خمس قصص قصيرة


سعيد أولاد صغير - المغرب


(1)    [همـسُ أبـي]
 همـس أبي في أذني مرّة وقـال: دار الزّمن يا ولـدي وأنا العـليـل... فـلم يبق من العمر سوى القـليـل... دوّى رعـد بداخلي ونطـق... أمطر بأعماقـي خوف وقـلـق. أردت أن أمازحه وقـلت: أمولانا حكـمْ...؟ أم شيخنا زعـمْ... !؟ ارتسمت على ثـغـره بسمة كالعسـل... وردّ على الفـور أي نعـم... نزل عـرق من جبينه... حـدّق في عيـني وقـال: شفّـاف هذا الحجـاب... بوُسع الكتـاب أن يكشف لـك الحساب... لحظتـها، فهمت أبراج الكلام... ولم أفـش سرّه للأنام... وقـبل أن يخلُـد أبي للسلام، تجـوّل ببصره طـويلا فـي  وجهـي ثـم قـال: لا تركُـن يا ولدي للدنيا... وكـن للعهـد راعيا... فإن صرت لي ناعيا... فخُـذ كـفّـا من تراب وارم به على قبري... وادع لـي إن كنت داعياً... خذلني صبري وجفّ حلقي... بكيت بحرقـة وقـلت: أبتاه، أمخذول أنت يا عمري أم تـعِـبْ... إني سألت الغراب يوما عن أسرار الدّفـن... فاحتار ولم يُـجـبْ... فكيف أرمي التّـراب على قبـر من أحـبْ... !؟

(2)    [طبعٌ غريب]
دخل غرفة نومه في تطاووس... أوصد الباب من ورائه... أحضر حبرا وورقا... جهّـز آلة طبعه ... ضغط على الزر، ثم وقف يرقب المشهد... لم يكن يخفي حلمه بأن يصدر مدونات حياته... ليصبح كاتبا معروفا وأديبا مرموقا... فيعلم الناس سمو شأنه وعظمة قدره... بدأت الأوراق تنزلق سريعا... وأخذ يمسك بها، يتفحصها ويبتسم. فجأة، ومض بين الكلمات ضوء كوميض البرق... صار طبعه غريبا... يتقلب بين الرماد والسواد... تذكر أنه نسي إحدى ذكرياته الحزينة... ذكرى وفاة أمّه بدار المسنين حيث لم تجد قطرة ماء تروي بها ظمأ السنين... شعر بالأسى والندم... وأدرك أن عليه أن يرمم عيوب القصة بأكملها أو يسقط الذنوب من أصلها... ترك مكانه وقصد ركنا بزاوية الغرفة... طوى أحلامه المنتهية... وبسط سجّادة أمّه المنسية... ثم وقف في ذلك المقام يتدبّر ويفكّر... شعر أن قبلته هي في الاتجاه الخطأ... وبينما كان يتثبّت من موضع السجود، لمحت عيناه دعوة ملفوفة تحملها الملائكة وهي في طريقها إلى السماء... شعر بالدوار، ولم يتبيّن إن كانت الدعوة معه أم عليه... تغيّر طبعه، ارتجفت أطرافه، جثا على ركبتيه وأجهش بالبكاء... سمع أولاده الثلاثة في الخارج أنين السّاجد دون أن يروا دموع العابد... فأخذوا يرهفون أسماعهم ويقتربون من الباب... كان يناجي على غير عادته ويقول:  أمّاه، أنا من جالت بخاطري يوما أطماع ورغبات... وخفت على الأولاد ممّا هو آت... فقلت أبعدك عنهم للحظة أو فترة... لكن الطبع حمل العمر لسنوات... أمّاه، كلّ كلمات الكون لا تكفي لتضمِّد جراحك الدّاميات... فمعذرة غاليتي، فكلـنا أمـوات... تعجّب الأبناء ووقفوا ينظرون إلى الباب الموصد في وجههم... التفت صغيرهم وسأل: أهكذا يكون الأديب والأدب...!؟ ردّ أوسطهم: ربّما، حين يقترب المشيب وتعلو الرّتب... !أطلق كبيرهم صرخة بنبرة آمرة وقال: لا،لا، بل علينا بالمشفى، فهو من الجنون قريب أو أقـرب..!. في تلك اللحظة كانت آلة طبعه تلفظ ورقة ذكرياته الأخيرة... مدوّن عليها: أديب حاول أن يبلغ عنان السماء... ونسي أنّ الورق لا يحتمل البقاء... وأن الحبر لا يجفّ أبدا مع الشقاء.

