الخالق والخلق الديمومي

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا (12)



محمد بن رضا اللواتي - مسقط

 
استعرضنا في الحلقة الفائتة أزمة حدوث العالم وقدمه، فبحسب "المدرسة الكلامية"، لا بد لهذا العالم من زمن لم يكن فيه، حتى يكون الموجد متصفا بالخالقية، فبقدم العالم، لا يكون مخلوقا، فلا يكون له خالق، وهذا مخالف لصريح خطابات القرآن. وبحسب مجموعة من "الفلاسفة"، لا يمكن تصور أن تكون صفة "الخالقية" معطلة في زمن ما، فالساحة الإلهية لا تتلكأ عن ديمومة الإفاضة، ذلك لأن "واجب الوجود واجب للوجود من جميع الجهات"
إنبرى "صدرالدين"، الذي – وبحسب الجابري – فجر "ثورة تجديدية صححت وابتكرت وقلبت الكثير من المفاهيم"(1)، ليقدم حلا لهذه المعضلة الفلسفية عبر اكتشافه للحركة الجوهرية، وهذا الاكتشاف الذي يتسق مع إصرار خطابات القرآن على مخلوقية العالم، دون أن يُكلفه في سبيل ذلك التضحية بالقواعد العقلية الرصينة التي مر ذكرها، من قبيل :"إذا وجدت العلة التامة فإن معلولها حتمي الوجود"، و"توارد حالات على وجوب الوجود مُحال".
فكيف تسنى له ذلك؟
الخطوة الأولى في هذ المسيرة كانت عبر نقل ظاهرة "الحركة" إلى صميم "الوجود"، وبالتالي فالبحث فيها يجب أن يتسم بذات السمات التي يتسم بها البحث في الوجود.
وبعبارة أخرى: كما أن التحقيق في الوجود يجب أن تُستخدم فيه الأدوات العقلية الصارمة المتمثلة في أسس التفكير البديهية، كذلك ينبغي أن يتم التحقيق في "الحركة" بذات الأدوات.
لن تسعفنا تحقيقات المختبر في الحركة، ولن يكون بإمكان التجربة أن تحل كل شفراتها الغامضة، بل لا بد من اللجوء إلى منطق التحليل العقلي الصارم.
العجيب أن هذه الهرولة نحو تأصيل التفكير العقلي في أشد الظواهر لصوقا بالطبيعة، سنجد بعد قرون هرولة "عمانوئيل كانط" بإتجاه معاكس تماما، إتجاه مغادرة ساحة الأحكام العقلية الأولى إلى ساحة الفيزياء، فلقد نصبها قاضيا على الفلسفة، ما عد ذلك الباحثون بأنه كان بمثابة حُكمٌ عليها "بالموت"، وذلك – بحسبهم – كان السر في عجزه في حل أزمات الفلسفة والفيزياء معا(3).
والخطوة الثانية في هذه المسيرة الفلسفية هي أرجاع سبب الحركات الظاهرية والتي تعصف بمتن العالم إلى حركة في عمق العالم وكيانه.
ليس فحسب حركة أشفار العين، وخلايا الدماغ، وهبوب الرياح، وسقوط أوراق الأشجار، وزمجرة الأمواج، وهزيم الرعد، وقصف العواصف، وتأجج ألسنة اللهب، وتطاير شظايا المذنبات، أو أحجار البراكين الحارقة، وغيرها من أشكال الحركات التي تمرح فوق سطح هذا العالم، فهذه "الأعراض" ليست فحسب مما تستهدفها الحركة وتجتاحها، وإنما تنفذ الحركة في عمق هذا العالم، أي في "جواهره" ذلك، لأن حركة السطح - الأعراض - دون حركة العمق – الجوهر-  مستحيلة فلسفيا، إذ أن سطح العالم مستند على على عمقه، واهتزاز السطح مع ثبات العمق محال عقلا.
