مرداد العارف بالله


مجدولين الجرماني


كيف يمكنك الاتحاد بفكرة الله ؟ أو كيف تجعل أناك تتغلب على أناك؟  دون التمزق بينهما وضياع اتجاهات الطريق الواحد . كيف بالإمكان التوحد مع أناك الإلهية؟ والتخفف من عبء المتاهة التي نحياها، ونتوالد بها،  ونتجدد ونعود للحرب والدموية بأنانا.
 كيف ترتحل للنور الأعظم  لتجد نفسك في ذات الإله مستقرا مستكينا من كل هذه الرحلات؟
أم ترى.. ماذا نحتاج لينفتح قلبنا على الكل في أنا وأنا في الكل؟
 وهل رنين الذهب يطرب توحش الأنا ويذيقها التلذذ بدم  بعضها؟ أتخيل كيف يمكن لإنسان كيف ينهش ذاته وهو لايشعر بمأساته مع ذاته ولا يدرك توحده بها في أتون هذا العالم؟
 كيف تحابي الروح لتفصل بين قماطها والمقموط؟
ما من محبة مستطاعة إلا محبة الذات وما من ذات حقة إلا ذات الله التي هي الوجود بكامله لذلك كان الله محبة صافية يحب ذاته..

** مرداد للكاتب ميخائيل نعيمة
هو كتاب روحي،  أقرب للصوفية، حيث يدور بقصة الفلك التي يستقر بها عدد من العباد للرب،  وأيضا بها شمادم الرئيس الذي هو يعتبر المتصرف الاقتصادي بأرزاق العالم، من خلال الهيمنة الدينية التي هي بالنهاية ظل لسلطة الأقوى.
هو عبارة عن حوارية بين هؤلاء الرهبان وشخصية مرداد الخادم البسيط الدائم الصمت، الخادم للجميع ومناوراته مع شمادم رئيس الفلك ومن خلال هذه الحوارية يتضح لنا فكر الكاتب عن الروح الإنسانية وأساسيتها وطريق انتمائها للنور الأعظم.
بحيث يخبرنا بذلك فيقول الكاتب  (الإنسان إله ما يزال في القمط والأنا هي القمط والطفل المقمط بها معا فعندما يقول الإنسان أنا يشطر الكلمة إلى شطرين أحدهما القمط المقمط بها وثانيهما ذات الله التي لا تموت)
فمن كان في وسعه أن يخلق،  كان في وسعه أن يمحو ما خلق. هو غير منفصل الإنسان عن الله، أيها الرهبان وغير منفصل عن إخوانه الناس، ولا عن أي مخلوق من المخلوقات المنبثقة من الكلمة. وما أنتم سوى مقاطع في كلمة الله ذات المقطع الواحد فلا حياة لكم إلا منها.
كما نرى الآراء الفلسفية والتعمق بفكرة الوجود والكون، وهذا يدلنا على اتجاه الكاتب الفلسفي الروحي،  بحيث يذكرنا بنظرية نيتشه البقاء للأقوى حيث يحدثنا الكاتب (الضعيف عبء للضعيف كما يحمل الجبل الحصباء والبحر الساقية لذلك فتشو عن الضعفاء فمن ضعفهم قوتكم)
والإنسان يمتد إلى اللانهاية، لأن جذوره في الأزلية والأبدية، فبين الماضي والحاضر مسافات العقل الثرثار لنصل إلى الوعي الأسمى.
ونعود لنقرأ للكاتب معانٍ كثيرة تتصل بالنفس البشرية وتساؤلاتها....!!
ترى هل شمادم رئيس الفلك هو العين الناظرة لنا على مر العصور على العالم المادي؟  أم هي مفتاح حكاية إنسان؟
ومرداد هل هو النبي المنتظر؟ كما في كل الأساطير مثل ملحمة جلجامش البابلية، أو ككل حكايات الشرق، أو المهدي المنتظر . وكأننا نسير بدائرة هذه الحضارات كلها بفكر الكاتب ووعيه وقولبتها بلمسة منه لكن بالنهاية النتيجة واحدة.
