رواية "أرواح كليمنجارو":

سرد الذاكرة المفتوح على جرح غائر (3 - 4)


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات.
ثانيا ـ إعاقة يوسف تهزم جبريل:


تظهر شخصية يوسف كسابقتها؛ فهي تتسم بالتحدّي، على الرغم من أنّ هذه الصفة تبدو ألصق بنورة التي تضيف إلى تحدّيها نوعاً من المكابرة، بينما تنبع قوة شخصية يوسف من هدوئه. وإذا كان يوسف قد بدا لصديقه إميل مثل مسيح صغير، فقد بدا لنا أن اسمه يحمل الكثير من الدلالة، فقد ألقاه إخوته في بئر التجاهل، وتقاعسوا عن إنقاذه، هذا بالإضافة إلى كونه معوّقاً جسدياً؛ إذ من المعروف إلى أنه و"بغض النظر عن الخصائص الإيجابية لدى المعوّق فإنّ الأفراد العاديين ينزعون إلى الاعتقاد بأنه ليس شخصاً تاماً(1) ، وهذا ما يدفع بإميل وغيره إلى الاهتمام المبالغ فيه بيوسف، ويدفع يوسف إلى البحث عن أصدقاء آخرين. ولأنّ عسف الاحتلال لم يترك له صديقاً مخلصاً في حصاره غير البحر فقد كان طلبه الوحيد أن يكون له بيت بجانب البحر، لأنّه "أثبت مراراً أنه أكثر إخلاصاً له من أي صديق عرفه"، ص94، فقد "كان الأصدقاء يأتون ويذهبون باستثناء البحر"، ص133. ولأنّ البحر "لم يستقوِ عليه (...) لأنه برجل واحدة كما فعل أصدقاؤه حينما انفضوا من حوله"، ص151. لذلك أراد جون أن يقنعه بصداقة جبل كليمنجارو وحبه، فهو يستحق منه ذلك الحب الذي وقعت فيه الشخصيات الأخرى مثل ريما وصوول.
لقد عبّر يوسف من خلال هدوئه عن قوة شخصيته، وعن إيمانه بهدفه، وقد تجلّى ذلك دون أدنى مواربة في حديثه مع هاري الذي أراد ان يسجّل معه حواراً من أجل مشروعه الكتابي:
"ـ هل تعتقد أنك ستصل إلى القمة؟
ـ لا أسمح لنفسي أن أشك في ذلك. لن يكون هناك أي معنى للقدوم إلى هنا إن لم أصل إليها"، ص162.
ويبدو أن عدوى الهدوء أصابت ذاكرة يوسف الذي كان يقدّم في ملفوظاته مواقف هادئة ولكنها صارمة في الآن ذاته، ففي حديثه مع جون نقرأ مثلاً:
"ـ في أي ساعة تنام عادة؟
ـ التاسعة، العاشرة، ما إن يقطع الإسرائيليون عنا الكهرباء حتى أنام؛ لأحلم"، ص27.
وهو يقول له: "يدهشني أنّ هنالك في الأرض عالماً بلا حواجز عسكرية"، ص150.
إنه يدين الاحتلال الذي يقطع عنه الكهرباء، ويحاصر عالمه الجغرافي المحدود، دون أن يفقد رباطة جأشه، ودون شعارات براقة يرفعها، إنه يمثّل ذروة الإنسانية في لحظاتها الأكثر صفاء.
وإذا كانت نورة قد سجّلت انتصاراً إلكترونيا على الضابط الإسرائيلي المتعجرف، فقد تقاسم معها يوسف انتصاراً آخر على جبريل الذي يمثّل نموذجاً من نماذج رجال السلطة الفلسطينية، حيث يطلب منهما أن يضع صورتهما، وهما يتسلقان الجبل على كيس من رقائق البطاطا التي تنتجها شركته الغذائية، يقول له يوسف: "أخ جبريل، هل تعتقد أنني فعلت ما فعلته لتكون صورتي في النهاية على كيس شيبس سعره شيكل؟"، ص368. بينما تقول نورة "سأجد صورتي على أكياس الشيبس تحت أقدام الرايح والجاي (...) صعدتُ ذلك الجبل لكي يكون مكاني تحت الأقدام؟!"، ص368. حتى إنّ إميل يشاركهما هذا الموقف الذي يعدّ نصراً صغيراً يضاف إلى نصر النجاح في تسلًق القمة: "لم أكن أريد أن أتحدث قبل يوسف ونورة، لكنني أحبّ أن أقول بأنّ صورتهما ليست للبيع"، ص368.