قدم "الشيرازي" في حكمته المتعالية عدة براهين محكمة على "الحركة الجوهرية"، نذكر للقارئ واحدا منها:
لو أشرنا لكل جسم – سواء أكان مما تدركه حواسنا من متن هذا العالم أم كان في عمقه الذي نتوصل إلى وجوده بالبرهان العقلي - بحرف "ج"، ونحن نعرف سلفا أن ما من جسم مادي إلا وهو زماني، ورمزنا إلى ذلك بحرف "ز"، ثم أنه من الواضحات أن كل زماني فهو متحرك وكان الترميز إلى هذه الحقيقية بحرف "ح"، لنتج عن ذلك هذه النتيجة:
أ‌-    "ج" يساوي "ز" لأن كل جسم مادي فهو زماني
ب‌-    "ز" يساوي "ح" لأن الزمان حركة وسيلان مستمر.
النتيجة: بما أن "ز" يساوي "ح"، فإذن "ج" أيضا يساوي "ح" فكل جسم مادي متحرك.
وهكذا ببثبوت زمانية العمق – الجواهر - ثبتت حركته، وأضحت حركة السطح فرع لحركة العمق، وهو المطلوب .
وبسريان الحركة في عمق العالم، لن يعود العالم مكانا للثبات على الاطلاق، بل سيغدو مجمعا هائلا لحركة لا قرار ولا نهاية لها.
وبعبارة دقيقة: العالم ما فتئ يجول في الحدوث والفناء بشكل مستمر لا توقف له. فإذا كان جولانه في الحدوث بلا توقف، فحاجته إلى المحدث والموجد والخالق كذلك بلا توقف، لاستحالة أن يضفي فاقد الشيء على ذاته أمرا لم يكن يمتلكه.
يقول "مطهري" موضحا: "الحادث بعد أن يوجد، يكون في حاجة مستمرة إلى العلة، لأنه في كل آن يوجد، وفي كل آن وجوده الأول غير وجوده الثاني، فالعلة دائما في حالة إفاضة، والحركة تبرهن على إستمرار الاحتياج، فبقاء الشيء إيجاد مستمر له(4)".
الخطوة الثالثة والحاسمة في هذا الموضوع، تلك التي خطاها الفيلسوف للكشف عن صلة "الحركة" "بموضوعها"، فهل هي "طارئة" و "عارضة" على المتحرك، بحيث من الممكن فرض وجوده بلا حركة، أم أن الحركة والمتحرك "أمر واحد" و "هوية واحدة" لا فاصلة بينه وبين حركته بتاتا؟
حل لغز "قدم العالم أم حدوثه" يكمن في الاجابة عن هذا السؤال.
ففي الوقت الذي افترض الإرث الفلسفي منذ "أرسطو" أن صلة الحركة بموضوعها "عارضة عليه"، أي أن الموجد أوجد الشيء ثم أوجد حركته وربطه بها، سلك "الشيرازي" طريقا مغايرا تماما ليُعلن بأن الحركة ليست عارضة على المتحرك، بل هي هويته الجوهرية وقوامه الوجودي.
ليس صحيحا ذلك التصور الذي يرى بأن المتحرك يوجد أولا بلا حركة، ثم وبقدرة قادر يتحرك، وإنما الصحيح هو أن العالم بنيانه الحركة. لقد وُجد العالم بإيجاد واحد وليس بإيجاد توليفي، فلقد وُجد سيالا، وهذه حقيقته. حقيقة العالم لا تعدو أن تكون أكثر من كيان سيال، ليس بثابت ولا قار إطلاقا.
أي أن الله لم يجعل المتحرك متحركا، وإنما أوجده متحركا(5).
بموجب هذه الرؤية التي تُعد ابتكارا خالصا للحكمة المتعالية (6) :
أولا: ليس صحيحا أن نبحث عن موضوع الحركة، فنسأل: من المتحرك؟ لأن الحركة ليست عارضة طارئة على الحركة، بل المتحرك والحركة أمر واحد، كائن واحد، هوية واحدة بتمام ما تحمله كلمة "واحدة" من معنى(7).
وثانيا: ما عاد السؤال الشهير حول كيفية ارتباط هوية العالم الذي هو جوهر سيال ومتزحلق يتحول ويتغير في كل آن، بعلة ثابتة، سؤال لا يمكن الاجابة عنه.
