فقاعة المرشح

 

عبيدلي العبيدلي

لو أجرينا مسحًا إحصائيًا يشمل مستخدمي الإنترنت للكشف عن أكثر المواقع زيارة، لوجدنا أن محركات البحث، من أمثال "غوغل"، وقنوات التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك"، و"تويتر"، و"الانستغرام"، تتقدم الصفوف، على نحو قياسي، وتحظى بحصة الأسد سواء من حيث نسبة المستخدمين، أو عدد زيارات كل مستخدم لها. وهذا أمر طبيعي ومتوقع، فأكثر ما يستفيد منه هؤلاء المستخدمون، هو نتائج البحث، أو تواصلهم مع أفراد مجتمعهم "السيبراني"، أو "التخيلي".

ما هو منطقي أيضًا، أن مثل تلك المواقع، أو بالأحرى المنصات، وخاصة منصات البحث بينها، هي الوسيلة الأكثر كفاءة في تزويد من يبحر على الإنترنت بالمعلومات التي يبحث عنها. ورغم أن تلك المنصات لم تسلم من أقلام الناقدين، لكنها، أي تلك الملاحظات، تمحورت حول قضايا، ربما تكون شكلية، بل وحتى ساذجة، لكن يمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

غزارة المعلومات وكثرتها، بحيث يفقد الباحث عنها القدرة على التمييز الدقيق بين سلامة المعلومات وصحتها من جهة، والأخطاء التي قد تحتويها من جهة ثانية. فمن الصعوبة بمكان التمييز بين الغث والسمين. بل قد تنجح المعلومات، دون وعي الباحث عنها، في تزويده ببيانات مزيفة، أو غير صادقة، تقوده نحو استنتاجات، ليست منحازة فحسب، بل خاطئة أيضًا.

توجيه مستخدمي محركات البحث نحو قضية محددة، بعد سيادة نتائج البحث على مواقع معينة تحجب عن الباحث أخرى، ربما تكون أكثر أهمية، بل وأشد شفافية، عندما يتعلق الأمر بموضوع بحثه.

بناء مجتمعات، بشكل ممنهج وغير عشوائي، كما تبدو الصورة لنسبة عالية من زوار تلك المواقع، تخضع بشكل مبرمج لفكرة معينة، أو قضية ساخنة، وفي بعض الأحيان تقع فريسة سهلة لجهة معينة..

لكن بالإضافة لكل ذلك، بدأت اجتهادات تعلو أصوات أصحابها محذرة من أن مجتمع الإنترنت، لم يعد مجتمعاً عفويًا كما يتوهم البعض، تسبح فيه المعلومات بشكل غير مقيد ولا مدروس، وأخذت هذه الأصوات تتمحور حول مصطلح جديد هو ما أصبح يعرف باسم " فقاعة المرشح"، وهي ترجمة للمقطع الإنجليزي "The Filter Bubble".

وهذه الفقاعة، كما تعرفها العديد من مواقع الإنترنت، ومن بينها الموسوعة الرقمية "ويكبيديا" عبارة عن " وصف لتأثير تقنية يستخدمها عدد من محركات البحث في تحديد نتائج البحث المعروضة للمستخدمين. هذه التقنية تتمثل في قيام خوارزميات محركات البحث هذه بتخمين المعلومات التي قد يفضل المستخدم أن يراها بناءً على معلومات عنه (مثل المكان وسلوكيات النقر الماضية وتاريخ البحث) ونتيجة لذلك، يصبح المستخدم منفصلًا عن المعلومات التي لا تتفق مع وجهات نظره، وهو وما يعزل المستخدم في فقاعاته الثقافية أو الفكرانية الخاصة. وتعد خدمتا نتائج البحث المخصصة من غوغل، ومدفق البحث المخصص من فيس بوك من الأمثلة الرئيسية لخدمات بحث تقوم على هذه التقنية".

