إضاءة نقدية في " ناهدات ديسمبر" لـ"حسن البطران"


أمين دراوشة – رام الله – فلسطين

انتشرت القصة القصيرة جدا في العالم العربي، ولم تكن المملكة السعودية استثناء، فهتم بكتابتها العديد من الكتّاب، وأقيمت لها الندوات والأمسيات.
والقاص حسن علي البطران توجه إلى كتابة القصة القصيرة جدا، وانتجت عدة مجموعات قصصية.
في مجموعته يتناول مجموعة من الموضوعات المختلفة، وأن كانت غالبية القصص تتحدث عن علاقة الرجل والمرأة، وهذا ما يشي به عنوان المجموعة، والذي يوحي بما تتضمنه القصص، مع خداع فهو لا يتحدث عن المرأة الجميلة والعذبة التي تشبع الرجل وتشاركه حياة مستقرة مطمئنة، فنحن بصدد نوعيات إشكالية فهناك المصابة بانفصام بالشخصية، والفاسدة والعانس...
المرأة المشاكسة:
في قصته "ليبرالية" يقول:
"يمشين في الطريق، ترتفع أصواتهن...
إحداهن: -صوت المرأة عورة.
مع هلال الشهر الجديد تظهر متبرجة على شاشة فضائية..؟" (حسن علي البطران. الكويت: منشورات لوقا بلس للنشر والتوزيع. ط1. 2014. ص 43)
فالمرأة التي تعاتب صديقاتها على ارتفاع أصواتهن في الطريق، وتكلمهن عن الدين، ستستغل أو فرصة لتظهر بكامل انوثتها وتبرجها على شاشة التلفاز. ابتدأ البطران قصته في درب وفي النهاية سحب القارئ إلى نهاية مختلفة، محدثا المفارقة المطلوبة في هذا النوع الأدبي.
وفي قصته "أراضٍ مقدسة لا تقبل السجود"، يقول:
"لم تظهر عليها علامات الألم...
عصافيرها تتغزل ببعضها البعض داخل قفصها الذهبي. وضعت يدها فوق هضبة مهجورة...أخذت نفسا عميقا...همست في أذن عصفورتها: إلى متى تبقى هذه الهضبات مهجورة..؟!
أشارت بيدها إلى مكان مقدس...!!". (ص 42)
تظهر المرأة هنا وهي تشعر بالاغتراب، فهي فقدت أي معنى لحياتها، فهي مهجورة ومتروكة إلا من بعض العصافير التي تربيها والتي يبدو عليها السعادة، فهي ترى نفسها بلا فائدة أو قيمة.
وحلمها بالزواج والحصول على رجل أصبح بعيد المنال، وترى من حولها في سعادة وهناء حتى العصافير، بينما هي لا تعرف النوم من التفكير في غدها التي يبدو أنه سيكون ممتلئا بالسواد والحزن والحسرة عن تحقيق مبتغاها في الحصول على متعتها الجنسية والبيولوجية في أن تخصّب، وتنجب الأولاد.
وفي قصة "ممارسات" يتطرق القاص إلى نوع جديد من النساء، يقول:
"قبيل دخول القاعة توترت...بكت، من رهبة الاختبار..
إنتفخ صدرها من ممارسات آخر الليل، درجتها النهائية نهائية في تلك المادة..!". (ص 47)
 فنحن بصدد فتاة تدرس في الجامعة، وعلى استعداد للقيام بأي شيء للنجاح. ونجح الكاتب في إحداث المفارقة ومفاجأة القارئ، فالفتاة متوترة وشرعت في البكاء، وهذا يعني أنها لم تتحضر للامتحان كما يجب، إلا أنها على ما يبدو كانت في سهرة حمراء مع استاذها الذي سيضع لها العلامة الكاملة لا نتيجة ذكائها وجهودا في الدراسة بل لبراعتها في أمور أخرى.
ولا ريب ان تناول موضوع الجنس في القصص يتيح إحداث التوتر القصصي، وشد انتباه المتلقي.
أمّا في قصته "نوع من سِكر"، يقول:
"أناديها...
أتلذذ بترديد اسمها
أعيش ثملا بهمس صوتها...هي تهتم برسومات لمجلة أطفال...!". (ص105 )
وهنا يتناول نوع آخر من النساء، وهي المرأة اللامبالية لمشاعر زوجها، فبينما هو يذوب في حبها، ويجد متعته في ترديد اسمها، نراها منشغلة عنه في رسومات موجودة في مجلة للأطفال.
في قصصه ظهرت المرأة بشكل سلبي، فهي أما خائنة، أو تبحث عن شهواتها دون رادع، أو تستغل مفاتنها لتحقيق غاياتها، والقصة الوحيدة التي عنونة باسم امرأة "سلمى" وكانت إيجابية، حيث كانت عازفة بيانو بارعة إلا أنه ينهي قصته باغتيالها، وكان المجتمع لا يقبل أن تكون المرأة مبدعة، وتتفوق على الرجل بالكثير من الأشياء، فمجتمعاتنا ما زالت ترزح تحت وطئة الأبوية.

