أهمية دوران العجلات الديمقراطية

 

غسان الشهابي

* كاتب بحريني

من يستعرض المشهد العام في الوطن العربي، يرى أنَّ هناك نكوصاً – بشكل عام – في أرجاء الأرض العربية عن التجربة الديمقراطية التي تخوضها، سواء كانت تجارب وليدة أم بعيدة، فهناك نبرة متفاوتة بين عدم الارتياح لهذه التجارب، وبين أكثرها حدة وتطرفاً، وهي تلك الأصوات المنادية بإلغاء التجربة الديمقراطية في بعض البلدان.

ولا يُمكن لأيّ فاحص أن يلوم أصحاب هذه الانتقادات لأنّ الأوضاع تتردى في أوطاننا، وتتدحرج إلى الهاوية التي لا يظهر قعرها، فكل المكاسب التي تحققت في وقت ما من أوقات النهوض، والصحوة، والاندفاع، والبناء، وفي ظل الوفورات المالية النسبية، ومع وجود شخصيات وطنية مُخلصة وفاعلة، كلها – تقريباً – آخذة في التآكل، وهناك نكوص عام على جميع المستويات الفكرية والثقافية والعلمية والتربوية، مع خدمات عامة تتهاوى، ومن بينها الإسكان والتعليم والصحة، وبنى تحتية في الكثير الكثير من الدول العربية، تبدو قد شاخت وهي تشير إلى "الزمن الجميل" الذي بنيت فيه، حيث كانت الأحلام عريضة، والطموحات لا تقف عند السماء السابعة، إلا أنَّ كل هذه "المنجزات"، وهي في الحقيقة "ألف – باء" أي دولة، ولا مسوّغ للتفاخر والتطبيل لها؛ صارت تتصدّع، مع خَوَرٍ عام في الإرادة الحقيقية للنهوض بالبلدان والإنسان، وهذا ما تبيّنه المؤشرات المتراجعة للأسف في عديد الأوطان، وما تدلّ عليه الحالة الاقتصادية المتقهقرة لعموم الدول العربية، والدين العام الذي يأكل بشراهة كل ما يُمكن أن تنتجه هذه الدول، فمتى يمكن لهذه الدول أن تتفرغ للبناء والنماء، وهي ترزح تحت تأدية دينها أولاً بأوّل، مع تزايد السكان، وتداعي المؤسسات، وطلاء الأوضاع من الخارج لتبقى برّاقة، بينما التصدّعات تأتي على أساساتها، ويكاد السقف يخرّ من الأعلى. تتوّج هذا كله، جحافل الفاسدين التي تأتي على النزر القليل المتبقي لإصلاح الشأن، فلا تبقي ولا تذر، فتنشأ طبقات تلو الطبقات المستفيدة من الفساد بصورة كافة، المالية، والإدارية، وغيرها من أنواع الفساد.

لقد بنت أنظمة عربية مجالسها النيابية لكي تكون تماماً على حجمها، بحيث لا يمكنها أن تطال منابع المشاكل، ولا تقوى على حلها، فهي لا يمكنها أن تحيل وزيراً إلى التحقيق، ولا تحاسب رئيساً، ولا توقف مسؤولاً ذا عزوة، ولا تنظف أوساخاً، ولا تسنّ قانوناً يقلل السرقات مجرد تقليل. برلمانات أعضاؤها أشبه بإخوة يوسف (عليه السلام)، حينما لم يستطيعوا أن يجتذبوا إليهم وجه أبيهم، كان الحل الأسهل لديها أن تتخلص من يوسف، وهذه البرلمانات حينما أيقنت بعجزها لم يبق أمامها إلا صراخ الأعضاء على بعضهم، وتقاذفهم بالسباب، ومدّ الأيدي على بعضهم البعض، دليلاً على يأسهم من أن يفعلوا شيئاً، وتحسّباً من قواعدهم الانتخابية في الدورات المقبلة.

إذ يتفهّم الفرد منّا هذه التعقيدات كلها، وهذه القتامة في المشهد العام، فإنه أمام خيارين: إما التنازل عن التجارب الديمقراطية، والبرلمانات أحد وجوهها، وطيّ ساحة فضاء عامة يمكن للمواطنين إيصال صوتهم من خلالها، وإما الاستمرار في هذه التجربة، مع الضغط المخلص من أجل توسيع الصلاحيات، ومنح البرلمانات القدرات الكافية لتكون كنظيراتها الغربية، فهذه التجارب العالمية ترينا قوة البرلمانات وإسهاماتها في نهضة بلدانها.

لذا، فإن دوران، العجلة وإن ببطء، أفضل من توقّفها.

تعليق عبر الفيس بوك