لقد كان إميل المثقل بذكريات الحرب اللبنانية ظهيراً ليوسف مثلما كان ظهيراً للإنسان عامة، ومثلما كان ظهيراً مهيض الجناح لجورج الفلسطيني الذي حصدته تلك الحرب المجنونة: "حين وصلت الأخبار بأن ابن مختار القرية قُتل في اشتباك مع الفلسطينيين، لم يجد رجال المختار أمامهم من ينتقمون منه، وفجأة تذكروا أن جورج فلسطيني! بهدوء رجالٍ ذاهبين لتأدية أمر مقدّس سحبوا جورج من الدكان، وقبل أن يسألهم ما الذي يجري أطلقوا مئة طلقة عليه"، ص169.
هذا اللبناني الإنسان الذي يعمل نائب مدير واحدة من أكبر شركات الطاقة في الخليج (ويتلقى خبر ترقيته إلى منصب المدير وهو في طريقه نحو قمة الجبل) انتابه إحساس عميق بمجرد رؤية يوسف أنه مرآته، لذلك راح يتقرّب منه ويمازحه، ويساعده ويتقرّب منه؛ فحين كانت سوسن الجميلة بعطرها النفاذ تساعد يوسف لتساعده في لبس الحذاء أحس بالحرج، إذ لم يسبق أن اقتربت منه امرأة إلى هذا الحد، جاء ليخلصه من إحراجه: "تراجعت سوسن تاركة لإميل إكمال المهمة، لكن يوسف لم ينس ـ رغم ارتباكه ـ أن يقول لها: شكراً. وما إن ابتعدت حتى همس له إميل: أنقذتك، اعترف بهذا"، ص65. كما إنه جعل قام بغسل قدم يوسف مكتشفاً أنها "المرة الأولى التي يغسل فيها قدم إنسان، أي إنسان. وليس يدري من أين بزغت له تلك الفكرة: إنه يغسل قدم مسيح صغير، مسيح عُذِّب كثيراً، وها هو يصعد درب الجلجلة غير آبه بجراحه وآلامه"، ص287.
وفي مرحلة من مراحل الصعود التي أتعبت يوسف جعل إميل من نفسه حصاناً حين قال له مازحاً: "اليوم ستركب حصاناً إلى المطعم!  وقبل أن يسأله يوسف: أيّ حصان ذلك الذي تتحدث عنه في سفوح كليمنجارو العليا؟ انحنى إميل فزحف يوسف حتى وصله. وضعه إميل على ظهره، وانطلق به إلى المطعم في جو من البهجة أضاءت قلوب الجميع"، ص168.
وقد نجح إميل في التقرب من نورة أيضاً؛ فهي تستند إليه في تعبها، وهو يختار اللحظة المناسبة ليساعدها: "انحنى إميل، وقال لها بفرح: يا للا يا خيتي، شو عم تستني؟! حصانك وصل. ألقت بعصويها أرضاً، وقفزت فوق ظهره بفرح"، ص263.
وهكذا نجد أنّ الروائي قدّم شخصية إميل بلوازمها الفنية والنفسية التي تؤهلها للوقوف ضدّ جبريل، وضدّ عرضه باستثمار الصور التي صوّرها إميل نفسه لنورة ويوسف.
ويبدو لنا أنّ وجود جبريل في هذه الرواية، بما يحمله الاسم من دلالات في المجتمع الفلسطيني، كان ضرورياً لإضاءة جانب مهم من جوانب شخصيتي يوسف ونورة، فهو لا يمثل نفسه فقط، وهو ليس مجرد شخصية بل نموذج يمثّل المنتفعين من السلطة، المعاقين فكرياً في رحلة صعود الجبل(2)، فهو لا يستطيع أن يخدم نفسه في هذا الصعود، لا لعجز جسدي، بل لأنه اعتاد على الخدم والحشم الطارئين في حياته، بعد أن نسي ذلّ اللجوء، ويمكن للسياقات التالية أن تجلّي جانباً مهماً من شخصيته:
•    "جلس جبريل فوق صخرة وأشار إلى أحد الحمالين أن يتقدم نحوه. حين وصله مدّ له قدمه والغيتر في الوقت نفسه؛ فأدرك الحمال أن عليه مهمة تثبيت الغيتر"، ص63.
•    "التفت جبريل إلى أعلى جدار بارانكو فرآه أكثر ارتفاعاً مما هو عشر مرات، صرخ بغضب، جاء مرافقه، أمره جبريل أن يحمل الحقيبة ويتبعه. ففعل"، ص224.
•    "أخرج جبريل محفظته، وأعطى كل واحد من المرافقين عشرين دولاراً. لقد أدرك أنّ حجم الفقر الذي يرزحون تحته سيجعلهم يتسابقون لتقديم الخدمات له"، ص322.
•    اشترط أن ينام بخيمة منفردة، "ولو سمعته أمّه لهزّته من ياقته، وسألته: ولو يا جبريل، نسيت الليالي التي كنا ننام فيها كل عشرة في خيمة بعد النكبة"، ص96.
جبريل هذا يزن كل الأمور بموازين الربح والخسارة، فهو الذي يريد أن يربح دائماً المزيد من "الشيكلات"، أياً كانت الوسيلة؛ وفي رحلة صعود الجبل لا بأس أن يدفع القليل ليربح الدعاية، ولا بأس أن يتعب قليلاً ليصل إلى هدفه، وإن كان يفقد صبره في بعض الأحيان:
"هل أنا مجنون لأصعد جبلاً كهذا؟! ألم يكن أفضل لي لو أنني تبرعت بالمبلغ الذي دفعته كنفقات للرحلة لأية جمعية خيرية؟ كان يمكن أن ينشروا إعلان شكر لي في ثلاث صحف"، ص ص311ـ312. ولكن مزاجه اعتدل حين فكّر بأنه سيستعيد ما دفعه حين يطرح ماركة رقائق البطاطا الجديدة: نورة ويوسف.
ولعلّ أكثر ما أغاظ يوسف ونورة وأصدقاءهما، سعي جبريل إلى استثمار جراحهما وإعاقتهما في سوق رقائق البطاطا، كي يجني مزيداً من الأرباح لشركته. غير أنّ آخر الحكاية يأتي إلى غير صالحه حين يصدمه واقع المقاومة بأن الجراح ليست للبيع.
ثالثاً ـ غسّان: الذاكرة المهاجرة إلى قلب أروى:
غسّان الذي نبت في أرض الخليل كرمة متجذّرة في أعماقها هو اللعبة الفنية الأكثر إيهاماً ونجاحاً في الرواية، وشخصيته لا تقلّ قوة عن الشخصيتين المعاقتين الأخريين.. تأتيه د. أروى إلى الخليل؛ لتقنعه بالاشتراك في الفريق الذي سيصعد جبل كليمنجارو، ولكنه يقول لها: "ـ لا أستطيع. أنت تعرفين أننا نتناوب على حراسة البيت كي لا يستولوا عليه"، ص22. فتردّ تحسم الأمر على هذا النحو: "سآخذك معي، حتى لو كنت مضطرة إلى أن أحملك رغماً عنك"، ص33.
هذا التركيب سمح للمؤلف في لعبة فنية ذكية أن يمارس خديعة ضدّ المتلقي، وقد دعم هذه الخديعة بلغة مراوغة يكتشف المتلقي عند إعادة القراءة أنها لم تشر صراحة إلى وجود غسان، ولم تنف وجوده أيضاً، على نحو ما نجد في السياقات التالية:
•    "من رأى أروى تتوقف ظنّها أنها تحاول التقاط أنفاسها، لكنها لم تكن تفعل ذلك، فقد كانت تتأمل غسان وهو يصعد"، ص244.
•    "صحيح أنّها أرشدته، لكن ارتداء الجرابات على بساطته لم يكن سهلاً بيد واحدة، أمّا إذا تعلّق الامر بالغيتر(3) والملابس فستبدو المهمة شبه مستحيلة"، ص64.
•    "لا أشك لحظة في أن هذا الفتى قد قطع مسافات وهو يجري، أكثر مما قطع أيّ من صاعدي الجبال، حتى ريما، فقد أمضى عمره كله راكضاً بالحجارة خلف سيارات الجنود، أو راكضاً أمامها؛ ليختفي في الأزقة، ووراءه الدوريات المحمولة والراجلة تطلق النار وقنابل الدخان"، ص244.
حتى إن غسان ينام في خيمة الدكتورة أروى، أو هكذا تتخيّل، ويفصل بينهما حاجز من قماش سميك، وإمعاناً منها (ومن الكاتب طبعاً) في المراوغة فإنه حين تعود شبكة الاتصال إلى الهواتف يتصل المتسلقون مع أهاليهم، وكذلك غسان!!، حيث يبدو مشغولاً على البيت المهدد باقتحام المستوطنين: "طلبت أروى الرقم، ناولته الموبايل وابتعدت:
ـ الحمد لله. مليح. المهم طمنوني.
ـ ........
ـ مين يتطمّن على مين؟! قلتلكم، أنا مليح. المستوطنين ضايقوكو؟"، ص269.
وكان من الممكن لمتلقٍ نبيه أن يكتشف غياب غسان عن المدى التفاعلي للشخصيات الأخرى، غير أن المغامرة لا تسمح له بمثل هذا الاكتشاف، ليقف أمام جملة صادمة تتحدث عن وصول يوسف ونورة،  فيعيد قراءتها ليتأكد أنه قرأها بشكل صحيح: "أعلن وقع خطواتهما أنّ لحظات قليلة لا غير، أمامهما قبل أن يقتسما بالتساوي معجزة الصعود"، 356. وهذا الغياب أكدته أيضاً الأغنية والزغرودة:
"آ.. ويها ويا جبل كليمنجارو
آ.. ويها ويا يوسف بقى جاره
آ.. ويها ويا نورة راح توصّل
لكلّ الناس في العالم أخباره
وما إن انتهت حتى حلقت الزّغاريد مثل رفّ طيور بيضاء فوق قمّة الجبل"، ص357.