"فبحسب الحركة الجوهرية لا توجد في الطبيعة كينونة وإنما صيرورة مستمرة متتالية(8)"، فالعالم وجود غير قار، وجود سيال متعلق فقرا بعلته الموجدة له. فهو من جهة ارتباطه بعلته موجود بنحو ديمومي لاستحالة وجود العلة التامة وغياب المعلول.
ومع أنه موجود بصفة دائمة، إلا أنه يحدث في كل آن. وفي هذه الحالة فإن معنى كونه "موجود بصفة دائمة" سيكون: "يحدث ويتواجد بصفة دائمة"، وبما أن كل قطعة منه تحدث، فمجموعه حادث، فالعالم حادث ولم يزل في حدوث.
"عبدالرسول عبوديت" له عبارة جميلة توضح ذلك، يقول: "لا وجود في عالم الأجسام لشيء يبقى في آنين" ، ثم يسترسل شارحا: "ومن جهة أخرى، فإن هذا الحدوث المستمر للأشياء أزلي، ولا مبدأ خاصا كان نقطة شروع في إحداث الله للأشياء، فالخِلقة أزلية، وكلما أوغلنا في الماضي نجد الله في حالة إحداث للأشياء، وبعبارة أخرى: العالم سلسلة من الحوادث، وفي هذه السلسلة لا نصل إلى حادث أول، بل قبل كل حادث ثمة حادث آخر وهكذا، أي في عين كون العالم وكل ما فيه حادثا، لا ينقطع الفيض، وهذا الرأي هو ما قام عليه الدليل العقلي وما ينسجم مع النصوص الدينية(9)".
خلصنا إلى أن : "السؤال عن زمن حدوث العالم بلا معنى، فالعالم منذ أية بداية نفترضها في حالة حدوث وصيرورة، ووفق مبدأ إستمرار الفيض كان العالم موجودا منذ الأزل وكان حادثا متغيرا منذ أن كان. إنه يوجد ويفنى في كل لحظة. لا معنى للثبات في الطبيعة(10)".
وإذا غلب على ظن البعض بأن النظرية المارة تستميت في الجمع بين أمرين متناقضين يستحيل اجتماعهما، وهما "الأزلية" و "الحدوث"، فإننا سنتفق معهم على أن إستخدام "الأزلية" من قبل بعض المحققين في وصف الحوادث التي لا أول لها غير سديد فعلا، ذلك، لأن الذي يوجد ويحدث ويسيل باستمرار دون قرار لا يمكن فرض أزليته من أية جهة إفترضنا، لأن كل سيال ومتحرك فهو في كل لحظة جديد وحادث، فالقول بقدمه مُحال بالمرة، يؤكد ذلك "وهبه" في معجمه، فبعد أن أورد المعنى اللغوي للأزلي "وهو ما لا يمكن تقدير بداية له" ذكر معناه إصطلاحا فقال: "استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، وهو ما لا يكون مسبوقا بعدم، ولا يحتاج في قوامه إلى غيره، فالموجود الذي لا علة له دائم أبدا "، ومن الواضح أن " لا يكون مسبوقا بعدم" في تعريف "الأزلي" لا ينطبق على "الحادث" لأنه كل قطعة منه زمانية، وكل زماني فهو مسبوق بعدمه، والنتيجة هي أن "الأزلي" لا يحدث بتاتا، والعالم يحدث بصفة مستمرة: "فالحادث الزماني الذي يسبقه العدم يمتنع وقوعه في الأزل(11)"
"ينتقد الملا صدرا قول المشائين (جماعة من الفلاسفة يُعد "أرسطو" على رأسهم وفي سلسلتهم ينتمي الرئيس "ابن سينا" كذلك) بأن الخلق غير زماني والعالم قديم مساوق لبارئه في الوجود وإن اعتمد على هذا الباري كعلة له في وجوده، كما ينكر ما ذهب إليه بعض المتكلمين من أن الخلق من العدم المحض تم في زمن، ومن ثم فالعالم حادث... ويقول في مقابل ذلك كله بالحدوث الزماني، وأن الخلق يتم في الزمان بصفة مستمرة من خلال الحركة الجوهرية، فيتجدد وجود الكون في كل لحظة، "بل هم في لبس من خلق جديد" (سورة ق الآية 15)، والجديد إنما يعتمد في ظهوره على السابق عليه، أي أن الكائن يقوم على أنقاض الفاسد في نفس اللحظة(12)".   