وينقل الموقع عن الكاتب إيلاي بارسر (Eli Pariser) ما جاء في كتابه الذي يحمل نفس العنوان "فقاعة المرشح"؛ قوله "يقل تعرض المستخدمين لوجهات نظر متباينة وينعزلون فكريًا في فقاعة معلوماتهم الخاصة. وذكرت بارسر مثالًا لمستخدم بحث في غوغل عن بي بي، شركة النفط البريطانية، وحصل على أخبار حول استثمارات مُتعلقة بها، بينما ظهر لمستخدم آخر قام بنفس البحث صفحات تتحدث عن التسرب النفطي في خليج المكسيك 2010 وكانت صفحتا نتائج البحث مختلفتين إلى حد مفاجئ".

على نحو مواز ومستقل، ينقل موقع صحيفة " العرب" الإلكتروني مقالا مطولا حول هذا الموضوع يكشف فيه بعض مساوئ ما يصفه بالثورة الرقمية، مستعينا فيه بمقتطفات تناول فيها مؤلفوها، بشكل غير مباشر خطورة "فقاعة المرشح" التي نعالجها هنا. يرد في المقال، " تعد المراقبة المستمرة أكبر خطر اجتماعي من الثورة الرقمية مع مستويات مختلفة من فضول مستخدمي الهواتف الذكية لمراقبة الآخرين. و(يستشهد المقال بكتاب) لبرنار هار كورت (الذي أجرى) استطلاعا للأضرار التي لحقت خصوصية الإنسان عن طريق وكالات التجسس والشركات الخاصة، وبتشجيع من المواطنين الذين ينشرون التحديثات المستمرة عن أنفسهم عبر الإنترنت". ويمضي المقال، محذرا من مخاطر "فقاعة المرشح" التي نتحدث عنها قائلاً، "وخلافا لمجتمع القرن التاسع عشر، الذي تناوله فوكو بالتحليل، حيث كان يعلم السجين بأنه مسجون ويعلم من هم سجانوه، يتميز مجتمع اليوم بنشر التغريدات على تويتر والصور على انستغرام وبالتالي أصبح التجسس على الأشخاص في متناول أي كان، وبخلاف بعض الاستثناءات يبدو أن العديد من الأشخاص يحبذون أن يكونوا عرضة للتجسس".

لكن التجسس هنا لا يقتصر على معرفة ما يدور بخلد من يجري تتبع سلوكه على الإنترنت، بل يتجاوز الأمر ذلك من خلال التحكم في توجيهه على نحو ممنهج ومدروس نحو هدف معين، من خلال محركات البحث التي تزوده بمعلومات تناسب ما يميل له، بعد أن تحجب عنه، ما لا يُريد، وتريد هي أن يطلع عليه.

لا تكمن خطورة "فقاعة المرشح" في جانبها التجاري أو الترويجي لبضائع معينة من خلال وكالات الإعلانات فحسب، لكنها، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية، عندما تتحكم فيها دوائر المخابرات العالمية، التي لن تتمكن من متابعة ميول الأفراد، أو المنظمات، بل وحتى المجتمعات وقراءة اتجاهاتها، بل إنها أيضا ستتمكن من التحكم في سلوكهم بعد دراسة تلك الميول بشكل علمي، ومستمر وممنهج.

فمن خلال "فقاعة المرشح" بوسع تلك الأجهزة، وضع من يتابعونه في "فقاعة إلكترونية"، يجري التحكم في "ترشيح" المعلومات التي تخرج منها أو تدخل إلى من تم تطويقه "ذهنيا" و"سلوكيا" داخلها.

ليس في ذلك، كما قد يحلو للبعض أن يروج، دعوة لمقاطعة ما جاءت به الثورة الرقمية، ولا استحضار لمقولات تحث على العودة للوراء، لكنه في حقيقة الأمر تحذير من الاستخدام الساذج لما جاءت به تلك الثورة، ونداء لغربلته بشكل واع وناضج، كي لا نقع، كما وقعنا سابقا، في مطبات جاءت بها ثورات أخرى، جرى التحضير لها بشكل جيد، ودرست نتائجها بطرق علمية، كي يقع المعجبون بنتائجها في براثن وكالات أخرى، لم تكن هي البارزة في صورة تلك الثورات.

المطلوب هنا أخذ الحذر والحيطة، والبحث عن البدائل التي تجعل من الثورة الرقمية نعمة نستفيد منها لا نقمة نلعنها، بعد أن نعاني من ويلاتها.