حتى نتبين الخيط الأبيض من الأسود

د. سعيد الحارثي *

 

رغم إدراكنا لواقع الحال، إلا أنه لا يمكننا في مطلق الظروف أن نستسيغ فكرة أن جميع الملفات سوف ينسحب عليها وسم "مراوحة المكان". إذ غالباً ما سيرفع ذلك لدى الشارع من مستوى الأدرينالين أو ما يسمى بهرمون الكر والفر. ففي شأن الحقائق التي تقف وراء العديد من الملفات العامة، نجد أنه من الإجحاف بمكان أن تتباطأ الخطوات بشأنها بعد أن تنطلق بشكل متسارع، لدرجة أن الأمل يقطع معها أميالاً من الإيجابية والتفاؤل. وما إن يتداخل الأبيض بالأسود على المترقب الداخلي "المستهلك" أو الخارجي "المستثمر"!!، حتى يكشر اليأس عن أنيابه، خاصة عندما يصعب التكهن بمستجدات تلك الملفات، وتميع حولها المعلومات، وتعجز المراحل المتقدمة أن تعطي الإجابة الصريحة عن السؤال البديهي " وماذا بعد؟".

لقد كان الاستبشار بالمشروع الوطني "تنفيذ" سيد الفترة حينما ظَهَر لنا ذلك الشعار جليًّا بما قدمه من خطط بديلة للتنوع الاقتصادي وتحسين مصادر الدخل، من شأنها انتشال الموازنة العامة للدولة من أزمتها وتقوية دعامتها المتمثلة في النفط كمصدر رئيسي ووحيد نسبيًّا بدعامات أكثر استدامة وأقل استنزافاً للثروات الطبيعية.

إنَّ أهمية برنامج "تنفيذ" تبدأ من حيث أوجد الكثير من الارتياح لذلك المسار السليم والحديث والراقي في تجسيده للشراكة بين المواطن والدولة، ذلك حينما تم عمليًّا اعتبار واختبار الشباب العماني كأحد روافد التخطيط، مع رسم الأمل في تعزيز دوره ليمثل خط رئيس، إن صح التعبير، من خطوط التشغيل والإنتاج في تلكم المشاريع العملاقة التي أمست متحققة وثائقياً، على الأقل، كنتيجة لكمّ العمليات التخطيطية التي تم اتباعها من أجل إرساء السياسات والإجراءات الضامنة لنجاح "تنفيذ". لقد نجحت فعلياً تلك الممارسة التخطيطية التي اعتمدت، وبمهنية رائعة، مختبرات العمل وما صاحبها من لقاءات تمت مع مجمل الأطياف الممثلة للمؤسسات والمجتمع والأفراد. ولا تغيب عن الذهن تلك الاحترافية في تقييم مراحل الإنجاز التي انسحبت على كل خطوات العمل على برنامج "تنفيذ" بما فيها مشاريع القوانين ولوائح العمل المستحدثة والمعدلة.

والحق يقال إنَّ المجلس الأعلى للتخطيط والأمانة العامة له، قد قدما أنموذجاً تخطيطيًّا وتنظيميًّا وعمليًّا رائعًا للكثير من الخطوات الرائدة. وقد أحدث العلامة الفارقة وفتح الآفاق لمرحلة فكرية في الإدارة والتخطيط أكثر تجدداً وانطلاقاً. مرحلة تبعث على الاطمئنان على حميمية الشراكة مع المواطن، على ذات النهج الذي اعتمده في البناء سلطان البلاد -حفظه الله- كما تؤصل لتجربة مؤسسية ديمقراطية بامتياز.

ولذلك كله، لا يمكن بأي حال أن يخفت وهج تلك الشعلة التي أوقد جذوتها الشباب العماني الذي يتقد صفواً وإخلاصا. كيف وقد علّق عليها آماله ونذر لها وقته ومواطنته، ولا يزال. ويجدر الخبر بما يخفيه الأثر، بأن "تنفيذ" ليس بالمشروع الذي ينبغي الغفلة عنه إطلاقاً. وليس "تنفيذ" بالسقيا التي يُحتفى بنشوة ثمارها الآنية. ولا بالمحفل الذي ينتهي بكلمة الختام. بل إن "تنفيذ" يعد بمثابة البذرة السليمة التي قدمت أسلوبا مبتكرا للتخطيط الإستراتيجي المتمحور حول المواطن، والذي تتطلبه الحالة والمرحلة وحاجة المستقبل البعيد، وإن المحافظة عليه كمنجز، ليس من أجل تحقيق توسعاً مضطرداً في التنمية وحسب، بل ومن أجل المحافظة على الثوابت والمنجزات التي تحققت خلال قرابة خمسة عقود من البناء.

وستتحقق قيمة "تنفيذ" الحقيقية كمنهج عمل باستدامة تقييم مراحله، وبتجديد الشراكة والتبادل المعلوماتي عنه مع فئات المجتمع، وبتبني القالب الإعلامي المناسب والمستدام، وبشفافية ووضوح محطاته وما يعتريها من نجاح أو معوقات أو فشل على السواء، بما في ذلك المخاطر بمفهومها الاقتصادي والتي قد يتعرض لها، فالتجربة كانت في مختبر عام أسمه عُمان، والدروس المستفادة تبقى حق للجميع بالقدر الذي يُلزم نتائجها الجميع.

وإلا.. فماذا سنعلِّم أبناءنا إن لم نتصارح معهم حول "وماذا بعد؟"، وما هو عهد الثقة الذي بيننا وبينهم إن لم نثابر على تكرار تبادل يد العون معهم، وفي الختام فإن الروح التي حملها برنامج "تنفيذ" بين جنباته هي -على مستوى بناء الإنسان- أسمى بكثير من النتائج المادية المرتقبة، وما التوفيق إلا بالله.

sokoon05@hotmail.com

* باحث وكاتب عماني

تعليق عبر الفيس بوك