بهذا، حصل السؤال حول: هل العالم حادث أم قديم؟، حصل على جوابه المتمثل في أن العالم يحدث بشكل دائمي، وهو في هذا الطور وتلك الحالة من السيلان المستمر، فالخالق ما امتنع عن الإيجاد لحظة، والعالم ما امتنع عن قبول الايجاد لحظة، وهذا الدوران لا بداية له لارتباطه بما ورائه الذي لا بداية له، فوصفه بالقديم غير صحيح، كما أن وصفه بالحادث في زمان كان يخلو منه، غي صحيح كذلك.
لم يحل إكتشاف الحركة الجوهرية موضوع قدم العالم وحدوثه فحسب، واضعا بذلك نهاية لصراع مرير بين مدرستين فكريتين كبيرتين في المحيط الاسلامي هما المدرسة الكلامية والمدرسة الفلسفية أولا، وواضعا نهاية لمعضلة ظلت عالقة منذ زمن موغل من التفكير الفلسفي حول العالم، وإنما تجاوزه ثانيا، إلى حل مجموعة من المعضلات الفلسفية الأخرى، من قبيل صلة المادي بالمجرد والروح بالجسد.(13)
إن تأملاتنا الفلسفية هذه قد انتهت إلى أن صفة الخالقية في مقام وجوب الوجود متحققة بنحو أبدي ديمومي، ما كانت معطلة أبدا وفرض ذلك غير ممكن بتاتا: "هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى" (24 الحشر).  
........................
المصادر:
1)    أنظر مقدمة الدكتور صلاح الجابري على "أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي الى مركزية الفكر الوجودي" للمؤلف كمال عبد الكريم الشلبي، ص8، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، دمشق، 2008.
2)    حيدر، محمود: الميتافيزيقيا المثلومة. ضمن: مجلة الاستغراب. العدد 9 بعنوان "إيمانويل كانط" ما له وما عليه. ص7.
3)    الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج7ص290. بالطبع لا يسمح حجم المقال بتقديم شرح واف للبرهان المشار إليه، ولكن يمكن العودة إلى المصادر المختلفة المشار إليها في هذه التأملات لأجل الاطلاع على الشروح المفصلة.
4)    مطهري، مرتضى: بحوث معمقة في شرح المنظومة. ج2ص130. ترجمة: عمار أبو رغيف.
5)    الديناني، غلام حسين الابراهيمي: القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الاسلامية ج2ص112.
6)    المسلم، صادق: إبداعات صدر الدين الشيرازي الفلسفية : النفس نموذجا، ص68.
7)    الكراني، مظاهر شهراني: إبداعات العلامة الطباطبائي الفلسفية في الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي ص569
8)    بروجردي، مصطفى: نظرية الحركة العامة في الفلسفة الاسلامية والغربية. ضمن : الملا صدرا والفلسفة العالمية المعاصرة ص285.
9)    عبوديت، عبدالرسول: النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية ج2ص202. تعريب: علي الموسوي. مراجعة: الدكتور خنجر حمية.
10)    المصدر السابق ج2ص202.
11)    بروجردي، مصطفى: نظرية الحركة العامة في الفلسفة الاسلامية والغربية ص287
           ضمن: الملا صدر والفلسفة العالمية المعاصرة. مصدر سابق.
12)    وهبة، مراد: المعجم الفلسفي ص48.
13)    دغيم، سميح: موسوعة مصطلحات صدر الدين الشيرازي ص63
14)    الشافعي، حسن محمود عبد اللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند ملا صدرا في
          سياق الفكر الاسلامي، ص296، مصدر سابق.
15)    الصدر، محمد باقر: فلسفتنا: ص204

 

 

تعليق عبر الفيس بوك