مجموعة "مزامير يوميّة" لـعبّاس داخل حسن

التمرد على القواعد في خضم فداحة اليوميّ

محمد حيّاوي – روائي وناقد عراقي

 

تتمحور نصوص "مزامير يوميّة" حول انعكاس الذات في المرآة وفداحة مواجهة السؤال والحقائق اليوميّة، تلك الحقائق الصغيرة التي تكوّن في المحصلة "أنا" الكاتب والقارئ أو أية "أنا" توضع عنوة أمام مرآتها. النصوص تقترح، او تحرّض على مثل تلك المواجهة كنوع من الصدمة اللازمة لتحدي الرتابة والانفعالات الناجمة عن الوحدة، وهو حفر عميق في الذات البشرية ومكتوبة بلغة صافية وزاخر بالصور والتفصيلات الدقيقة، على الرغم من قصرها.

النصوص تندرج في خانة الكتابة غير المجنّسة، إذ تنفتح على الخارج بطريقة ساحرة، وأحيانًا تجسد الكلمات في بعضها، موسيقى الطبيعة الحميمة على خلفية متناغمة توحي بثبات الزمان وديمومة اليوميّ ومحاولة الإنسان العابثة لتغيير مجرى ذلك الزمان.
وفي المحصلة فأن هذه النصوص الاستثنائيّة تجتهد في سبرها لأعماق الإنسان، وتحاول اجتراح فلسفتهما الخاصّة.
ومنذ الوهلة الأولى في نص "مزمور 1" يطالعنا مفتتح محرّض لطرح الأسئلة ومناجاة الذات "كيف تحملت كل هذا؟" أو "كيف تحملت الأسئلة المدببة ومشقّة الصمت؟" أو "كيف اعتدت الرحيل صوب البحار المتجمدة؟"، لكن مع اللوم الموصول هنا "تاركًا أخوتك الكهنة يحتضنون الفرات ويكابدون جمع القرابين".
لكن الكاتب سرعان ما يرتدّ إلى الداخل، داخل الذات المتأمّلة والباحثة عن الأجوبة، إذ يناجي الكاتب نفسه بما يشبه المرثية موضحًا في "المزمور 2" "أنا معتادٌ على الظلام وطلقِ المخاضات في الأماكنِ الغريبةِ والأرصفة المترعة بالنفايات البشرية والمحطات الغادرة الموحشة التي تحتضنُ المجانين والمشردين عند المساء". وعلى الرغم من ذلك فأن صور البهجة، تلك القابعة في الجانب الآخر من الحياة، تملي على الكاتب الاستسلام لسحرها، كما في "المزمور 3"، إذ يقول: "النساء اللاتي خلقن من عسل وكرستال بعيون زرقاء صافية عميقة تستطيع أن ترى تجلياتِكَ عبرها بوضوح دونَ غبش".
إن تلك المتوالية الصورية التي يحاول الكاتب تدوينها بإخلاص في نصوصه القصيرة الباحثة عن هويّتها توصله في النهاية إلى الوصايا، ليس على طريقة الحكمة العرفانية، بل على طريقة استفزاز المفاهيم الجامدة أو الجاهزة التي اعتاد العقل على تخثرها الروتيني بسبب تراكم اليوميّ الممل "لكن تذكَّر.. العصفور يغني كلَّ يوم للجميع دون تملق أو مصلحة من دون كلل أو ملل. الوردة للأمير والعاشق والفقير وعابر السبيل والقبر والعروس التي تشيع عطرها لجميع المخلوقات. والنجمة، على الرغم من مظهرها الخادع، تلمع في عيون المخلوقات الحقيرة وعيونِ البحارة ومنْ أشتدّ بهم السهاد وعابري الصحراء اللامتناهية الأسرار.
وفي المحصلة يقترح الكاتب على قارئه أن "كُن عصفوراً أو وردة أو نجمة أو ضوء نهار أو ضوء شمعة في هزيع الليل أو أغنية تتدثَّر بها روحك العارية من برد الغربة والوحدة.
إن مفهوم الغربة يتجلى، لدى الكاتب، في ذلك العوز الروحي، أو التمزق بين الذكريات ـ الماضي ـ الوطن المهجور ـ والمنفى ـ البديل ـ الكريم ـ لكن الخالي من الروح أيضًا، كدليل على هذا التمزق نقرأ "بعثرهم المجهول والحروب وأكلهم الحصار بضراوة وأثقلتهم حكمة الشيخوخة المبكرة والوهم الرحيم فتناثروا في أصقاع الأرض، بعد أن رمموا أجنحتهم وركبوا الريح آملين اصطياد لحظة فرح ـ خادعة ـ كلما اقتربوا منها هربت إلى حيث لا مستقرٌّ.
قد تخلوا نصوص "مزامير يوميّة" من الحكايا التي اعتدنا عليها في بقية النصوص، وهو نقص متعمد فرضه انفتاح تلك النصوص على غياهب السرد الوهمي أو المقترح، لكنّنا، على الرغم من ذلك، لن نعدم وجودها تمامًا، فثمة حكايا متناثرة هنا أو هناك، مخبأة في طيات المسرودات اليوميّة، كما هو الأمر في نصّ "نون" على سبيل المثال:
"- ها قد وصلتُم نهايةَ المغامرة.
أشار المهرّبُ إلى الوادي العميق المعتم المكتظّ بأشجار الصنوبر والجوز.
