حاتم الطائي
هذه هي المرة الثانية في أقل من شهرين التي أكتب فيها عن الإعلام الرقمي أو الإعلام الجديد -أيهما أبلغ تعبيرا عن ماهيته- في المرة الأولى وقبل أسابيع قليلة، تناولتُ في هذه المساحة الفوارق بين الإعلام الرقمي (الجديد) والإعلام التقليدي (القديم)، وأبرزتُ مساحات التلاقي كذلك بينهما، ودور الثورة الصناعية الرابعة في ازدهار الإعلام الرقمي وتطور أدواته.
بَيْد أنَّه يتضح تدريجيًّا مدى التطور المتسارع الذي يواكب الإعلام الرقمي، وإمكانية الاستفادة منه في تطوير منظومة الإعلام بشكل عام، وبصفة خاصة الصحافة الورقية التي تُعاني منذ سنوات من مشكلات عديدة، تبدأ من تغيُّر عادات القراءة بالنسبة للنسخ الورقية لحساب القراءة الإلكترونية للمحتوى الرقمي؛ سواء الإخباري أو الترفيهي، مرورا بالأوضاع الاقتصادية العامة التي تؤثر على مختلف القطاعات ومنها الإعلام، وليس انتهاءً بانخفاض المردود الإعلاني.
مثل هذا التطور يستدعي في المقام الأول تعريف الإطار المهني للإعلام الرقمي، وصياغته بطريقة تساعدنا على إضاءة العديد من مصابيح المعرفة اللازمة لتوضيح الآليات التي تسيطر على الإعلام الرقمي؛ فالكثير من مواقع الإنترنت ووسائل الإعلام في هذا الفضاء الإسفيري، تمارس عملها دون ضوابط محددة لنشاطها أو قواعد تسهّل آلية هذه الممارسة، فكَمْ من موقع إلكتروني يبُث وينشر الأخبار والتقارير والمحتوى الترفيهي بشكل عام دون أية ضوابط؟! حتى إن كثيرا منهم ينقل عن الآخرين دون تدقيق أو تمحيص لحقيقة ما ينشره، فتجد الأخبار المزيفة تنتشر انتشار النار في الهشيم، وتصل إلى الجميع عبر وصلات/روابط على الواتساب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.
الإضاءة الأولى تتمثل في ضرورة فرز وتصنيف وسائل الإعلام على الإنترنت؛ فليس كل موقع ينشر أخبارا يُمكن تسميته بأنه من وسائل الإعلام الرقمي، وهنا لابد أن نميِّز بين وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فالأولى يعمل بها مختصون ملتزمون بمعايير مهنية متعددة، فيما أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست جزءا من المنظومة الإعلامية، حتى وإن استخدمتها وسائل الإعلام من أجل نشر الأخبار وتناقلها. وهناك مواقع إلكترونية لا تستهدف إعلام القارئ بالخبر اليقين، أو تزويده بالتقرير الإخباري الذي يقدم تحليلا وقيمة مضافة للقارئ، بل إن الكثير منها لا همَّ له سوى مضاعفة أعداد متابعيه، حتى ولو بنشر القصص المكذوبة المليئة بالدجل والاحتيال في كثير من الأحيان، وهنا يختلط الحابل بالنابل، فلا يستطيع القارئ أن يميز بين وسيلة إعلامية رصينة تتبع أسسًا مهنية في صياغة ونشر الأخبار، وبين موقع إلكتروني يعيث فسادا وإفسادا في هذا الفضاء الشاسع، فتارة ينشر ما يسميها تقارير إخبارية، وتارة ينشر ما نسميه موضوعات تتخذ من الصحافة طابعا فيما يتعلق بالسرد، لكنها بعيدة كل البعد عن أدبيات الصحافة ودقتها وموضوعيتها التي يتعين أن تكون عليها.
إذن؛ نحن الآن أمام معضلة كبرى، تدفع القارئ نفسه إلى حالة من التيه وفقدان البوصلة، فيكون قراره النهائي أن يهجر العادة الحميدة بتصفح الأخبار والاطلاع على أي محتوى إعلامي، والبحث واللجوء للإثارة والسبق فقط لا غير.
الإضاءة الثانية ترتبط ارتباطًا وثيقا بما سبق ذكره، ألا وهي حاجتنا إلى تشريع ينظم آلية النشر ويضع لها الضوابط المؤسِسة لمنهجية مهنية للنشر على الإنترنت، وهنا أعرّج على التوصيات التي تمخضت عن "منتدى الإعلام الجديد والعصر الرقمي" الذي نظمته جريدة "الرؤية" الشهر الماضي، وكان في مقدمتها التوصية بسن تشريعات منظمة للإعلام الرقمي، ووضع الضوابط المهنية اللازمة لممارسة الإعلام ونشره رقميا.. ولقد سبقتنا دول عدة في ذلك الاتجاه. وهنا تنقسم الآراء إلى فريقين؛ الأول يرى أن تبقى الحال كما هي عليه؛ باعتبار أن الوضع الراهن أرحب وأفضل ويدعم مسيرة الإعلام وتطورها، دون قيود قانونية أو ملاحقات قضائية قد تطال العاملين في وسائل الإعلام الرقمي. أما الفريق الثاني، فيرى أن عملية التنظيم بشكل عام في أي قطاع تصب في صالحه، حتى ولو بدا للبعض أن تقييدا قد يقع على ممارسي هذا العمل، غير أن الحقيقة على النقيض من ذلك.. ولنضرب مثالا على ذلك إجلاءً للصورة: لنفترض أن صحفيا نشر مادة إعلامية على موقع صحيفة إلكترونية، لا ترخيص لها سوى أنها موقع إلكتروني، وحتى هذا الوصف لا يتطلب أي ترخيص من أي جهة، ثم نشر ذلك الصحفي مادة إعلامية تبين عدم دقتها، لأي سبب، أو تعجَّل في نشر نبأ بحجة "السبق الصحفي" ولم يتقين منه.. هنا إذا ما قررت جهة (اعتبارية أو حقيقية) أن تقاضي الصحفي فسيعاقب أمام القضاء وفق القانون الجنائي وقانون تقنية المعلومات، فيما أنه لو تمت صياغة قانون للإعلام الرقمي؛ فالأمر سيتبدل، وسيتم التعامل مع الخطأ باعتباره ليس جريمة جنائية، بل هو خطأ مهني يستوجب المحاسبة وليس العقاب، مثل الغرامة أو نشر اعتذار وتوضيح، أو إيقاف الصحفي عن ممارسة العمل لفترة محددة، ثم يستأنف العمل بعدها، أو حتى عقوبات إدارية داخل المؤسسة الإعلامية ذاتها.
ويبقى القول.. إن التحديات التي تواجه الإعلام الرقمي لم تتضح بالكامل حتى الآن؛ إذ لا يزال في مرحلة التكوين، والعاملون في هذا الإعلام لم ينفكوا يتحسسون طريقهم، ولا تزال مصادر التمويل شحيحة لأسباب عديدة نفرد لها مقالا آخر، غير أن البدء بالجانب القانوني سيكون المقدمة لجملة من التطورات من شأنها أن تصب في صالح الإعلام الرقمي وازدهاره.