إذاً لقد كان غسّان حاضراً في وجدان د. أروى، فقد "حملته كما وعدته. حملته في قلبها"، ص375. وبعد العودة يجري بينهما الحوار التالي:
"ـ هل فكرّتِ فيّ هناك؟
ـ كل لحظة غسان، كلّ لحظة إلى درجة أنني كنت أستغرب أنهم لم يروك معي"، ص377.
من هنا فإنّ ذاكرة د. أروى قامت بدور الوسيط بين غسان والقارئ، فكأنما هاجرت هذه الذاكرة من قلبها إلى قلبه، فكانت جديرة بسردها؛ لتمارس دورها في تعرية صورة الاحتلال الصهيوني، حيث تعاني أسرة غسّان، مثل كل "الخلايلة" والفلسطينيين عسف الطغيان وظلمه، فالجنود والمستوطنون يشتركون في الجريمة الكبرى:
"في السابع من أيلول 2009 "كان الصراخ يتعالى، والنار تلتهم لحمه (...) الباب مغلق، فالمستوطنون اليهود الذين لا يفصلهم عن بيته سوى الجدار تسللوا بهدوء ليلاً أمام أعين الجنود، تتقدمهم سارة التي أشعلت الفتيل، وألقت بالزجاجة الحارقة عبر النافذة داخل الغرفة"، ص28.
في هذا الحريق تحترق أخت غسان وتموت في المشفى، وتنفجر عينه مثل بالون، بينما يتمتع المستوطنون المجرمون بحماية الجنود الذين لم يكونوا أفضل حالاً من المستوطنين، فقد قاموا أيضاً بقتل شقيقه الذي لم يشمّ رائحة الحياة إلا دقائق معدودة؛ إذ أوقفوا أمه على الحواجز العسكرية، وهي في حالة مخاض في سيارة الإسعاف، وحين يباغتها الجنين ويخرج تحاول سيارة الإسعاف العودة بها إلى البيت أمام الوضع الجديد. وعلى الرغم من أن الجنود يرونها ويرون مولودها فإنهم يخرجونها معه من السيارة للبدء بتفتيش لا يتوقف إلا بعد أن يغادر الحياة قبل أن يعيشها.
لقد كان من الطبيعي أن تحمل د. أروى في غسّان في قلبها كياناً حياً ونابضاً؛ لأنها مؤهلة نفسياً للقيام بتلك المهمة، وهي التي قررت أن تتخصص في طب العيون بعد أن رأت الكثير من عيون الأطفال التي يفقؤها الرصاص المطاطي، وعندما أخبرت أباها بذلك قال لها: "الآن أستطيع أن اقول إنّك بدأت ترين"، ص72. وعلى الرغم من أنها كانت طبيبة ناجحة في كندا، فقد أثرت فيها وفاة عمّها الشاعر في بوسطن كثيراً؛ إذ لم يخرج في جنازته سوى ستة أشخاص، تاركاً لها نسخة من ديوانه "أغاني الغريب"، فعادت إلى عمّان، فالخليل، لتشارك غسان "نظرياً" رحلة الصعود، بعد أن أدركت أن "الحجر في مطرحه قنطار"، ص69، كما يقول المثل الفلسطيني. من هنا فإن أروى لم تكن قادرة على تخيّل احتمال إخفاق غسان ورفيقيه في الرحلة؛ "إذ كانوا في عينيها منزّهين عن الخضوع لأي احتمال من هذا النوع"، ص53.
.........................
المصادر:
1)    لا تشكّل الشخصية نموذجاً إلا حين تتكرر، ويمكن الاطلاع على نماذج الشخصيات (ص ص 25 ـ 43)، وبشكل خاص على نموذج العاجز والمتواطئ (ص ص 33ـ 35) من كتابنا: د. يوسف حطيني: مكوّنات السرد في الرواية الفلسطينية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999.
2)    السيد عبد الرحيم: قضايا ومشكلات في سيكولوجية الإعاقة ورعاية المعوقين: النظرية والتطبيق، الكويت، دار القلم، 1983، ص166.
3)    "الغيتر: قطعة من القماش المقوّى العازل تثبّت في أعلى الحذاء الرياضي وتلتف بإحكام على أسفل الساق، لمنع تسرّب الماء والثلج والحجارة الصغيرة إلى داخله"، الهامش ص62.

 

تعليق عبر الفيس بوك