- انزلوا من هنا ستكونون بأمان خارج الحدود.
حين سألناه بصوت الجوقة:
- أين نحن  الآن؟
قهقه بصوت مرتفع قائلًا:
- ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر سبعة أقدام تحت سطح القمر.
نزلنا بخطى متسارعة يسحبنا انحدار الوادي السحيق وبدا القمر يبتعد في جوف السماء كلما نزلنا للأسفل تاركين خلفنا المهرَّبَ الذي اختفى بسرعة ليعاود اللعبةَ مع مجموعة أُخرى".
إن تلك الحكايا المتناثرة على قلّتها، تتماهى بين الخارجي ـ محنة اللاجئين وفرارهم من أوطانهم المحترقة، والداخلي حيث العوز الجسدي الذي يفرضه روتين اليوميّ، كما في نصّ "تحت سقف واحد" فنقرأ "وكلَّما ذهبا الى مخدعهما، يستلقيان بهدوء، هي تفكِّر بزوجها الذي اختفى في حرب الخليج الثانية وهو يفكِّر بحبيبتِه التي تزوَّجتْ مديرها  في العمل. هي ترى صورة زوجها  في سقف الغرفة وهو يرى صورة حبيبته في السقف نفسه. هكذا عاشَ الجميع تحت سقف واحد".
بعض النصوص لا يخلو من الترميز، لكنّه ترميز مباشر أدّى إلى فصل نصّ "ثورة الكلاب" عن بقية النصوص المتأمّلة والباحثة عن المعنى في النفس البشرية وما يحيط بها من تحديات نفسية، وعلى سبيل المثال يخرج المقطع "اقترح الشيخ ان تستعين الحكومة بدول الجوار وتجلب مزيد من القطط وتحقق التكافؤ في معركتها الوطنية مع هذه الفلول النجسة من القوارض والحد من طيشها وغلوائها". يخرج بنا إلى المباشر ـ الخارجي ـ السياسي ـ غير المبرر بلغته أو مفرداته التداولية كـ" تستعين الحكومة" أو "دول الجوار" أو "معركتها الوطنية" وغيرها من التعابير التقريرية الأخرى. ولحسن الحظ فأنّ الكاتب يعود من جديد إلى أجواء المناجاة الداخلية العميقة، كما في نصّ "آلهة الشمس" حيث الإحالات التاريخية ومحاولة استقراءها "وأسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على مدينتي جرسو المقدّسة  ـ التي ـ أصبح أطفالها في بؤس شديد ـ بعد أن ـ استقر "الغازي" في الضريح الأفخم وجاء بالملكة المعظمة من معبدها". وتأكيدًا على عودة النصوص لوظيفتها الأصلية في هذه المجموعة، يقترح علينا نصّ "المرآة" تلك الصورة الموغلة في مواجهة الذات الأنثوية المفزوعة من الزمان "كلّما واجهتْ المرآة في الصباح ترتعد فرائصها من خيوط التجاعيد الرقيقة المشؤومة في محيط وجنتيها".
عدا ذلك، تتوفر النصوص غير المجنّسة الموغلة في دمج الصور الشعرية مع صور الرصد اليوميّ، على ومضات تأمّلية مكتفية بذاتها من دون زوائد أو ترهلات، كما في نصّ "سفر الأحلام" فنقرأ "استيقظت ذات صباح فرحًا فسارعت لإغلاق النوافذ لئلا يهرب الحلم"، أو "لم يبق سوى الدود هنيئا للديناصورات المتحجرة" أو "اسبقني أيُّها النمل قبل أنْ يسحقك جند الاحتلال" أو "ريح عاتية محمّلة بأطنان من الرمل أخفت بيتَ النبي وطار الهدهد من حطام السفينة ولم يعد" أو "حينما كفّ البدو عن الترحال انقطعَ نسل ُالزهور البريِّة وذوت نجمة سهيل وانتشر العاقول".
في نصوص (قلق وأثر ومشاعر صدئة وعدوى وجوع وضحك أشبه بالبكاء والطابور وديوان المظالم) يجد القارئ ثمّة اقتراب من ملامح القصة القصيرة جدًّا التي، لو رُسخت أكثر، لاقتربت من هذا التجنيس الآسر وانفصلت عن بقية النصوص المفتوحة التي اعتمدت، أو حاولت أن تعتمد، اللغة الشعرية المستعارة من موضوعاتها نفسها، كما بدا واضحًا في نصّ "موت مؤجل" المستوحى من حياة وموت الشاعر "عقيل علي" الذي يقترب كثيرًا من لغة الشعر ومفرداته الرقيقة، لكن بالتأكيد أنّ هذا التنوع قد فرضته طبيعة المجموعة التي سعت لكسر القياسات السرديّة وطبيعتها في مغامرة لا تخلو من عواقب، لكنّها أيضًا نجحت من جانب آخر في تجسيد عوالمها المبتسرة أو الوامضة التي تخلف في الغالب، ذكريات وآثارًا مهدهدة في ذاكرة القارئ، وهذه هي السمة الرئيسة للنصوص غير المجنّسة، لأنّها ليست متمردة تمامًا على القواعد، لكنّها تشاكسها من حين لآخر.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك