دروسٌ وعِبَــرٌ من الهِجْـرةِ النَّبويّة


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


الهجرة النبوية حدث يفرض نفسه كلما تحين ذكراه، يفرض نفسه من زاوية تاريخية على العالم كله بهذه المسافة الزمنية التي استطاع أن يقتطعها أو يحتلها من حقبة التاريخ منذ القرن السادس الميلادي وحتى الآن، وما تخلف عن ذلك من أثر حضاري ومادي وأيدلوجي، كما يفرض نفسه على أمة الإسلام من أكثر من بعد، البعد الأول هو: البعد التاريخي الذي لا يمكن إغفال ما أثرى به هذه الأمة من منائح يظلها خيرها ممتد عليهم إلى أن تقوم الساعة، والبعد الآخر هو البعد الديني الذي نحن مأمورن بالوقوف عنده بالتدبر والتفكر، فكلما أمعنا فيه النظر كلما جد لنا من الدروس والعبر ما نستلهم منه من وهج الشرارة الأولى التي أشعلت هذه الروح الإيمانية ، وأهدت للبرية هذا الدين القيم الذي ظهر على الدين كله، فالهجرة بالنسبة لأمة الإسلام يوم من أيام الله التي تحدث القرآن عنها، وأمرالله نبيه موسى أن يذكر قومه بأيام الله "ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)" [سورة.إبراهيم].
 وقد تناول القرآن حدث الهجرة تناولا يلفت النظر إليه ويؤكد على الدروس التي يجب أن نتلقاها من الحدث، وإن لم يتعرض لأحداثها بالتفصيل كما تفعل كتب السير، إنما هو يقف على الغرض من الحدث، وما يود أن يعلمنا من سرده كما جاء في كثير من قصصه، فقال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(40)[سورة التوبة]
نزلت الآيات بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة أي بعد حدث الهجرة بتسع سنوات ولم تنزل ساعة الهجرة، وجاءت لتتحدث عن فريضة الجهاد التي تخلف بعض المسلمين عنها في هذه الغزوة وتأخر بعضٌ آخر ثم لحقوا به صلى الله عليه وسلم،  ولم تتكلم عن الهجرة بخصوصيتها إنما لما ترمي إليه من تنبيه المسلمين عليه، لتثبت للمسلمين أن الله قادر على نصر نبيه ولو كان وحده إنما جعل الجهاد اختبارا لهم وأجرا وتثبيتا كما جاء في [سورة محمد]: "ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) .
وإلى الدروس المستفادة من الهجرة النبوية :
الدرس الأول: هو الصبر، وهو ملخص مرحلة ما قبل الهجرة من الدعوة التي ظلت ثلاثة عشر عاما تضيق بها الحياة وتغلق دونها القلوب وتنفر منها النفوس "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) [سورة فُصِّلت]، هذه الدعوة التي حملتها أطهر نفس مشت على الأرض ولقيت على إثرها من العنت ما لاقت، ولم تضق ذرعا بأهلها حتى كان النبيُّ محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، ويقول:"عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله" لكن الأمور العظيمة لا تقوم لها إلا نفوسا على ذات القدر من العظمة والصنعة الربانية، هذي النفوس التي صمدت لجهل الجاهلين وتطاول المتكبرين، وعناد الجبارين حتى أظهر الله على يديها الدين على الدين كله ولو كره المشركون.
إن استعجال النتائج واستبطاء النصر وفقدان الصبر يذهب ثمار الجهد حتى ليكون الإنسان ليس بينه وبين النصر أو الفرج إلا ساعة، فما تتركه العجلة حتى تضيع عليه أمره وتذرو جهده إثر الرياح، لا تنجب الدعوات إلا مع لقاح الصبر واستفراغ الجهد، ولا تثبت إلا على قدم اليقين والإخلاص لله رب العالمين.
سمعت بعض المذيعين في الإذاعة يحاور أحد مشايخنا عن الهجرة ، فيستخلص من حديث عبارة يقول فيها: "إنه لا يهمنا أمر مادام يقيننا بالله باقيا " ثم أخذ يؤكد عليها، وكأن اليقين وحده غان عن الهم والعمل، لقد كادت نفس أبي بكر رضي الله عنه تزهق في الصحبة في الهجرة من الهم والقلق على الدعوة أن توأد في مهدها وألا يعبد الله في الأرض لو أصاب النبي صلى الله عليه وسلم مكروها" ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ "، وخاض المسلمون الأوائل بحارا من العناء ، تتقطع فيها الأنفاس وتزهق فيها الأرواح ، وتبلغ فيها القلوب الحناجر دافعين بأنفسهم وأموالهم دون الدعوة البكر في مهدها فلم تقم إلا على أشلاءهم الممزقة.
الدرس الثاني: إن الإعداد الذي يسبق العمل لابد له قبل العمل ، وقد يتوهم واهم أن الثلاثة عشر عاما التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة داعيا مؤاذا هو وأصحابه مضيقا عليهم ، لوجعلت في المدينة لآتت أكلها بدلا من عنت مالاقوه في مكة، والجواب : أن مرحلة الوجود في مكة كانت مرحلة(الدعوة) والإعداد لها وكان موسم الحج أيسر طريق للتواصل مع قبائل العرب جميعها وانتقاء أهل الفهم والإجابة منهم والسيادة ليكونوا رسلا إلى قومهم ، أما مرحلة الهجرة إلى المدينة فقد كانت لإقامة (الدولة) ، والأولى لابد أن تسبق الثانية وتمهد لها، أما الدعوة فلابد أن تكون متخفية ، وأما الدولة فلابد أن تكون قوية قادرة على إقامة شعائرها بنفسها ، ثم الجهر بعد ذلك بدعوتها للناس كافة .
الدرس الثالث: إن النصر لا يتأتى لمجرد إخلاص النية وشرف الدعوة ، فيصب عليها النصر صبا، لكنها رغم نزاهتها وقد أتت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور إلا أنها لا بد أن تقطع دونها الأعناق كما قال قيس: "وإنما تقطع أعناق الرجال المطامع"، فقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم العدة واختار الصحبة، وجهز الراحلة، وانتقى الدليل، وتحرى الطريق الذي، واختبأ وكاد أن يدرك، وسرى ليلا، وتجشم عناء السفر وقلة الزاد وبعد الشقة ، وقد كان الله قادر على أن ينصره بغيرهذا كله، لكنه أراد أن يسن لنا مثالا يحتذى ويعلمنا أن الله قد جعل للحياة سننا لا تتغير ولا تتبدل، من هذه السنن أن بلوغ المرام لابد له من أسباب توصل إليه، وأن الله قد أقام الدنيا على الأسباب، وقد قال أهل العلم مستخلصين من هدي نبيهم "الاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، واهمال الأسباب قدح في التشريع "، فالأولى تنفي التوكل على الله والاعتماد على أسبابه، والثانية تنفي ماجاء الشرع معلما به من الأخذ بالأسباب.
وأما من بذل الأسباب واستفرغ العمل لابد له أن يكون له من اليقين والتوكل على الله ما يجعله على ثقة بأن الله ناصره ، مادام يسعى إلى الحق والخير، وأن فقد اليقين والثقة بالله من مفسدات الأسباب خاصة لأهل الإيمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وقد تملكه الخوف والحزن "ماظنك باثنين الله ثالثهما"، ويالها من معية لا تعدلها معية في الأرض أو في أهل السماء وهي معية الله، وياله من شرف هذا الذي حظي به أبوبكر رضي الله عنه في هذه الرحلة "شرف الصحبة وشرف معية الله".
الدرس الرابع: فريضة الجهاد التي أتت في آية سورة براءة لتعلم المسلمين أن التخلي عن فريضة الجهاد هو الخروج من متاع الآخرة الكثير الدائم إلى متاع الدنيا القليل الزائل، وأن ذلك مدعاة لسخط الله وغضبه وعذابه، وكذلك مدعاة لاستبدالهم بقوم ينصرون الله ورسوله فينصرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حى ترجعوا إلى دينكم" [رواه أحمد وأبوداود ، وصححه الألباني].
ولاشك إن الواقع نابض بكل معنى من معاني هذا الحديث الذي لا يحتاج مع حجاج الواقع ودلالته ، لا يحتاج إلى شرح أو تفسير، وما تمر به الأمة من تداع عليها ومذلة وانتهاب لثرواتها ومقدراتها لأصدق شاهد على ترك سنة الجهاد التي عاتب الله فيها أصحاب نبيه في غزوة العسرة حين تخلفوا عنه منشغلين بخروج الثمر مؤثرين متاع الدنيا على الجهاد مع رسوله ، وقد تاب الله عليهم ليتوبوا ، ولعلها تكون لنا توبة تنزع عنا الذل الذي أحاط بأعناقنا، والاستخفاف الذي سلط علينا به من يستبيح بيضتنا .
 الدرس الخامس: في قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد خرج المسلمون أياما لملاقاته كما يروي عن: " عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا أَنْ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَانْجَفَلَ النَّاسُ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَجِئْتُ فِي النَّاسِ؛ لَأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا أَنْ رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ [ص:707] وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُ مِنْهُ أَنْ قَالَ: "يَأَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " [سنن البيهقي].
هذا هو البيان الأول في الإسلام بعد هذه الرحلة من المطاردة والمشقة والعنت، وقد لمسنا وقرأنا وعاصرنا بيانات الثورات والدعوات السياسية والإجتماعية ، لكن هذه النفس المؤيدة من السماء الملهمة بالوحي لا تلتفت إلى ما مضي، إنما منتهى همها أن تستكمل ما بُدء من أمر الدعوة وهدف الرسالة فلا حديث عن أمر الهجرة ولا اضطهاد مكة ولا إعداد العدة لشهوة الانتقام أو الانتصار، إنما هو الوحي المنزل "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)[سورة النجم]، على النفوس التي تمطر الخير وتثمر الخير فيأمر بإطعام الطعام وصلة الأرحام وإفشاء السلام ، وكلها نوع من التآلف والتكافل الاجتماعي ، ثم الصلاة بالليل والناس نيام وهو منتهى الصلة للإخلاص بين العبد وربه.
الهجرة كحدث يجب أن يحيا في نفوسنا كميزان نزن به أحوالنا ومآلاتنا الدينية والدنيوية، فمن فريضة الجهاد والصبر على الدعوة وبذل الجهد والأخذ بالأسباب وحسن اليقين والتوكل على الله، ومكارم الأخلاق، وإصلاح ذات بين العبد وربه ، كل هذا مما نستخلصه من الدروس والعبر، ولن يصلح حال آخر الأمة إلا بما صلح به أولها، ومنهج الإصلاح حي بين أسماعنا وأبصارنا ، في القرآن والسنة وفي المثل والقدوة ... فما لنا عن التذكرة معرضين ؟!!


 

 

تعليق عبر الفيس بوك