(3)    [لمن أشكو همّي لمن...؟]
جلست تقلّب في القدر طعام العشاء، تحكي لصغيرها الوحيد عن الحياة البسيطة لأهل قريتهم الهادئة... كانت تحاول أن تعينه على نسيان ذكريات أبيه المتوفى... لترسم على وجهه لحظة فرح اختفى... رمق الصبي سلة مركونة في زاوية البيت... أجهش بالبكاء وصرخ: أبي كان يعدني بعناقيد لا تحصى ولا تُعد... وأنا الآن لم أفرح بها ولم أسعـد !؟ أحسّت الأمّ المقهورة بصدرها يكاد ينفجـر... بسرعة، أخذت السّلة واتجهت نحو الدّالية الموجودة وراء الكوخ... لما وصلت، أدركت أنّ خطبا ما قد حدث... فالأوراق شحبت... وكلّ العناقيد اختفت... جثت على ركبتيها... مَشدوهة تحَدِّق في أثر أقدام شبيهة بالحوافر... تذكّرت حكاية بلهاء وغريبة، كانت عجائز القرية يحكينها منذ زمن بعيد... فجأة، شعرت بيد قويّة تلمس كتفها الأيسر... جمّدها الرعب... وضعت يدها على قلبها والتفتت... ظهر وجه شيخ القرية وهو يدير عودا للأراك بين شفتيه، ثمل نشوان ويبتسم... دون أن تظهر جرعة ماء على وجنتيه... تقدم نحوها وقال: سمعت العناقيد تسأل عنك الغصن والفنن... بل حتى الأصنام والوثـن... فخفت عليك من الظنون... وجئت لأفـكّ عنك الشّجن ...فاعتبريني سرّك... أم يناسبك قولي في العلن؟ بُهتـت للحظة ثمّ زفرت زفرة تلو الأخرى وصاحت: لمـن أشكو همّي، لمـن؟ ألمغتصب جاء يهتك جثتي وهي في كفـن ...أم لمحتال يبيـع ستارة حزني بلا ثمـن ...لا، لا يشيخ الإفـك والبهتان... دع لإبليس ما لعـن! ... فحتّى لو بقي لي برعم يتيـم ...سأحمل همّي بين ضلوعي وسأمضي مع الزمن... فلا أبالي، إن في صدري حنين ... أوفي نهديّ لبن احتقـن ...فو الله، لن أتسربل في ثوب المذلّة والفتن ...حتّى وإن صار التسوّل عندكم مهنة كباقي المهـن !...عادت المسكينة إلى كوخ حلمها المرتهن ...ضمّت بُرعمها الصغـير فسكـن.

