حاتم الطائي
◄ ثقافة العمل في الصين تتسم بقدر عالٍ من الانضباط والمسؤولية
◄ نطرح مبادرة لعقد "منتدى الشراكة العمانية الصينية" لدعم جهود تطبيق بنود الشراكة الإستراتيجية
ثراءٌ حضاريٌّ وازدهارٌ اقتصادي يتجلَّى في كل مكان.. هذا هو الانطباع الذي يُمكن لزائر الصِّين أن يلمسه أينما حلَّ أو ارتحل في هذه الدولة القارة؛ ثراءٌ يعكسُ حضارات عظيمة مُتعاقبة، تركتْ أثرها البالغ في الثقافة والعمل لدى الصِّينيين الآن، حضارة تبرُز في شتى تفاصيل الحياة: في المباني الشاهقة، والبيوت التقليدية أيضا، ويتناغُم ذلك مع الحسِّ العالي بالمسؤولية لدى المواطن الصيني، ودرجة الانضباط والالتزام التي يعمل بها الجميع، في تناسقٍ مُدهش، لكنَّ المتأمل عن قُرب يرى ترجمةً للحكمة الصينية القائلة: "بناء الإنسان هو أعظم الإنجازات؛ فتشييد المباني وزراعة الأشجار قد يكون سهلاً نسبيًّا أمام تربية المواطن الصالح"!
هذه هي الفلسفة الصِّينية في بناء الحضارة.. نهجٌ رائدٌ، وفكرٌ مُتزن، أخرج أعظم الفلاسفة والحكماء، الذين صَاغوا قواعد حاكمة للحياة، قوامها العمل والاجتهاد، وأساسها الإخلاص والمسؤولية.
ولقد كان لي شَرف المشاركة في الاحتفال في بكين بمرور 40 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين السلطنة والصين، وهو الحفل الذي نظَّمته وزارة الإعلام، وبحضور معالي الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام، والوفد المرافق، وكَم كان مُميزا حُسن الاستقبال، والحفاوة التي لقيناها من الجانب الصيني، المُؤمن بدور الحضارات في المسيرة الإنسانية، والمُدرك للقيمة الرفيعة للحضارة العُمانية التي تمتد في عُمق التاريخ لقرون خَلت.
الاحتفالُ الرسميُّ بهذه المناسبة بالغة الأهمية، شَهِد توقيع وزارة الإعلام ومكتب المعلومات بمجلس الدولة الصِّيني، اتفاقية تعاون في مجال التبادل الإعلامي، والتي من شأنها أن تعزز التعاون الإعلامي وتُصقل مهارات المنتسبين للإعلام، فضلًا عن تبادل الخبرات في مجال التخطيط الإعلامي، وتبادل الأخبار والمحتوى... وغيرها من البنود المهمة. المميَّز في هذه الاتفاقية أنَّها تقوي أواصر التعاون بين البلدين في الجوانب الثقافية، بالتوازي مع الجوانب الاقتصادية التي تُهيمن على طبيعة العلاقات.
فعالية ثانية أُقيمت بهذه المناسبة، تمثَّلت في تَدْشين النصب التذكاري للسفينة صحار في مدينة جوانزو، بحُضور كبار المسؤولين الصينيين. والموقع الذي أقيمت فيه الفعالية حَمل العديد من الدلالات؛ فعلى ضِفاف نهر اللؤلؤ -الذي يشقُّ مدينة جوانزو التاريخية- أُزيح الستار عن النصب التذكاري، وهو الموقع ذاته الذي شَهِد وصول البحَّارة والتجار العُمانيين قبل أكثر من ألفيْ عام، فيما دُقت طُبول الكاسر والرحماني، لتملأ المكان بهجةً وفرحًا، وتصدح بأناشيد البحارة التي تغنُّوا بها قبل 20 قرناً من الزمان.
انتابتني قُشعريرةُ الزَّهو والفخر خلال هذه الاحتفالات، وأنا استعيدُ تاريخنَا المشترك مع الصين؛ فطافتْ في مُخيلتِي صورة التاجر العُماني أبي عبيدة عبدالله بن القاسم، وهو يُقدم أوراقَه في بلاط الإمبراطور الصيني في القرن الثاني الهجري؛ ليحظى بالاحترام والتقدير مُمثِّلا لكل العرب، الذي أبحرُوا نحو الساحل الصيني، مُستهدفين التجارةَ مع أحد أبرز دول العالم القديم.. إنَّه المجدُ العُماني بعينه، الذي وعد جلالة السلطان المعظم -أبقَاه الله- في خطابِه الأول باستعادته، وقد وَعد فأوفى.
أبحرتُ بعيدا مع الفنون البحرية التي عبَّقت موقعَ الاحتفال بمَشاعر الفرح والفخر، حتى وصلتُ بذاكرتِي إلى أسيادِ البحار الذين استطاعُوا الوصول إلى أقاصي العالم، تسبقهُم تلك الصُّورة الإيجابية العظيمة بأنهم شعبٌ مُحبٌّ للسلام، يضعُه مبدأً يسيُر على هُداه على مدى تاريخهم العريق؛ فلا إنجازات ما لم يتحقَّق السلام، ورغم أنَّ السلام هي تحية الإسلام، إلا أنَّنا لا نزال في حاجة ماسة إليه في هذا العالم المضطرب.