الهم السياسي والاجتماعي:
ويتناول الكاتب في بعض قصصه الهم السياسي والاجتماعي المقيت في عالمنا العربي، وهذا ما نراه في قصة "حذر.."، يقول:
"رفع الراية
وتوحدت الأرض..
هُزت النخلة وتساقطت الرطبات..
شاخ الناس وكانت العصا
أقرب إليه من راية التوحيد...!!". (ص 46)
يحلم الإنسان العربي بالحرية والأمان، وبقدرته على الفعل الإيجابي، غير أن الأوضاع المزرية التي يرزح تحتها تشعره بالعجز والفشل، ويحس أن ما يصبو إليه يبدو مستحيلا، فيهرب إلى الأحلام، ولكنها لا تسعفه أيضا، فعصا البوليس تراقب أنفاس المواطن العربي وتحصي أحلامه، فهناك فجوة كبيرة بين ما يحلم به المواطن العربي والنتائج البائسة الظاهرة في المجتمع.
إن العقد بين المواطن والسلطة كما يقول روسو قائم على أن يتخلى المواطن عن بعض حريته للحصول على حقوقه الشخصية كاملة، والتزام السلطة السياسة بتوفير الأمن والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، غير أنه في أوطاننا تتوغل السلطة السياسية، وتتخاذل عن القيام بدورها، فيشعر المواطن بالاغتراب كون السلطة السياسية "انحرفت عن واجبها كحارس أمين ووكيل شريف وطرف في عقد حر يستمد شرعية وجوده من حسن أدائه". (نبيل أسكندر. الاغتراب وأزمة الإنسان المعاصر. الإسكندرية: منشورات دار المعارف الجامعية. ط1. 1988. ص 56) وقيامه بواجبه على الوجه الأكمل. فيشعر الإنسان العربي بالقصور الذاتي، وأنه دون قيمة أو معنى فيهرب للأحلام التي لا تسقي ولا تطعم، أو إلى الشراب والمخدرات أو الانحلال الخلقي.
وكان استخدام البطران للتناص مع القرآن الكريم موفقا، ومنح القصة الفراغات الملائمة ليعطي للمتلقي أن يمرح بخياله وراء غاية الكاتب فالرطب الندية لا تاتي من الأحلام بل من الفعل الإيجابي.
لا يتوانى الكاتب عن نقد المواطنيين الذي يسمحون للحكام بالتحكم في مصيرهم وحياتهم وهم ليسوا أهلا لذلك، ففي قصة "دولة"، يقول:
"مر بواديهم، ساروا خلفه...
أسس دستورا، أقام دولة". (ص 53)
فالمواطن العربي يظهر هنا دون ثقافة سياسية، وتبهره الشعارات الطنانة، فها هو رجل يمر بأرضهم ويغريهم بلسانه الحلو أن يسيروا خلفه، وينقادوا إليه دون تفكير أو حساب للعواقب.
يوظف القاص الجملة الفعلية "توظيفا خلاقا فهو يتابع حكايته، وينمي حركتها، فيستخدم الجملة الفعلية بشكل كثيف". (يوسف حطيني. القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق. دمشق: مطبعة اليازجي. ط1. 2004. ص83)
فبناء القصة من خلال الجملة الفعلية يجعل القاص يدخل إلى الحدث مباشرة دون مماطلة.
إن نجاح القصة القصيرة جدا، يعتمد على بدايتها المشوقة، والنهاية المغايرة لأفق القارئ.