(4)    [حط الغراب فوق فزاعة]
حط غراب فوق فزّاعة وسط حقل شاسع، وبدأ ينظر إلى القمح وهو يتراقص مع رياح ربيع دافئ.  اقترب منه مزارع وسأل: ألم تعد تخشى من دُمية يحرّكها نسيم غادر...؟  ردّ عليه الغراب برقّة وثبات: أعتقد أنّ لدميتك ثوب ممزّق، والحكمة منذ زمن بعيد، في ذهنك لم تعلق..!. اعتدل المزارع وقـال: هكذا هي الحكاية... فهل تدرك أنّك مصدر شؤم لنا نحن بني البشر...؟  باغـته الغراب قائلا: هـات البرهان والدّليـل..! ردّ المزارع بذهول: ما أظن سوادك وشاح، ولا نعيقـك زقزقة أو صياح... شعر الغراب بالضجر، تبرّم وسما في العليـاء وقال:  يا عجب هذا الزّمن؛ مزارع تحمّلت منه العصافـير كلّ الأذى... وعلى مهابَة الصّقور كذب وافتـرى... وفي أصوات البلابل بـاع واشتـرى... فلا المطر أزال عنه الظمأ ولا ترك ثمار الأرض يقطف منها الملأ…! عجِب المزارع لقول هذا الطائـر الأّخرق... فشعـر أنّ الفزع إشاعة... وأنّ الغراب الذي علّمه يوما كيف يواري سوءة أفكاره، سيعـود حتما ليذكِّره بمعاني الخطيئة... أزال فزّاعته من تربة الحقل وأنزل بصره إلى الأسفل... نمل أسود يخرج من مسكنه، يكاد ينقلّب على ظهـره من شدّة الضحك، يمسح الدّموع ويهمس: كائن غريب وعجيب، فكم سيأخذ منه المنقار والمخلب؛ ومنه الذئب ومنه الثعلب…!؟ الفـزع في حقله لن يلبـث... لن يلبث... والسِّرب آت، آت... فليعبث في زرعه من يعبـث.. !.

(5)    [في حضرة البهاء الأزرق]
في حضرة البهاء الأزرق، وبرفقة ليل كاشف، لبست شاعرة قصائدها الشفّافة، وبدأت تبحث عن مدار يليـق بنجمها الساطع... تدثّـر غريبٌ بثوب رائد الفضاء البارع، دار مع الدّوران، تسلّل إلى فَلكها الخاص، ودوّن عبارة "أتعلمين سيدتي، أنّ مجموعتك لم تعد منشورة في شتات الكون...؟" انتبهت الشاعرة إلى طيران الغريب المطلق السّراح، باغتها إحساس مستفزّ... تذكّرت أنّها سليلة حِبـر طاهـر البوح، وأنّ حروفها مسكونة بالرّد على ما دوّنه اللوح، فقرّرت وضع خطّ الأمان لمركبتها... ثبّتت أقواس العبارة في مكانها، ثمّ ردّت: تقصد سيّدي مجموعتي الشعرية بعنوان (لم تعد)، هي منشورة في شتات الكون !؟ أنت مُحقّ طبعا... ولعلمك أيضا... (أنت وحدك) هبة من السماء... و(إليك) حملت نبض قلبي... و(معـك) احتضنت كلّ همّي... أمّا (طيف سحرك) فتاج قصائدي... فقط (من أجلك)، لم أطلع عليها أحدا... لما !؟ لست أدري... فرجاء، لا تضيّع وقتا من عمري، لقد حسمت سلفا أمري؟... أتى على الرجل حين من الضّياع... أحسّ أنّه ذاهب إلى ما وراء المدى... حاول أن يرمِّم المعنى، فسارع ليوضح قصده، شغّل السمّاعة وقال: "عفوا، وبصراحة...". قبل أن يكمل مداره وبسرعة الضوء، ردّت: أمّا (عفوا) و(بصراحة) وحتّى (لا تنخدع)... هذه ليست أبدا قصائدي سيّدي... آه، يبدو لي أنك لم تذق قَطّ رحيق قصيد معتّق... قل لي بربّك: هل أنت عربيّ شاعر بطبعك... !؟ أم فاجر مارق متصعلك...!؟.  أدرك الرّجل أنّه غوى نجما فهوى، ثبّت مِسباره في أفق استوى، انتشل قصده من قصائدها، أعدّ كبسولة النّزول وأنهى الرّحلة... هناك في الفضاء الأزرق، سُمعت ضحكات تكسّر ضلوع السماء، وصوت قوي يتردّد: لا شاعر ولا فاجر... بل هو غـاوٍ من الغاوين، احترقت بخور ظنِّه في المباخر، فلم يعد يرى لبحور الشعر لا أوّل ولا آخِـر.

 

تعليق عبر الفيس بوك