د. صالح الفهدي
نشأنا على المعنى اليتيم لعبارة "غرد خارج السرب" ويقصد به الخروج عن الإجماع، والشذوذ عن القاعدة، والانفراد بالرأي، ومخالفة القياس وغير ذلك؛ الأمر الذي كان له أثر إيجابي وآخر سلبي؛ أما الإيجابي فمعروف أنَّ في وِحدة الجماعة قوَّة، وفي التضامن والتعاضد بأس وصلابة، في حين أن الأثر السلبي هو التبعيَّة العمياء لكل رأي، والاتكالية على الآخر، وتعطيل العقل، وتقوية العصبية، على مِنوال قول دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت...
غويت وإن ترشد غزية أرشد!
والحاصلُ أنَّه إن كان للأثر الإيجابي فاعليته؛ فللأثر السلبي فاعليته أيضاً كما أوضحنا، حتى أصبح كل صاحب رأي لا يجُرؤ على قوله -وفق منطق وحجة وليس لهوًى وشطط- لأنه سيتهم بالتغريد خارج السرب!! وإن كان لإنسان ما مبدأ معين في حياته يخالف به ما قومه فيما ورثوه من تقاليد بالية، أو أفهام لا تنسجم مع روح العصر، فإنه في نظرهم "يغرد خارج السرب"..! وإن كان لدولة من الدول موقف أو مبدأ إزاء حالة سياسية، أو أزمة ناشئة فخرجت بموقفها ذاك عن "السرب" تشبثاً بقناعتها المبنية على مبدأ موضوعي راسخ، اتُّهمت بأنها "تغرد خارج السرب"..! وعلى ذلك فإن عبارة "التغريد خارج السرب" هي عبارة مضللة للعقول، مقيدة للإبداعات، مُكبِّلة للقناعات، مُعِيقة للمبادئ، وعلينا أن نصححها وفق ما يلزمنا به منطق القول، وحكمة البصيرة.
فإنْ كان الفرد توَّاقاً إلى التغيير في نمط حياته الاجتماعية، وأراد أن يكون له نمطُه المتفرِّد الذي يوازن فيه بين واجباته الاجتماعية، والأسرية والنفسية، مُنظِّماً للالتزامات الاجتماعية المرهقة، غير المتوازنة، التي أضرت جوانب أخرى في حياته كواجبه إزاء أسرته، أو نفسه فأقول له "غرد خارج السرب"؛ فالتغريد خارج السرب تغيير لأية عادة معيقة للنمو والتطوُّر.
وإنْ كان صاحب مَبدأ يستند إلى حجته، وقناعاته مخالفاً جماعته في فكر أو رأي توارثوه دون مراجعة، ولا تقييم، وحسبهم من ذلك أنهم رأوا آبائهم على قناعة أو عادة أو فكر فساروا سيرهم العاطفي فيه "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (الزُّخرف:22)، ولا يرون من يخرج عن خطهم هذا إلا شاذاً، أو شاقاً لعصا الطاعة، فإنني أقول له "غرد خارج السرب"؛ فإنَّ التغريد خارج السرب هو تجديد فكر، وارتياد فضاءات حُبلى بفرص التغيير.
وإنْ كانت دولة قد رأتْ أنَّ السرب يقودها لعواقب وخيمة، أو لطريق مجهول بسبب تعنُّت فكر، أو انفعال عواطف، أو غياب حكمة، أو عطل بصيرة، فإنني أقول "غرِّدي خارج السرب" لأن في التغريد خارج سرب كهذا حفاظًا على مبدأ، وبقاءً على عهد، ورسوخًا على قناعة.
فما السرب إلا أحد اثنين: إما سرب عقل، أو سرب جهل.. أما الأول فهو السرب الذي يعمل البصيرة، والآخر يعميها، الأول يعين على التفكر والآخر يحرمه، الأول يشجع على الإبداع والآخر يقمعه، الأول يؤمن بالحرية والآخر يكبحها، الأول يحفز على التعلم والآخر يحض على التبعية!
وماذا فعل الأنبياء، وعلى رأسهم أبوهم إبراهيم عليه السلام، غير التغريد خارج السرب، فقد ولد في قوم يعبدون الأصنام، فرأوه مغرداً خارج سربهم بظلمه لنفسه حين حطم الأصنام "قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين" (الأنبياء:59)..!! وكل العلماء والمفكرين والفنانين والأدباء والمخترعين هم مغردون خارج السرب!