فجملة البداية مهمة جدا في القصة القصيرة جدا "ويمكن أن نسميها جملة مسيطرة أو مشعة، تثير الانتباه أولا، وتفتح متسعا من المجال لاستكمال النصّ". (محمود عبيد الله. تحولات القصة القصيرة في تجربة محمود شقير.  عمان: منشورات دار أزمنة للنشر والتوزيع. ط1. 2014. ص 139)
في القصة القصيرة جدا التي لها عناصرها المميزة يلجأ القاص إلى التكثيف، وهو "تكثيف يستند إلى خبرة ودراية في انتخاب المفردات، دون أن يخل بالرؤى أو الشخصيات، وربما كان التكثيف هو الامتحان الأصعب للقاص الذي يُقبل على هذا النوع من الكتابة". (يوسف الحطيني. مرجع سابق. ص 80)
في قصته "نزاهة"، يقول:
"حدد معه موعداً لإنهاء قضيته.
تلوثت بالغبار على رفوف مكتبه ..
راوده
واشترى شرفه بالتنازل عن القضية!". (ص 48)
على الرغم أن القصة يبدو ظاهرها إنها تتحدث عن شخص يبيع شرفه وقضيته بالمال إلا إننا لم نعرف ظروفه الواقعية التي أجبرته على فعل ذلك، أهو الفقر أم المجتمع المتخم بالأمراض الاجتماعية؟
وفي قصة أخرى يعالج فيها الكاتب كذب المسؤولين وخداعهم، فهم عند الانتخابات تجدهم يتصفون بالكرم والشجاعة والفاعلية، وعند زيارة بلدتهم يصبحوا سخاء في إعطاء الوعود التي لا ترى النور. يقول في قصة "خيمة":
ترأس خيمة اجتماعية تحت مظلة
رسمية ..
أبناء جلدته يصفقون له من وقت لآخر ،
اتخذ قرارات ظاهرها كفتاة في عيد ميلادها
حينما يأتي وقتُ تنفيذها، تتلاطم الأمواج وينتج عنها فقاعات
فارغة .. حتى من الهواء أحياناً .(ص 38)
أن قصر القصة الناتج عن الإيجاز والتكثيف يتطلب أساليب سردية مختلفة عن السرد التقليدي الذي يمتاز بالاستغراق بالوصف والإسهاب، أما في حالة القصر فأنه "لا بد من عملية تكثيف تشبه الانتقال من الرسم الواقعي إلى الرسم التجريدي الذي يحذف التفاصيل، ويقتصر على خطوط وظلال وألوان، توحي بالتفاصيل ولا تدقق فيها أو تقدمها بدقة واكتمال". (محمود عبيد الله. مرجع سابق.ص 123)
وهذا ما أفلح فيه الكاتب في الكثير من قصص المجموعة.
ولما كانت الحكائية من عناصر القصة التي لا غنى عنها، فأن الكاتب أخفق في بعضه نصوصه، حيث لم ترتق لتكون قصة قصيرة جدا، وكمثال على ذلك، قوله في نصه "تذكر":
"أتذكرها...
وأحن إلى الخبز الذي أكلت منه العصفورة". (ص 34)
وكذلك "خيانة مبطنة":
"ابتسم..غادرت المكان". (ص 82) فأننا هنا بصدد خاطرة جميلة، أو ومضة خالية من الحكائية.
في النهاية، فأن القاص حسن البطران كاتب وفيّ للقصة القصيرة جدا، ويثابر على كتابتها، وبعد أن فرض نفسه على الساحة الثقافية السعودية، يحاول أن يترك بصمته على الساحة الثقافية العربية، وهو إلى أحلامه أقرب.
 

 

تعليق عبر الفيس بوك