، مع العلم أن الوزير لا يملك سلطة التشريع، وحتى ولو كان مُشرعا فإنه لا بد أن يصدر نص صريح بإلغاء هذه الفقرة القانونية.

المؤكد أننا مؤيدون للتطور والتحديث ولا شك أنّ الوسائل الحديثة هي الأفضل ولكن الوسيلة التي ألغيت للأسف ستضطر معها الصحف إلى قطع أرزاق شباب عُمانيين تحت كنفهم أسر، والسبب ببساطة أنَّ دخلهم كان مرهوناً بوسيلة الإعلانات التي ألغيت بهذا القرار، فحتى لو حاولت الصحف حملهم لا تستطيع لأن أحمالها في الأصل كانت ثقيلة كما ذكرت في بداية المقال، كنَّا نتمنى كعاملين في المهنة أن تدرس وزارة القوى العاملة مدى تأثر الصحف المحلية بهذا القرار كون الصحف من المؤسسات المحلية وينضوي تحت إداراتها مواطنين عمانيين وغيرهم، فهل كانت تعلم وزارة القوى العاملة أنَّ إعلانات الهروب تمثل مصدر دخل للعشرات بل المئات من العاملين في الصحف. إنَّ مثل هذا القرار كان من المفترض أن يدرس عبر مجلس عُمان، ويصدر بصورة قانونية ودستورية لا تتعارض مع نصوص قانونية أخرى، لا تزال قائمة، فضلا عن البعد الاقتصادي والاجتماعي للقرار، كون القرار متعلقاً بدخل جيد للصحف وبه أرزاق مواطنين على رأس عملهم، بنوا عليه كيانهم وأسرهم منذ سنوات طويلة.

نظامنا القضائي حتى الآن لا يتضمن وجود محكمة دستورية، تتولى الفصل في مثل هذه النزاعات القانونية، من أجل أن تصدر حكما جليا مفسرا للنصوص القانونية، لاسيما وأن القرار كما ذكرت له تبعات اقتصادية أو اجتماعية. وهذا يقودنا إلى الوقوف على مثل هذه القضايا المجتمعية؛ حيث إنَّ الكثير من القرارات صدرت انفرادية من وزراء مختلفين وجاءت بعدها تبعات أثرت على المستوى الاجتماعي ثم الاقتصادي.

إنني في هذا المقال أوجه ندائي إلى معالي الشيخ وزير القوى العاملة المُوقر بإرجاء القرار إلى إشعار آخر، على أن يصدر لاحقًا بعد وضع آليات تضمن عدم تأثر المؤسسات الصحفية، وإذا ما أردنا أن يكون الإعلان مواكبا للتغير التقني والتحديث في المجتمع، فما المانع من أن يتم نشر الإعلان إلكترونيا أيضا على مواقع الصحف المحلية بدلاً من الصحف الورقية، ومن هنا نضمن مواكبة التحديث وتعزيز جهود التحول الإلكتروني، وكذلك يكفل الإجراء استمرار الصحف في الحصول على عائد مادي يعينها على توفير الرواتب للعاملين لديها، وبالتالي عدم قطع الأرزاق.