هل كان العالم سيتقدم خطوةً لولا أنْ قرَّر أحد ما أن يغرد خارج السرب في فضاء التجديد الفكري، وإطلاق خياله خارج الصندوق المتوارث؟! حتى إنه لا يمكن إحصاء أعداد الذين غردوا خارج السرب من أجل تطوير الفكر الإنساني، وأسلوب الحياة، ولو استكانوا للسرب في غثه وسمينه لماتوا دون أن يكون لهم أثر، ودفنت معهم في المقابر أشواقهم وتطلعاتهم.
ثم إنَّه من قال إنَّ الأغلبية "السرب" تملك الصوابَ دائماً، فالحق سبحانه وتعالى يقول: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون" (الأنعام:116)، ويقول لنبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" (يوسف:103).
على أننا نقول إن هناك ثوابت لا يعد التغريد خارج السرب فيها منقبة ومزية وإنما غواية وضلالة، والثوابت هي في نظري ثلاثة: العقيدة الإيمانية، والفطرة الإنسانية، والقوانين الوضعية. فكل ما وافق هذه الثوابت الثلاث من سلوك أو أخلاق أو تصور أو أفكار تواردت في منهجية إيجابية ترمي إلى الإصلاح والتطوير واستشراف عوالم أفضل فإن التغريد فيها مشروع، أما إن كان التغريد خارج السرب لانتهاك أخلاقيات سامية، أو تجاوز قوانين منظمة، أو التطاول على إيمانيات راسخة فذلك ضرب من السخافة والجهل، وصنف من الرعونة والغباوة!
إننا نتحدث في هذا المقام عن حفز العقل، وتشجيع الإبداع، ودفع البصيرة، وتحريك الخيال نحو دروب من الجدة والحداثة تؤتي نتائج أفضل للواقع المعاش من الحاضر. ولسنا نفعل ذلك إلا لإدراكنا بأن أقواماً فينا تبغض التفكير، وتكره الإبداع، وتمقت التجديد، وتحب في المقابل التسلط، والتجهييل، كل همها أن يبقى القديم قديماً بحجة أن القديم هو الأصيل وأن كل ما يليه هو بدعة وضلالة! حتى إنني كنت أسمع أحدهم وهو دائم الترديد لهذين البيتين:
من تردى برداء..
ما رآه لأبيه
سوف يأتيه زمان..
يتمنى الموت فيه
ومع أن هذه الأبيات تعني الأخلاق وهي صادقة، إلا أنَّ مُردِّدها صار يلقيها على كل شيء يراه مستحدثاً في الجيل الجديد، معبراً عن سخطه وتذمره لغث أو سمين..!. وأعلم أن البعض يريد أن يبقي كل عادة مهما كان فيها من السوء، أو يصون كل فكرة مهما شابها من التحريف والاعوجاج، فإن تسنم مصلحٌ منبرَ إصلاح أنكر عليه إصلاحه، واطلق عليه تهمة "التغريد خارج السرب"، وإن طالب أحد بمراجعة المسلمات سارع إلى تسخيفه واتهامه بذات التهمة.
وإن خرج أحد بفكرة حديثة يريد بها التحديث في حياة الناس، وتغيير واقعهم اتهموه بالتغريد خارج السرب من خلال وصفهم فكرته بالبدعة، دون أن يفندوا هم أنفسهم تفنيداً عقليًّا معنى البدعة..! حتى مورس الحجر على الفكر، والوصاية على العقل فقل بين الناس من "يغرد خارج السرب" حتى لا تلقى عليه هذه التهمة الجاهزة.
إننا بحاجة إلى أن "نغرد خارج السرب" إيجاباً لا سلباً في إبداع أفكار، وتغيير عادات، واستبدال مفاهيم، وتبني رؤىً وتصورات تصب جميعها في مصلحة مجتمعاتنا، وأوطاننا، وأنفسنا، بل والإنسانية جمعاء.
نعم، نغرِّد خارج السرب من أجل كل ما يدفعنا لصنع مستقبل عظيم، ونهج درب مستنير، شريطة أن لا نعتدي على الثوابت الكبرى التي تخرجنا من النور إلى الظلمات -معاذ الله- فنصبح من الخاسرين أو نكون -لا قدر الله- من الأخسرين أعمالا "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا" (الكهف:104)؛ الأمر الذي يعني أن التغريد خارج السرب لا يتأتى لجاهل، ولأحمق ولطائش وإنما لمن عرف منهجه، واستبان طريقه، وأدرك عواقبه.