البيروقراطية المقيتة .. وصناعة الخبراء

 

 

د. سعيد بن سالم بن حمد الحارثي

باحث وكاتب عماني

sokoon05@hotmail.com

مساران لن يلتقيا، إذ الأول أمره موضوع، وأما الثاني فمرفوع. يقبع الأول على صفيح الأنانية ويضفي الثاني روح المشاركة.

منذ أن دخلت مؤسسات الدولة مرحلة الأنين مما تجده من عسر المخاض، الذي طالت مدته وتاهت معها مؤشرات التكهن بعهد ولادة مرحلة مشرقة يُرجى منها أن تسوق بشائر الحنو والرأفة بشباب هذا الوطن، زادت المسافة اتساعاً بين معاول البناء التي حجّمها بطء التدبير في باحث عمل ينتظر ومشتغل يحتضر، وبين متخذي قرار التجديد.

أقول، ما أن بدأ الأنين حتى انقسم القائمون على هياكل العمل بمؤسسات الدولة إلى فريقين، فريق حرّكه الشعور بالألم الذي عصف بالدولة ومؤسساتها ومجتمعها المدني، فإذا به يتكئ على حنكته وخبرته وجرأته، كل من موقعه، ليصف الدواء ويراقب الشفاء، وإن لم تضفِ الحيلة كمالاً، إلا أنَّ هذا الفريق أبى إلا تخفيف وطأة الأزمة، فظهر من المبادرات ما كان من شأنه تعزيز صمود الدولة في مواضع كثيرة لتفي بالتزاماتها تجاه مواطنيها ومتطلباتهم في عموم الخدمات، وتحقق بذلك، ولا يزال، استمرار البناء وضمان تدفق المياه في سواقيها، ولله الحمد.

وبالرغم من قسوة الدرس وقساوة المُمارسة، إلا أنه ظهر على خارطة العمل المؤسسي، من المتنفذين، فريق يعمل على النقيض. يستميتُ في الدفاع عن مبدأ أن الأمر لا ناقة له فيه ولا جمل، كما ولو أنَّ نرجسيته الزائفة هي خط أحمر لا ينبغي الاقتراب منه. عنجهية زادت من حجم إحدى أشنع الممارسات التي بُلي بها عدد من مؤسسات الدولة ذات الوزن الثقيل والخفيف على السواء، على سبيل المثال لا الحصر، وهي القضية الأشد ألماً على العمود الفقري لمنظومة الكفايات التخطيطية والتنفيذية والتقويمية، ألا وهي قضية الممارسات الإدارية "المحوكمة إجرائياً" من أجل تمرير عملية "إسناد الأمر إلى غير أهله". ولا يختلف اثنان في أنها الشعرة التي يخشى منها قلب ظهر المجن على أولئك.

ولما تمثل إجراء "التقاعد القائم على طلب الموظف" كأحد الحلول الذي ارتأت الدولة أن من شأنه تخفيف الأعباء، مع ما زاد الطين بلة، بقصد أو بغير قصد، وهو تأخير الترقيات المستحقة للموظفين، تكشف لنا المؤشرات الواقعية، الرسمية وغير الرسمية في وسائل التواصل المختلفة، تزايد أفواج، وأقول أفواج وليس أعداد، المتقاعدين من الشباب "المهجّرين" نتيجة لسوء الممارسة! ، ممن يحملون من الخبرة والمستويات التعليمية ما ينبغي معه أن يتم الالتفات إليهم وإعادة تشكيلهم وتبنيهم كمشاريع خبراء في عدد من التخصصات التي لها الريادة في الأوساط الإقليمية والدولية.

ولإجراء الربط اللازم لما تقدم، فإنَّ القول الذي لا غبار يكسيه، أن هناك عدداً من الشباب ممن زُج بهم إلى براثن التقاعد المُبكر مقارنة بأعمارهم كنتيجة لما يمارس ضدهم من تعسف من بعض المتنفذين، الذين دأبوا "كدأب آل فرعون والذين من قبلهم" على اقتناء ذلك الصنف "الممسوخ" من المرؤوسين. ولا شك أنّ ذلك ليس من شأنه أن يعظّم المساحة اللازمة لإعمال الفكر وفتح البوابات نحو مستقبل أكثر انصهارا مع الكفايات العالمية للتقدم في كل المجالات والتي تفرض خطواتها التقدمية بسرعة هائلة. ونأمل بصدق، من ذلك النوع من المتنفذين أن يسعفهم ذكاؤهم سريعاً إلى خلع ثوب البيروقراطية، وارتداء لباس المهنية والتشاركية، مع ما يمر به هذا البلد الطيب من ظروف وصروف، ولعل الدرس كان أصعب من أن يعي أولئك مقتضياته التي ما قل ما نادى بها قائد هذه النهضة المباركة، بل واتخذ ما اتخذه - حفظه الله - من إجراءات.

إن عملية صناعة الخبراء العابرين للحدود تمثل استراتيجية محورية تعمل على بنائها وتنفيذها معظم دول العالم لمواطنيها المؤهلين لذلك، ولا يجب بأي حال من الأحوال أن يترك حبل البعير على غاربه، إذ كيف يتم طي صفحة العطاء على شباب يمتلكون من الخبرات التراكمية الممتدة عبر مرحلة هي من أكبر مراحل الانتقال والتجديد في مفاصل العمل المؤسسي للدولة والذي شهدته حقبة التسعينيات وصدر الألفية التي جاءت في عقبها، تلك الخبرات التي يجب أن تعظّم قيمتها وتقطف ثمارها من خلال برامج وطنية وخطط تبادلية وتفاهمية يتم الدفع بها وتبنيها مع الدول والمنظمات المختلفة. ولست أبالغ في القول بأن تدخلاً سريعاً يجب أن يظهر على الساحة في هذا الشأن، وأن الأوان قد آن لفتح ما يلزم من ملفات عمل لرصد تلك الفئة من الشباب من قبل الجهات الرسمية السيادية وعلى رأسها مجلس الوزراء، وأن على مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والبرلمانية أن تقف على "الحياد" وأن تضع السياسات اللازمة التي ترسم ملامح هذا الملف، وليست الجامعات والمؤسسات الأهلية بمنأى عن هذا المطلب. ولا شك أن إزالة العقبات يجب أن يمثل البداية الحقيقية لهذه الرؤية.

تعليق عبر الفيس بوك