أهمية الغباء في البحث العلمي


تقديم وترجمة: أ. د. أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم


أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج – جمهورية مصر العربية
وأنا أتصفح أحد المواقع العلمية، جذبني عنوان مقال في "مجلة علوم الخلية" للدكتور مارتن أ. شوارتز بعنوان "أهمية الغباء في البحث العلمي"، وقد استوقفني العنوان وأثار فضولي لما يحمله من تناقض لا يخلو من رؤية معرفية/ابستمولوجية عميقة من الضروري للباحثين والطلبة عموما أن يدركوها جيدا، لما يحمله من دروس مفيدة لكل من الأساتذة والباحثين والمتعلمين.
تناول دكتور مارتن أ. شوارتز ، من قسم علم الأحياء الدقيقة بجامعة فرجينيا ، أهمية الغباء أثناء إجراء الأبحاث العلمية، وكيف أن طلاب العلوم الرائعين جدا، والناجحين في المدارس الثانوية والكليات، يفشلون بشكل فاضح في برامج الدراسات العليا. لأنهم اعتادوا على الحفظ واختيار الإجابات الصحيحة، لكنهم عندما يأتون إلى طرح أسئلة بحثية وحل مشكلات جديدة، فإنهم يشعرون بالغباء ويستسلمون.
يحكي د. مارتن شوارتز أنه التقى بصديقة لم يرها منذ سنوات عديدة، كانت زميلته في مرحلة الدكتوراه، قبل أن تترك دراسة الدكتوراه لتلتحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، وتعمل بعدها محامية بارزة في إحدي المنظمات الكبرى. أثناء الحوار سألها عن سبب تركها لبرنامج الدكتوراه. ففاجأته بقولها: "كان ذلك بسبب شعوري بالغباء"! كانت فكرة د د. شوارتز عنها أنها واحدة من ألمع الطلبة الذين عرفهم، وهي كذلك بالفعل. لكن ما قالته فاجأه. وظل يفكر في عبارتها طويلا، فهو أيضا يخالجه الشعور نفسه. الفرق فقط أنه اعتاد ذلك.
يرى د. شوارتز أن شعور المرء بالغباء ليس بالضرورة أمرًا سيئًا - وهو يصفه بأنه "غباء مثمر أو منتج" .  لكننا للأسف لا نقوم بعمل جيد بما يكفي لتعليم طلابنا كيف يكونون أغبياء منتجين - فإذا لم نشعر بالغباء فهذا يعني أننا لا نحاول فعلاً. " إن "الغباء المثمر" هو أن تكون جاهلاً باختيارك. هذا النوع من الغباء هو حقيقة وجودية ملازمة لجهودنا وتدفعنا إلى مواصلة البحث نحو المجهول". وأننا  "كلما أصبحنا أكثر راحة مع كوننا أغبياء، كلما تعمقنا أكثر في المجهول، وكان من الأرجح أن نقوم باختراقات معرفية كبيرة".
إن الاختبارات التمهيدية في الدراسات العليا التي تعد الطالب لكي يكون باحثا تقوم على فكرة صائبة وهي الضغط على الطالب إلى أن يبدأ في الوصول إلى إجابات خاطئة أو يستسلم ويقول: "لا أعرف"!  إن الهدف من الاختبار ليس معرفة ما إذا كان الطالب يعرف جميع الإجابات الصحيحة أم لا، بل الهدف هو تحديد نقاط ضعف الطالب، من ناحية، لمعرفة أين يحتاج إلى استثمار المزيد من الجهد، ومن ناحية أخرى، لمعرفة ما إذا كانت معرفة الطالب تتوقف عند مستوى كفاءة عالٍ بدرجة كافية تسمح لهم بالقيام بمشروع بحثي.
خارج قاعات الدرس، هناك العديد من المشكلات الاجتماعية "الكبيرة" متعددة الأبعاد، والتي تبدو مستعصية على الحل، والتي تتقاطع عبر تخصصات عديدة. هذه المشكلات تستلزم حلولا قد تبدو بعيدة أو شاقة ، وقد تتطلب العديد من الخطوات. وللأسف، غالباً ما يتخلى الطلاب عن إثارة الاكتشاف لأنهم يعتقدون أنهم غير قادرين على معالجة مثل هذه المشكلات بنجاح.
هذا الأمر مؤسف. مهما كانت اهتمامات الطلاب، يجب أن يجدوا مكانًا للدراسة يساعد على الاعتراف "بغبائهم المثمر" واستخدامه كقاعدة للاندماج في استكشاف المشكلات وحلها. يجب أن تجمع دراستهم بين أفضل نُهُج المنطق التنبؤي، المتجزر في المنهج العلمي، وبين منطق تكميلي يبدأ بالعمل ويتخلله التفكير والتعلم والمزيد من التجريب. هذه المنهجية ليست فقط لأصحاب الأعمال المبادرين، بل لكل شخص يريد خلق قيمة اقتصادية واجتماعية في الحياة.
يجب أن يلعب التعلم التفاعلي دوراً أكبر في التعليم. إن الطلاب بحاجة إلى مجموعة من الأدوات والأفكار ليتمكنوا من النجاح في بيئة تتغير  فيها الافتراضات والمعرفة بوتيرة سريعة، وكما يقترح الدكتور شوارتز، "يجب تشجيعهم على شق طريقهم إلى المجهول".
قدم سكوت كوك، المؤسس المشارك لشركة Intuit ، حالة قوية للتعلم القائم على العمل في مقالة نشرتها مجلة هارفارد بزنس ريفيو، أشار فيها إلى أنه في عالم من عدم اليقين الشديد، يكون العمل هو الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها إيجاد الدليل الذي يسمح للمنهجية العلمية بالعمل. ووفقًا لما ذكره كوك، فإن المنظمات الحديثة اليوم تتطلب منا أن نستكشف جهلنا ونعترف بفرص التجريب والتعليقات من العملاء.
يجب تشجيع الطلاب على الإقرار بما لا يعرفونه وأن يكون التعلم القائم على العمل بمثابة الدافع لرحلتهم نحو التعلم. وسواء في المدارس أو أماكن العمل، نحن بحاجة إلى الاحتفاء بالغباء المثمر وبالأشخاص الذين يشعرون بالفضول تجاه جهلهم، والذين يقومون باستخدام العمل أساسًا للتعلم، مع توفير فرص للطلاب للاندماج في التعلم العميق الذي يمكن أن يخلق اختراقات معرفية حقيقية.

 

تعليق عبر الفيس بوك