فكتاب مرداد هو للتواقين إلى التغلب؛ بحيث دائما الخلافات حول الطاولة من وضع قوانين الكون الاولى؟؟
أهو أبو الآباء نوح أم الرفيق الأول سام؟
ونعود لفلسفة الكاتب الخاصة بحيث يقول: (العين حاجبة للحقيقة، والشفاه خاتمة للحقائق)، فكم نحتاج لعين البصيرة لهتك الحجب مفتاح الانعتاق هي: (الكلمة المبدعة)؛ فالأنا التي تتعاظم في داخلنا كم نحن علينا طردها بعيدا ، فمن استطاع أن يسلح باستطاعته نزع السلاح. فالأنا هي الخالق والمخلوق معا.
ثم يصف الكاتب العالم الذي ننتمي إليه بقوله: (العالم الذي انا به من مهد إلى لحد و لحد ينقلب إلى مهد) كأنه يخبرنا بنظرية التقمص، بطريقة فلسفية كما الحضارة الفرعونية،  وبوذا وكريشنا في حضارة الهند،  ويبين لنا بانه عالم متناقضات ما نحيا به وإنعكاسات لا تنتهي، سلم يشهر الحرب، وحرب تطلب السلم،  بسمات تعوم ببحر الدموع ودموع تشع بالبسمات (إنه لعالم في حالة مخاض والقابلة بجانبه الموت).
فكيف للعالم أن يعرف التوازن ما دامت الأنا فيه مختلة التوازن؟
وهنا يعرض لنا الكاتب على لسان مرداد الثالوث الأقدس والتوازن الكامل (الضمير الأولي فالكلمة فروح الفهم) هذا ثالوث الوجود.
فأنتم الطوفان،  وأنتم السفينة، وأنتم الربان،  أما الطوفان فشهواتكم، وأما السفينة فجسدكم،  وأما الربان فإيمانكم وهذه كلها تتخللها إرادتكم.
وهكذا نرى بأن مرداد ترك كتابًا خاصًّا بالإنسانية، ككل الأديان أو الأساطير أو الحكايات في الشرق، وهذا يدل على اختلاط الثقافات وتنوعها وتعدد نكهاتها،  لكن بالنهاية كلها في مصب واحد ومنبع واحد لمن يمتلك عين الحكمة البصيرة.
أخيرًا.....   وحسب رؤيتي أراد ميخائيل نعيمة أن يقول:
مرداد ....هو العارف بالله، أو المتحد معه، والذي نستطيع تسميته بالحكيم المتأله، فالنور يستطيع معرفة النور والوعي الإلهي من خلال تفعيل الروح فينا فتستطيع التناغم مع جوهر الوجود الإلهي  الكلي،  كما في النظرة الصوفية للحلاج.... في قوله (روحه روحي وروحي روحه إن يشا شئت وإن شئت يشا، فإذا ابصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا، ما في البردة غير الله).
أي الوعي الأناني الحسي المحدود يصبح متناغما مع الوعي  الروحي اللامحدود،  ومن عرف نفسه أي روحه هنا فقد عرف ربه، فعندما تأتي معرفة الذات يذهب وَهْمُ الكائنات المنفصلة والأشياء المتفرقة، ويحل محله وعي الوحدانية، فمعرفة الذات هي المعرفة الوحيدة التي تملك قيمة أبدية باقية ودائمة، فهي تؤهلنا لتجاوز حدود الزمان والمكان ولننغمس في غبطة الروح ..............................................
استيضاح: كتاب مرداد للكاتب اللبناني الأصل ميخائيل نعيمة، الطبعة الأولى للكتاب عام ١٩٧٥ ميلادي، طبع في مؤسسة نوفل، صورة الغلاف هي للكاتب ميخائيل نعيمة في بيسكنتا

 

تعليق عبر الفيس بوك