التَّنظيم الرائع والمُحْكَم للفعاليات يفرضُ عليَّ أن أتقدم بالشكر الجزيل والتقدير إلى سعادة الشيخ عبدالله بن صالح السعدي سفيرنا في بِكين، وكذلك فريق العمل وطاقَم السِّفارة العُمانية في بكين؛ على ما قدَّموه من جهود مُقدَّرة لإنجاح هذه الاحتفالية، لكي تَظهر بالشكل المرموق، وتحقق الأهدافَ المرسومة لها، ولتكون حقًّا فصلاً مُهمًّا في تاريخ العلاقات العُمانية-الصينية، والشكرُ موصول أيضًا لكل من أسهم ودعم نجاح هذه الاحتفالية.
... إنَّنا ونحن نحتفلُ بهذه الذكرى المُميَّزة، نسلط الضوءَ كذلك على إعلان السلطنة والصين قبل أشهر قليلة بيانَ الشراكة الإستراتيجية بين البلديْن، والتي تُمثِّل رؤيةً بعيدةَ المدى لشكل وطبيعة العلاقات الثنائية، بما يُلبِّي تطلعات القيادتيْن العُمانية والصينية، وبما يحقق مصالح الشعبين الصديقين، وهو ما تجلى بقوَّة في أحد عشر بندًا تُمثل جوهرَ هذه الشراكة؛ بدءًا بتعزيزِ التشاور بين قيادتيْ البلديْن لتعميقِ الثقة السياسية المتبادلة، والتأكيد على مَبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية، مُرُورا بالتعاون الوثيق في مشروع "الحزام والطريق"، ودَوْر السلطنة كشريك في هذه المبادرة الرائدة؛ بما يدعمُ خطط التنمية والنمو الاقتصادي. كما أنَّ تأكيد البنديْن الخامس والسادس على تَوسيع التعاون الاقتصادي -من خلال تطوير القطاعات الواعدة- يُبَرهن حجمَ التطوُّر الشامل للعلاقات الاقتصادية الثنائية.
وهذا يقُودنا إلى الدَّعوة لوضع آليات لتطوير هذه العلاقات، وترجمة بُنود هذه الشراكة، والاستفادة من الاستثمارات المشتركة -مثل: المنطقة الصناعية الصينية في الدقم- وإبرام مزيدٍ من اتفاقيات ومذكرات التفاهم والتعاون، وتعظيم التعاون في الجوانب الثقافية والتعليمية، وألا يتوقف الأمر عند حدود التعاون الاقتصادي، مع التأكيد على أنَّه العمود الفقري للعلاقات الثنائية. وهُنا؛ يأتي دور القطاع الخاص -وعلى رأسه غرفتيْ التجارة والصناعة في عُمان والصين- لجذب الاستثمارات، وعقد الشراكات التجارية، والاستفادة من التسهيلات والمزايا الاستثمارية المقدَّمة في كلا البلدين، وألا نكُون فقط مُستورِدين من الصين؛ إذ يتعيَّن على تُجَّارنا أن يسعَوْا لاستقطاب الصناعات المتطوِّرة من الصين والعمل على توطينها في عُمان، لاسيما في المناطق الحرة والاقتصادية التي توفِّر امتيازات وإعفاءات عدة.
جانبٌ آخر لا يقلُّ أهمية عن التعاون الاقتصادي، وهو العمل على زيادة التبادل السياحي، والاستفادة من الأفواج السياحية العُمانية التي تزور الصين، والصينية التي تزور عُمان، وهنا فرصة مُواتية للطيران العُماني لأن يُعزِّز من رحلاته إلى الصِّين. ومع اقتراب موسم الشتاء الفريد في عُمان، أظنُّ أن الكُرة الآن في مَلعب الشركات السياحية لتقديم برامج جاذِبة، لاسيما وأنَّ السلطنة أعفت السياح الصينيين من تأشيرة الدخول؛ حيث يُمكنهم الحُصول عليها من المطار لدى وصولهم.. لكن هذا ليس كافيًا؛ لذا أدعو القطاع الخاص مُجدَّدا لأخذ زِمام المبادرة، وأن يُقدِّم مزيدًا من المزايا للسائح الصيني؛ مثل: توفير مطاعم صينية، ودليل سياحي باللغة الصينية، فضلًا عن وضع خطة تسويقية تستهدف زيادة أعداد السياح الصينيين.
وكمُبَادرة من جريدة "الرُّؤية" -ضمن نهج "إعلام المبادرات"- فإننا نقترحُ عَقد "مُنتدى الشراكة العُمانية الصينية"؛ ليكون منصَّة لطرح أفكار تُسهم في تطوير التعاون المشترك، وتوثيق عُرَى التعاون، والعمل جنبًا إلى جنب مع الحكومة في تطبيق بنود الشراكة الإستراتيجية؛ تحقيقا لمصالح البلديْن والشعبيْن.
إننا إذ نَطرحُ هذه المقترحات، لنأمل أنْ تُسهم في دعم مسيرة التعاون وتطوير العَلاقات التاريخية، والدَّفع بها نحو آفاق أرحب، تكفُل تحقيقَ رُؤى القيادتين العُمانية والصينية.